وَسَرْدُ وقائعِ وأجواءِ هذا اللقاءِ ، مُنْجَزٌ لدى شريف رزق ، فيمَا يُسَمِّيه : ” مَجرَّة النِّهايَات ” ، ” قَصِيد ” ؛ فهو قصيدَةٌ واحدةٌ لا تكُفُّ عنْ التَّنامِي ، حتَّى تكادَ تأخذُ شَكْْلَ المجرَّةِ ، وَعَادةً مَا يخْشَى ذَوو الحَسَاسِيةِ الخاصَّةِ اللقاءَ بعوالمِ النَّفسِ وكوامِنِهَا وَجَحِيمِهَا ؛ لأنَّه سيدورُ بينَ شِقَّيْ : المَوْتِ والجنونِ ، لكِنَّ الشَّاعرَ هُنَا يَجْرُؤُ ، وَيفعَلُ ، وَهُو يُهدي قصيدَهُ إلى نفسِهِ ” إليَّ ” ؛ إلى عُزلتِهِ الَّتي ارْتضَاهَا كَمَا ارْتَضَاهَا الفِرْجَارُ، يدورُ حَوْلَ مُحِيطِهِ ، وَلكنَّهَا في الحَقيقةِ القَدريَّةِ ، تجعلُهُ كالنُّقطةِ المَرْكزيَّةِ في وسطِ الدَّائرَةِ .
ويستدعِي الشَّاعرُ حافظَ الشِّيرازيَّ ، في البدايَةِ ؛ مُتَّحدًا بصَوْتِهِ ، وَيُمَارسُ الخِطَابُ الشِّعريُّ تنقُّلَهُ بحُرِّيَّةٍ بينَ الضَّمائرِ ؛ فيبدأُ بـ (الأنا) ، ثمَّ ينتقلُ إلى الـ (أنت) ، ثمَّ إلى الـ (أنتم) ، على هَذَا النَّحو :
–
وَارْتضيتُ عُزْلَتي
كَمَا ارْتضَاهَا الفِرِجَارُ
يدورُ حولَ مُحيطِهِ
ولكنَّ القَدَرَ جَعَلَني ، في النِّهايةِ ، كالنُّقطةِ
في وَسَطِ الدَّائرةْ .
حَافِظ الشِّيرازي (1)
– ” تَنْهَضُ بَاكِيًا
تَحْتَ مَجْزرَةِ السَّمَاءِ
لَقَدْ كَانَت الرِّحلةُ حُلْمًا
وَهَاهِيَ الطُّرُقاتُ التي ظَلْتَ تَعْبُرُ
قَدْ تَشَظَّتْ
كَحُزْمَةٍ مِنْ نَيَازِكَ
في ضُلوعِكَ …” (2)
– ” اِبْدَءوا بِي
مِنْ هُنَا
بِي ، بِانْفِجَارِي
بِالانْهِيارِ الَّذي يتعثَّرُ في سَرْدِهِ على أنْقَاضِهِ
بِي ، مِنْ هُنَا
مِنْ جِنَازَة ٍ، تَسْتَنِدُ على عِظَامِي شَارِدَةْ …” (3)
لقدْ تَشَظَّتْ الطُّرقاتُ ؛ كحُزْمَةٍ منْ النَّيازكِ بينَ ضلوعِهِ ، وَهُو يطلُبُ مِمنْ يتقصُّونَ أثرَهُ أنْ يبدءوا بِهِ ؛ منْ مَوْتِ حميمٍ وخَاصِّ ، يرمِي بظلالِهِ على حركةِ المجرَّةِ بأسْرِهَا ، أمَّا هُو فسيمشِي على نظراتِهِ البعيدَةِ حتَّى نهايتِهِ المحتومَةِ ؛ بَلْ إنَّ قدرَهُ سوفَ يتبعُهُ ، عَابرُا تلكَ المجرَّةَ الهَائلةَ / المَدينَةَ العَابرَةَ وَالفَضَاءَ المُنْهَارَ؛ سَاكبًا أحشاءَهُ على المشْهَدِ العَاتي ، مُسْتدرجًا العَاصِفَاتِ ، مُسْتنطِقًا الجَمْهَرَاتِ ، رَائحتُهُ تدلُّ على انفجَارَاتِهِ ، وَألواحُهُ ثعابينُ الرَّمادِ .
هذِهِ الاسْتِعَارَاتُ الاستحواذيَّةُ هيَ الآليَّةُ الأسَاسِيَّةُ في النَّصِّ ، تضربُ بجذورِهَا في التُّراثِ المُتنوِّعِ ، وتمتدُّ بفروعِهَا إلى النِّهايَاتِ ، تَسْتدرِجُ التَّناصَاتِ التُّراثيَّةَ المُتعدِّدةَ ، وتُعِيدُ توظيفَهَا في إنتاجِ حَالةٍ إنسانيَّةٍ وَشِعريَّةٍ خَاصَّةٍ ، كَمَا تستخدِمُ المُطْلَقات في التَّعبيرِ عنْ النِّسبيِّ ؛ فالذَّاتُ الشَّاعرَةُ – بمنطِقِ الفِرْجَارِ– قدْ غَدَتْ مَرْكزًا لكَوْنٍ في رَاحَةِ اليدِ .
وَهَكَذا تدخلُ إلى النَّصِّ – في العناوين الفَرْعيَّةِ خَاصَّةً – استدعاءاتٌ ، وتناصَّاتٌ :
– ” خُذْهَا وَلا تَخَفْ ” .
– ” وَلا تقصُصْ رُؤيَاكَ على أحَد ” .
– ” هُوَ ذَا فِرَاق “.
– ” ألَمْ أقُلْ لكَ إنَّكَ لنْ تَسْتَطيعَ مَعِيَ صَبْرًا ” .
– ” سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ ” .
وَهِيَ اسْتِدعَاءَاتٌ تُشكِّلُ بينَ الشَّخصيَّاتِ الأسَاسيَّةِ ، في القَصِيدِ ، وَبينَ الشَّاعرِ وَذَاتِهِ ، عَلاقََاتٍ مُلْهمَةً ؛ مُعَانقةً وَمُفارقَةً ، في الوَقْتِ نفسِهِ ، وَتُمثِّلُ تناصَاتٍ بالانتحَالِ وَالإحالةِ وَالإيحَاءِ منْ سِياقٍ سَرديٍّ ماضٍ وكامنٍ في الذَّاكرةِ ، إلى سِياقٍ سَرديٍّ آخر حَاضِرٍ وَمُتجلٍّ في الحَيَاةِ .
وَمِنْ الصَّعبِ الدّخول إلى عَالم شريف رزق ، في ” مَجَرَّة النِّهايَات ” ، من غيرِ المَدْخَلِ الطَّبيعيِّ له ، في نصِّهِ ” حَيَوات مَفْقُودة ” ، وَتحديدًا في قولِهِ :
” عَشِقْتُ شريف حتَّى تخيَّلتُهُ أنَا
وَأنَّني مَحْضُ رَاءٍ لي
مَحْضُ وَعْي بشَريف
وَهَاهُوَ شَريف
مُنزويًا بِجوَارِ النَّافذةِ ، جَالسُ
هُو الَّذي لا تأخُذُهُ سِنَةٌ
حَتَّى أمْسَى أنيسَ الظَّلامِ
وَالمِصْبَاحِ الَّذي ينزفُ روحَهُ في الخَلاءِ
وَبَابِ المَدْرَسَةِ المُغَلَّقِ على الظَّلامِ
وَهَوَاءِ النِّهَايَاتِ وَكَلْبٍ لا يكُفُّ عَنْ العُوَاءِ
تََحْتَ النَّافذةِ
وَحِيْدًا .” (4)
ثمَّ يلي هَذا النَّصَّ ، نَصٌّ مُعارضٌ ؛ في شَكْلِ سطورٍ شِعريَّةٍ كامِلَةٍ ، يضُمُّهُ مُسْتطِيلٌ مُغْلَقٌ ، على هَذا النَّحوِ (5) :
|
وَفي صَفحَةٍ 54 ، مِنْ ” حَيَوَات مَفْقُودَة ” ، كَذلكَ ، يقولُ :
” قَررَّتُ أنْ أدَوِّنَ نَصًّا في أسطورَةٍ الذَّاتِ الَّتي لا تَنْتَهِي
وَأنْ أُسَمِّيَ شُخوصَهُ جَمِيعًا بـ شَريف
هَؤلاءِ الَّذين يَعِيشونَ لِي وَحْدِي
وَلَهُمْ جَمِيعًا بَعْثَرْتُ نفسِي
وَآخِرُ مَا يجبُ أنْ يشغلَنِي في الكِتَابَةِ
هُوَ التَّجنيسُ النِّهائِيُّ لِلنَّصِّ .” (6)
هُوَ يُريدُ أنْ يعيشَ النَّصَّ ؛ كالحَيَاةِ ، كَمَا يقولُ :
حُرًّا حُرًّا .
وَنَعثرُ ، على تصويرٍ شديدِ الدَّلالةِ ، في الصَّفحَةِ 38 ، على :
” أنَا المَسْرَحُ الحَيُّ ، الَّذي تَتَعَاقبُ عليْهِ أدْوَارُ مُمثِّلينَ مُتنوِّعينَ ،
يُشَخِّصُونَ أعْمَالاً درَاميَّةً ، شَاسِعةَ التَّنوُّعِ . ” (7)
وَفي صَفْحَةِ 32 ، نَعْثرُ على :
|
هَكَذا يُقدِّمُ لنَا شريف رزق ، في حَيَواتِهِ المَفقودَةِ أصْلَ افتقادِ الحَيَاةِ ، وعلى مَسْرَحِهِ الحَيِّ ؛ المُعَادِلَ الشِّعريَّ لمَوْتِ الحَيَاةِ ، تشتعِلُ الشُّخوصُ وتنطفِئُ مَعَ كلِّ نصٍّ يتمُّ تدوينُهُ في أسْطورَةِ الذَّاتِ الَّتي لا تَنْتَهِي .
وَتخْتَزَلُ الشَّخصِيَّاتُ الشَّاسِعةُ التَّنوُّعِ ، إلى ضَمَائرِ الأنَا وَالأنْتَ وَالنَّحن وَالهُمْ وَالهُوَ وَالهِي ، كَمَا تُخْتَزَلُ الأدوارُ وَالدِّرَامَا المَفقودَةُ إلى مَوْتٍ يتردَّدُ ، وَجُثَّةٍ تغوصُ وتطفو ، في مَوْتِهَا المَعْنَويِّ ، وَفكرَةُ التَّغريبِ هذِهِ ، بمَا هِيَ فكرَةٌ أسَاسِيَّةٌ في نظريَةِ الأدبِ ، تعني نَزْعَ الألفَةِ المُعْتَادَةِ ، عَنْ الأشياءِ ، وَعَن العلاقاتِ المُتعارفِ عليْهَا ، فيْمَا بينهَا ؛ بتقديمِهَا في سِيَاقاتٍ مُخَالفَةٍ للسِّياقاتِ المُعتادِ عليْهَا في الحَيَاةِ ، وَبجَعْلِهَا مُدْرِكَةً بكيفيَّةٍ مُغايرَةٍ ؛ مِمَّا يُعِيدُ إلينا وَعْيَنَا وَإدرَاكَنَا بحقيقَةِ هذِهِ الأشيَاءِ وَالعِلاقاتِ ، وَبكُنْهِ مَا يكمُنُ وَرَاءَهَا .
فكرَةُ التَّغريبِ هذِهِ ، وتحطِيم المَنطِقيَّةِ وَالألفَةِ ، مَاثلةٌ في كافَّةِ نصوصِ القَصِيدِ ؛ فحُضُورُ العَالمِ ؛ بشكلِهِ الإشكاليِّ الغَرَائبيِّ لا يحِلُّ إلاَّ شعرًا خالِصًا :
” صَحَوْتُ ، على شُعورٍ مُتزَايدٍ ، بأنَّني مُحَاصَرٌ بالقَتَلَةِ المُتَحَلِّقِينَ ، فَتَحْتُ عينيَّ على رُعْبٍ ثقيْلٍ ، وَلمْ أجدْ أحَدًا ؛ وَلكنَّنِي ظَلَلْتُ على ثقَةٍ ، منْ أنَّهُمْ يملئونَ الهَوَاءِ ، تَمَاسَكْتُ ، كَمَا في كلِّ مرَّةٍ ، وَظَلَلْتُ ، حتَّى غَفَوْتُ .” (8)
وَشريف رزق الَّذي قالَ في مُكَابداتِهِ الأولى :
” سَأُعلِّقُ على جدارِ البيتِ جُثَّتِي الأخِيْرَةَ
وَأجْلِسُ عاريًا في العَرَاءِ
هَـ ـ ـ ـ ـكَذَا .” (9)
هُو الَّذي يستمِعُ ، في ” مَجرَّةِ النِّهايَاتِ ” ، إلى الصَّوتِ الشِّعريِّ ؛ ينبثِقُ منْ بين ضلوعِهِ :
” فِيْمَ تُفكِّرُ ؟ ، أعْضَاؤكَ احْتَرَقَتْ ، وَإطْرَاقتُكَ المُسْتديمَةُ ، تَسْتدرِجُ المَوْتَى ، إلى هبوبِكِ ، مَاذا يَحْمِلُ أصْحَابكَ المَوْتَى إليْك ؟، خَفِّضْ منْ صَوْتِكَ ، حِيْنَ تلتقِي بِالمَوْتَى الأخِلاَّءِ ، تمَهَّلْ .
لا تَذْرَعْ الحُجْرَةَ في عُواءٍ
اكتمِلْ في انشِطَاركَ .” (10)
وَهُو نفسُه الَّذي سَبَقَ له الاسْتنجَاد بـ رامبو وسَان جون بيرس وهنري ميشو وفرناندو بيسوَّا وكافكا وجُوته وأحشائِهِ ، وبكلِّ الدَّارجينَ في الحَضَارةِ الإنسانيَّةِ ، العَاجزةِ عنْ منحِهِ الخَلاصَ وَالحُريَّةَ ؛ طالبًا منهم الرَّحمَةَ ، بإزاءِ جُثَّتِهِ المُحْتَمَلَةَ ، صَارخًا :
” أبدًا لنْ تَمُوتَ مَرَّةً أخْرَى ” (11)
غيرَ أنَّ الشِّعرَ ، حقًّا ، هُو مَا يُميتُ صَاحبَهُ ، وَكُلُّ مَا يملكُهُ هُوَ :
” على رَبْوَةٍ مَهْجُورَةٍ
سَأبتنِي لِي قبْرًا
قبْرًا على قَدْ قُرْفُصَائِي
وَأثقُبُ في صَدْرِهِ كُوَّةً
لأُطِلَّ منْهَا
وَتَتَسَرَّب رَائِحَتِي إلى المَدَاخِلِ .” (12)
هَذا العَالمُ المُتحضِّرُ ؛ المُؤسَّسُ على تزييفِ المَنْطِقِ ، وَطَمْسِ الأسئلةِ ؛ حتَّى لا يُجِيبُ عليْهَا سِوى الغَفْوةِ ، أوْ الغَفْلةِ ، أو الارْتقاءِ في مَرَاتبِ الجُنونِ .
وَهَاهُو يُناجِي – بصِيْغَةِ الـ نحنُ ؛ أيْ وَقدْ توحَّدنا أخيرًا – ضميرَ الـ هِيَ ، الأخيرَةَ ، في نهايَةِ : مَجَرَّةِ النِّهايَاتِ ، وَالـ هِيَ الأخيرَةُ هذه ، قد تكونُ الحُريَّة ، أوْ الجَمَال وَالحَقّ وَالخَير ، وَقَدْ تكونُ ذَاته الشَّاعرة الَّتي ينبثِقُ عنْهَا فَضَاءُ الحُبِّ :
” الهَوَاءُ خِبْرَتُنَا الأخِيْرَة ُ
سِيْرَتُنَا إلى نِهَايَاتِ البَيَاضِ
نُطَوِّحُ أرْجُلَنَا وَنَجِيءُ
، بِلا أرْوقَةٍ نَمْتَطِيْهَا
، وَلا أقْمِصَةٍ أوْ رِتُوشٍ
، بِلا وَهَنٍ على هَدْمٍ ، وَأحْشَاؤنَا إلى الخَارِجِ
أجْسَادُنَا تَرْشَحُ بِالجَنَازَاتِ
، ولا نَبْتَغِي شَيْئًا …
………………..
الأسْئِلَةُ الَّتي حَرَّقَتْنَا سَحَقْنَاهَا بِالنِّعَالِ
، وَابْتَرَدْنَا على المَدَاخِلِ
؛ على المَدَاخِلِ الَّتي لمْ تَتَّسعْ لِسِوَانَا
، وَلَمْ نَنْتَظِرْ أحَدَا …
………………..
عَبَرْنَا على بَقَايَا كَلامٍ
، وَشَوَاظٍ أنْكَرَتْنَا
؛ فَازْدَرَدْنَا غَمَامًا وَأبْخِرَةً
، وَارْتَحَلْنَا وَاجِمِيْنْ …
………………..
الرَّائِحَةُ الَّتي بَزَغَتْ عَلَّقَتْنَا في الهَوَاءْ
؛ في الهَوَاءِ الَّذي لمْ يَنْفَتِحْ لِسِوَانَا
، وَغَادَرَتْنَا خُلْسَةً …
……………. ” (13)
وَنلحَظُ أنَّ النَّصَّ يجنحُ ، في هَذا الجُزءِ ، إلى الكلامِ بالماضِي ، ليسَ فقطْ تعبيرًا عنْ وُصولِ الـ نحن إلى نهايَةِ المَجَرَّةِ ؛ بمَا يعنِي خروج الأمَّة منْ التَّاريخِ ، بعدَ إسْهَامِهَا الحَضَاريِّ الهائِلِ، في مَسِيرَةِ الإنسَانيَّةِ ، وَلكنْ أيضًا لأنَّ النَّصَّ يتناولُ أبعَادَ الانهيارِ الَّذي اعْترَانَا ؛ فنحنُ لمْ نكسبْ منْ الحَيَاةِ الحَافلةِ إلا خبرَةَ الهَوَاءِ ؛ الَّتي سيَّرتْنَا إلى نهايَاتِ البيَاضِ الَّذي لا يرحَمُ ، وَنحنُ مَوْتَى بلا طموحٍ ، لا نطلُبُ شيئًا ، ولا ننتظِرُ أحَدًا ، ونحنُ قدْ عَبَرْنَا على بقايَا كلامٍ ، وَلمْ نُكمِلْهُ ، وَعَجَزْنَا عَنْ استيعابِ الآخرينَ ، وَتمزَّقنا بهِمْ ؛ بكلِّ الضَّمائرِ تمزَّقْنا ، الأسْئلةُ الَّتي حَرَّقتْنا سَحقنَاهَا بالنِّعالِ ، عيونُنَا في أقفيتِنَا كانَتْ ، وَحَتَّى الحَضَارةُ البَازغَةُ علَّقتْنَا في الهَوَاءِ ، أو على السَّلالمِ ؛ فلا رَآنَا مَنْ هُمْ فوقَ وَلا مَنْ هُمْ تَحْت .
ثمَّ تتصَاعَدُ المُنَاجَاةُ للـ هِيَ ، ونلحَظُ هنَا جنوحَ الشَّاعرِ إلى التَّقفيَّةِ في هذِهِ المُناجَاةِ ؛ بعدَ اعْتِمادِهِ ، على مَدَارِ النَّصِّ ، في تشكِيلاتِهِ الإيقاعيَّةِ ، على تكوينِ الجُمَلِِ القصِيرَةِ وَالطَّويلةِ ، وَعِلاقاتِ الكلمَاتِ وَالجُمَلِ ، وَإيحَاءَاتِ المَعَانِي ، وَتشكِيلِ الصُّورَةِ ، والتِّكرَارَاتِ :
” عَرفْنَاكِ مِنَ البَرْقِ وَالعَبِيْرِ
، عَرفْنَا رَائِحَةَ انْبِلاجِكِ في الأثيْرِ
، وَالصَّبَاحَاتِ الَّتي تَتَدَحْرَجُ مِنْ كُمُونِكِ
، في مَسَاءَاتٍ تُدَحْرِجُ على أعْضَائِنَا الدَّياجِيْرِ
، أنْتِ كَلِيْمَةٌ الصَّمْتِ وَالغُبَارِ
، وَخَبِيْئَةُ الانْفِجَارِ
هُبُوبُكِ هُبُوبُ الصَّاهِلاتِ على خُطَانَا
، وَلا نَعْلَمُ كَيْفَ الوصُولُ إلى رِحَابِكِ
أدْرِكِيْنَا مَرَّةً
وَارْفَعِيْنَا إلى ثُرَيَّاتِ الجُنُونْ … ” (14)
لعَلَّ الشَّاعرَ أرَادَ الثَّورَةَ بالانفجَارِ ؛ فيكون قَدْ صَاغَ في النَّصِّ ، إرَادةَ الهَدمِ وَإرَادةَ البنَاءِ ، وَهَكَذا تكتمِلُ الدِّرامَا الإنسَانيَّةُ ؛ دِرَامَا الفِكرَةِ ؛ فعلى مُسْتَوى الفَرْدِ ليسَ سِوىَ الغيريَّةِ وَالتَّمزُّقِ :
” اكْتَمِلْ في انْشِطَارِكَ ” (15)
وعلى المُسْتَوَى الجَمعِيِّ ، ليسَ سِوىَ توقُّفِ العَقلِ العَرَبيِّ عنْ النِّموِّ ، أمَّا هِيَ ؛ الحُلْمُ الَّذي هُو بمَثابَةِ مُضَاجَعَةِ أنثَى الشَّيطانِ ، فقدْ بَزَغَتْ فجْأةً وَغَادَرَتْ خُلْسَةً .
على مُسْتَوَى الفَرْد ؛ الَّذي يُمثِّلُهُ شريف ؛ المُتعدِّدُ بذاتِهِ الشَّاعرَةِ ، وَالمُتحدِّد بنظرتِهِ الحَائرَةِ وَرَاءَ نظَّارتِهِ ، بإطرَاقتِهِ المُسْتدِيمَةِ ، بتسمُّعِهِ الغِيَابَ طيلَةَ الطَّريقِ إلى كُليَّةِ التَّربيةِ ، بجلسَتِهِ السَّاهيةِ على حافَّةِ السّريرِ ، وَازْدرَادِهِ الفَنَاءَ على مَهَلٍ ، وبتردُّدِهِ بينَ المكتبَةِ وَالكنبَةِ إلى جِوَارِ النَّافذةِ عاقدًا ذراعيْهِ على صَدْرِهِ ، مُواجَهًا بذاتِهِ الشَّاعرَةِ / مُؤلِّفِهِ الافتراضِيِّ :
“عَاقِدًا ذِرَاعَيْكَ عَلى صَدْرِكَ ، هَكَذَا ، كَمَا أنْتَ ، سَأَقْبِضُ رُوحَكَ الآنَ ، انْتَهَى الوَقْتُ الأَخِيْرْ . ” (16)
يتوقَّفُ أمامَ جُثَّتِهِ ، وَحْدَهُ ، يتأمَّلُهَا ، وَهُو يعِي تمامًا أنَّه لمْ يعُدْ فيْهَا ، وَمَا عادَ شيءٌ منْ عوالمِهِ بهَا ، ولكنَّه يُحاولُ جاهدًا أنْ يُمْسِكَ بمشهدِهَا الأخيْرِ :
” كُنْتُ أقِفُ عَلى جُثَّتِي وَحْدِي ، وَأعْلَمُ أنَّهَا لَمْ تَعُدْ حُدُودِي ، وَأعْلَمُ أنَّنِي سَأسْتَغْرِقُ في جُمُودِي هَكَذَا ، مُسْتَجِيْزًا ، وَلَكنَّني لَنْ أسْتَمِعَ إلى شَهِيْقِي في مَدَاهَا ، وَلا إلى عَشْوَائيَّةِ التَّفاصِيْلِ ، مُؤكَّدٌ أنَّهَا لَمْ تَعُدْ تَحْتَوِيني ، وَأنَّهُمْ غَادَرُوهَا جَمِيْعًا ، سَأُغْمِضُ عَيْنَيَّ بِقُوَّةٍ ؛ لِكَيلا تَزولَ، عَلى زَوَالِي ، وَتَتَْركُنِي لافْتِرَاسِي ، هَاهُنَا , مَرَّةً أُخْرَى ، وَحِيْدًا ، سَأُغْمِضُ عَيْنَيَّ بِقُوَّةٍ عَلى جِسْمِهَا وَأعْصُرُهُ ، سَأُغْمِضُ عَيْنَيَّ بِقُوَّةٍ عَلى المَشْهَدِ الأَخِيْرْ .. ” (17)
يخرجُ منْ جُثَّتِهِ ، كَمَا جَاءَهَا ؛ عاريًا وَوَحِيدًا ، مُضَرَّجًا بتضاريسِهَا ، بمجِيءِ المَرْأةِ الأخْرَى ؛ وَهُو لا يُشِيرُ إليْهَا إلاَّ بذلكَ ، ولعلَّها الزَّوجَة أو الحبيبَة ، ولعلَّها الشَّخصِيَّة الواقعيَّة الوَحِيدَة في هذه المَلْحَمَةِ الشِّعريَّةِ السَّرديَّةِ ، رَغْمَ أنَّهَا لا تحمِلُ أيَّ ملمحٍ منْ ملامِحِ الوَاقِعِ :
” هَكَذَا جَاءَتْ المَرْأةُ الأخْرَى
وَفَكَّتْ لِيْ ضُلوعِي
فَجَمَعْتُهَا في جِيوبِي
وَنَثَرْتُهَا في جَحِيمٍ
وَهَكَذَا جِئْتُ
لِلْفَرَاغِ الَّذي لايَنْتَهِي
أُوَزِّعُ رَائِحَتي عَلى الضَّوَاحِي
عَاريًّا مِنْ مَسَاحَيْقِ الغِوَايَةِ .”(18)
وبخروجِهِ منْ جُثَّتِهِ ، تبدأُ علاقَةٌ جديدَةٌ بهَا ، تصِلُ إلى التَّشكِيكِ في صِلتِهِ بهَا ، وَالتَّعرُّفِ عليْهَا :
” – جُثَّتِي ؟
، لَيْسَتْ ذِي جُثَّتِي فِيْمَا أظُنُّ
………………………..
، ………………………؟
……………………….
، ………………………؟ “(19)
وََتَسْقُطُ أسئلةٌ عديدَةٌ ، مَسْحُوقَة بالنِّعالِ ؛ حَتَّى إنَّها لا تَظْهَرُ في النَّصِّ .
وَإذَا كَانَ التَّمثيلُ على مُسْتوَى الفَرْدِ – دَور شَريف – يتَّسِمُ بمَلامِح مُحَدَّدةٍ ؛ باعْتبَارِهِ صَوْتًا فرديًّا وَاحدًا ، فإنَّ التَّمثيلَ على المُسْتَوَى الجَمْعِيِّ يستمدُّ ملامحَه من التَّناصَاتِ المُتعدِّدةِ معَ التُّراثِ ؛ السَّابقِ الإشَارة إليْهَا ، وينتهي التَّمثيلُ على مُسْتوى الفردِ بالمَوْتِ المَعْنوي في جُثَّةٍ مُعلَّقةٍ كمَجَرَّةِ النِّهايَاتِ ، لا يُجِيدُ الشَّاعرُ التَّعرُّفَ عليْهَا ، كأنَّهَا ليسَتْ له أو كأنَّهُ ليسَ منْهَا ؛ برغمِ كونِهَا جُثَّةَ الأمَّةِ بكامِلِهَا ، وَهَكَذا يمتزجُ المُسْتويَانِ ، في جُثَّةٍ مُعَلَّقةٍ ، يكتنفُهَا المَوْتُ أو الجنونُ . في مُسْتطيلٍ مُغلقٍ يرِدُ هذا النَّصُّ (20) :
أُرَجِّحُ أَنَّني لَمْ أَكُنْ وَحْدِي ، هُنَاكَ
وَالأَرْجَحُ ، أنَّني لَمْ أَكُنْ في جُثَّتِي ، في
هَذِهِ الليلة أيضًا
وَالأَرْجَحُ ، أنَّهَا لَمْ تَكُنْ جُثَّتِي
وَحِينَ يمتزجُ المُسْتَويَانِ ، تختلِطُ المَجَرَّةُ وَالعَوَاصِفُ وَالصَّاهِلاتُ بالسّريرِ وَالمكتبةِ وَالكنبةِ في جُثَّةٍ وَاحِدةٍ .
وَفي الجُزءِ المُعنونِ بـ : أنا الَّذي ضَاجعتُ أنْثَى الشَّياطِين ؛ المُنقسِمِ إلى أربعِ وَحَدَاتٍ شِعريَّةٍ ، مُعَنونَةٍ بحروفِ (ش ر ي ف) ، على التَّرتيبِ ؛ لتقومَ بدورِ الأرْقامِ أوْ العَنَاوينِ ، وَنلتقِي في هَذا النَّصِّ بمظاهرِ امْتزَاجِ المَوْتِ بالجُنونِ :
] ش [
رَأْسِي : رَأْسُ نَخْلَةٍ ، تَشْتَعِِلُ في دِمَائِي ، رَأْسِي : شُعْلَةٌ مِنْ جَحِيْمٍ ، رَأْسِي : يَا مَدِينةً شَاغِرَةً تَسْتَقِيءُ السَّمَاءَ ، رَأْسِي : أيُّهَا الخَرَابُ المُبَجَّلُ ، يَا فَارعٌ في فَضَاءِ النِّهَاياتِ ، إلى مَتى سَتَبْقَى هَذِه العَاصِفَةُ الأنِيْقَةُ الَّتي تَتَلظَّى ، في ربوعِكَ ؟ ، إلى مَتى هَذِه المُغَامَرةُ المُسْتَجِيْشَةُ ، وَأنْتَ تَعْلو ، في غُبَارٍ ، كُلُّ قَذِيفةٍ تَبْتَغِيْكَ ، أيُّهَا المُوْصَدُ ، وَأنْتَ تَهْذِي ، كُلَّمَا ارْتَكَبَتْكَ عَاصِفَةٌ تَرُوْمُ ، وَأَنْتَ تَسْتَدْعِي ، ألا تَهْوِي ؟ ، نَظَرْتُكَ – مَرَّةً – تَقْذِفُ عَيْنَيْكَ في عَرَاءٍ ، وَتَمْضِي ، عَلى مَهَلٍ ، هُنَاكَ : تَنَزَّهَتْ العَواصِفُ الَّتي اخْتَرَقتْ فَرَاغَ عَيْنَيْكَ ، في رُبُوعِكَ ، فَبَصَقْتَهَا في جَحِيْمٍ ، يَمْضِي ؛ فَأَسَّسَتَ الصَّواعِقَ ، في الأعَالي . مَاذَا سَيَفْعَلُ جِسْمُكَ الَّذِي يَتَلوَّى – بِدِونِكَ – في الرِّمَالِ ؟ ، وَحَتَّى مَتَى ، سَيَبْقَى ارْتِحَالُكَ ، أيُّهَا الطَّاغِي ؟ ، رَأْسِي : أيُّهَا الخَرَابُ المُحَلِّقُ ، يَا طَالِعٌ في فَضَاءِ الجَنَازَاتِ ، رَأْسِي : أيُّهَا الحَائِمُ ، في الدَّيَاجِيْرِ ، كَأنَّكَ أُرْجُوحَةُ الفَنَاءِ ، رَأْسِي ..
] ر [
الآنَ يُمْكِنُكَ يَا حَبِيْبِي أنْ تَقْرَأَ كُلَّ المَرَاثِي عَلى هَذهِ القِيَامَةِ ، فاَرْفَعْ عَاليًا هَذَا الكِتَابَ ، وَصَوِّحْ ، عَلى رِسْلِكَ أيُّهَا السَّيِّدُ ،وَاسْكُبْ أحْشَاءَكَ عَلى جَمْهَرَاتِ الخَرَائِبِ ، حَتَّى تُصْبِحَ أنْتَ مَأْوَاكَ أنْتَ ، وَاسْحَب الْهَوَاءَ المُتَجَرِّدَ النَّافِقَ ، خَلْفَ مَقْطُورِتكَ المَمْلؤةِ بالكَوَابِيْسِ الَّتي تَعْوِي ، إلى أنْ تَعُودَ الأعَاصِيْرُ إلى رُشْدِهَا ، وَلا تَنَمْ أيُّهَا الحُوْذِيُّ ، في هَذِه الليلَةِ المُبَارَكَةِ ، ازْجَرْ حِصَانَكَ ، الذِي يَسْتَدْرِجُ النَّوْمَ فَيَسْتَدْرِجُهُ ، حَتَّى يَغِيْبَ ، وَقِفْ على هَذِه البُقْعَةِ ، وَاسْتَدْعِ الغَرَائِزَ، الليلةَ ، مِنْ أعْشَاشِهَا ، وَارْقُبْ .. (21)
رَأسُ شَريف رزق تَشْتَعلُ بالعَوَاصِفِ ؛ الَّتي اشْتَعَلتْ بهَا رُءوسُ رُوَّادِ النَّهضَةِ العِظَامِ ؛ أمثَالِ طه حُسَين ؛ فهو يتمتَّعُ مِثلهم بالرُّوحِ النَّقديَّةِ الجَسُورَةِ ، وَبالإيمَانِ بأنَّ الثَّقافَةَ الإنسَانيَّةَ مِلْكٌ للجَمِيعِ ، وَلكنَّهَا يجبُ أنْ تتَّسمَ بالتَّعدُّدٍِ ؛ الَّذي مَصْدَرُهُ تعدُّدُ الرَّوافِدِ وَالتُّرَاثَاتِ ، وَهُولا يَمِيْلُ تمَامًا إلى ثقافَةِ المَرْكزِ الغَرْبيِّ الحَاضِرِ ، وَلا ينقطِعُ تمَامًا إلى تُرَاثِ المَاضِي العَرَبِي ، وَلكنَّ وقودَ اشْتِعَالِهِ يأتِي منْ التَّماهِي بينَ العَالميْنِ ؛ فيرى أنَّ مُسْتَقبلَ الثَّقافَةِ المِصْريَّةِ مَرْهُونٌ بمَدَى اسْتِيعَابهَا للمُنْتَجِ الثَّقافِي العَالمِي ، وَمَدَى إسْهَامِهَا فيْه ؛ لا انقطاعهَا عنْه ؛ طلبًا لنقَاءِ الهويَّةِ ، وَحِينَ يقولُ :
” وَهَكَذَا جِئْتُ
لِلْفَرَاغِ الَّذي لايَنْتَهِي
أُوَزِّعُ رَائِحَتي عَلى الضَّوَاحِي
عَاريًّا مِنْ مَسَاحَيْقِ الغِوَايَةِ ” (22)
فقدْ تعنِي الضَّواحِي هُنَا الأطرَافَ البعِيدَةَ عَنْ العَاصِمَةِ أوْ المَرْكزِ ؛ حَيْثُ كَانَ يجِبُ أنْ يعِيشَ وَيَنَالَ وَضْعِيَّتَهُ الثَّقافيَّةَ الَّتي يَسْتَحِقُّهَا – فهو يعيشُ في مدينَةِ منوف – وَقدْ يعنِي العُريَ مِنْ مَسَاحِيقِ الغِوَايَةِ : الإخْلاص وَالخَلاص للوَجْهِ الحَقِيقِي الأصِيْل ؛ الَّذي يَجْعَلُهُ يَصْرُخُ :
” – جُثَّتِي ؟
، لَيْسَتْ ذِي جُثَّتِي فِيْمَا أظُنُّ . ” (23)
ويعقبُ هذِهِ الصُّرخَةَ مزيدٌ منْ صَرخَاتِ الأسْئلةِ المَسْحُوقةِ ؛ الَّتي لا تظهَرُ على بَيَاضِ الصَّفحَةِ سِوَى آثارِهَا / نِقَاطٍ ، وَفَوَاصِلَ ، وَعَلامَاتِ اسْتِفْهَامٍ .
وَلا يفتَأُ الوَجْهُ الحَقِيقِيُّ يُنَاجِي الآخَريْنَ ؛ الَّذينَ رُبَّمَا كانُوا مَيِّتينَ :
” لِي جُثَّةٌ في أعَالِي الجَحِيْمِ ، احْمِلُونِي إليهَا ،
وَرُدُّوا لِحِضْنِ الجَحِيْمِ الجَحِيْمَ ” (24)
وَلكنَّهَا جُثَّةٌ مُرَاوغِةٌ ، سَتُباغِتُنَا ، وَتُفلِتُ مِنَّا ، بمَا عليْهَا منْ مَسَاحِيقِ الغِوَايَةِ ، هَذِهِ الجُثَّة المَفْتُونَة ، وَنَحْنُ نحمِلُهَا إلى جَحِيمِهَا الأخِيرِ ، سَتفجؤنَا ، وَتَسْألُنَا عنْ بقايَاهَا الخَجُولةِ ! (25)
وَقدْ نَظنُّ أنَّ الصِّفةَ لا تفتحُ آفاقَ الدّلالاتِ وَكَوَامِنَ المَوْصُوفِ ، وَلكنَّهَا تُغلِقُهَا ؛ بمَا تُضْفِيه منْ تحديدٍ لا يُفلتُ مِنْه ، لكنَّ الصِّفةَ هُنَا ، في (بقايَاهَا الخَجولةِ) ، تفتحُ أفقَ المَوصُوفِ إلى مُنْتَهاَهُ ، منْ زاويَةِ المَعْنَى بمَا تُضْفِيْه عليْهِ منْ مُفارقةٍ شِعريَّةٍ دَالةٍ ؛ فالبقايَا تنتمِِي إلى دَائرَةِ المَوْتِ ؛ بمَا هِيَ جُثَّةُ ، فيمَا الخَجَلُ ينتمِي إلى دَائرَةِ الحَيَاةِ ؛ بمَا هُو شُعورٌ ، وَنَلْمَسُ هَذا في أكثر منْ مَوْضِعٍ في فَضَاءٍ القَصِيدِ .
وَالإسْهَابُ في تَصويرِ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ ، وَتمزقَاتِهَا ، لا يأتي اسْتيهامًا لهذِهِ الذَّاتِ ؛ بلْ هِيَ المُتَّكأُ الَّذي يستندُ إليْه الشَّاعرُ ، في اسْتِحْضَارِ العَالمِ ، يتمثَّلُ هَذا في التَّراوحِ ، دَاخِلَ المَقْطَعِ الوَاحِدِ ، بينَ اسْتِخْدَامِ الضَّمائرِ المُتعدِّدةِ ، وَيتمثَّلُ مَعْنويًا في مُرَاوَغةِ الجُثَّةِ المُعلَّقةِ المُتَّشحةِ بمَسَاحِيقِ الغِوايَةِ ، بينَ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ وَالمُجْتَمعِ العَاجزِ الخَامِدِ ؛ الَّذي لا يُؤكِّدُ إلاَّ خُروجَهُ منْ التَّاريخِ ، وَهَكَذا يَتَحَاشَى الشَّاعرُ أنْ تكونَ قصيدتهُ الحَداثيَّةُ مُرادفًا لُغويًّا وَفِطريًّا لأحَاسِيس خَاصَّةٍ وَحَمِيْمَةٍ فَحَسْب .
وَشَريف رزق لا يَنْسَاقُ آليًّا بشِعْرِهِ إلى الغِنَائيَّةِ ؛ مُعتمِدًا على تمتُّعِهِ بحِسٍّ إيقاعيٍّ رَفيعٍ ؛ يُمَكِّنُهُ منْ تقصِّي العِلاقاتِ بينَ الجُمَلِ وَمُفرداتِهَا وَدلالاتِهَا وَصورِهَا المُنْفتِحَةِ إلى مُنْتَهَاهَا ، دُونَ أنْ يُلقِي بالاً إلى التَّجنيسِ ؛ الَّذي سَيُطلَقُ على النَّصِّ ؛ مَادَامَ سيولَدُ حُرًّا ، وَمُفعمًا بالإنسانيَّةِ .
وَيشيعُ في القَصِيدِ اسْتِخدَامُ الفَوَاصِلِ ، وَالنِّقاطِ ، وَطاقاتِ البياضِ ، وَتنوُّعَاتِ أبناطِ الطِّباعَةِ ، وَحتَّى الأشْكال الهَندسِيَّة ؛ فهِيَ بمثابَةِ أدَوَاتِ الرَّاصِدِ للمجَرَّةِ ، وَبدونِهَا تشقُّ الصّورُ الفَرعيَّةُ وَالكُلِّيَّةُ على الرُّؤيَةِ .
الهوامش
(1) شريف رزق – مجرَّة النِّهايات – القاهرة – 1999 – ص : 4 .
(2) السَّابق – ص : 5 .
(3) السَّابق – ص : 6 .
(4) شريف رزق – حيواتٌ مفقودَةٌ – الطَّبعة الأولى – مركز الحضارة العربيَّة – القاهرة –2003 – ص : 52 .
(5) السَّابق – ص : 52 .
(6) السَّابق – ص : 54 .
(7) السَّابق – ص : 38 .
(8) السَّابق – ص : 32 .
(9) السَّابق – ص : 18 .
(10) السَّابق – ص : 21 .
(11) حيواتٌ مفقودَةٌ – سابق – ص : 16 .
(12) السَّابق – ص : 16 .
(13) مجرة النهايات – ص ص : 65 – 69 .
(14) السَّابق – ص : 62 .
(15) السَّابق – ص : 22 .
(16) السَّابق – ص : 61 .
(17) السَّابق – ص ص : 44 – 45 .
(18) السَّابق – ص ص : 48 – 49 .
(19) السَّابق – ص : 49 .
(20) السَّابق – ص : 45 .
(21) السَّابق – ص ص : 55 – 57 .
(22) السَّابق – ص ص : 48 – 49 .
(23) السَّابق – ص : 49 .
(24) السَّابق – ص : 46 .
(25) السَّابق – ص : 47 .