الكَفَنُ

 عبد السلام بوزمور   
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد السلام بوزمور*

   ياعائشةُ، هاتِ الكَفَنَ..هكذا خاطبَ ابنتَه وهو يهُمُّ بإغلاقِ حقيبتِه اليدويةِ الصغيرة، فالرحلةُ لنْ تدومَ طويلا؛ فهو بِصَددِ مرافقةِ زوجته المرحومة إلى الوطن، لتُوارى الثرى هناك بعد أن عاشتْ عمرًا مديدا، شارَكها في أكثرَ منْ ثلثيْه.

    قدْ يعود إلى المهجر بعد بضعة أيامٍ، ليواصلَ حياتَه الجديدةَ القديمةَ ويُفكِّرَ في كيفية تدبير أمورِه، بعد أن صار أرملاً في عمرٍ يُعد فيه المرءُ من سقْط المتاع، ذهَبَ أحسنُه، ولم يفضُلْ منه سوى الضعف و…

   كانت زوجتُه مصدرَ الدِّفءِ الوحيدَ الذي يحْتمي به من برودةِ الحياة في المهجر، برودةٌ في الطقس، وبرودٌ في العاطفة؛ فمِن أين له ذاكَ الدفء الآن، وقد خبَتْ حرارةُ الحياةِ في شريكةِ حياتِه؟  هكذا صار يردِّدُ باستمرار مع نفسه، منذ حصولِ الواقعة.

    أولاده جميعا صاروا رجالاً ونساءً ذوي أُسرٍ مستقلةٍ منشغلين بحياتهم الخاصَّة، ولم يعُدْ يربطهم بهما سوى لحظاتٍ يقتطعونها غصْباً من حياتهم، للقيام بزياراتٍ خاطفةٍ باردةٍ  يقتضيها قانونُ الواجبِ الثقيلُ. أمَّا الأحفادُ، فقد بَلَّدَت مشاعرَهم عواملُ البُعد المادي والمعنوي، ممثلاً في مادية الغرب واختلافِ الأجيال واختلاف الثقافات، بحيث صاروا أقْربَ منَ الأغرابِ منهم إلى الأحباب، لا همْ في العِيرِ ولا هم في النَّفير، تتوزَّعُهم ثَقافَتان مُتضارِبتان: ثقافةٌ شرقيةٌ وأخرى غربية، ثقافةُ البيت وثقافة الشارع  والمدرسة، كلٌّ منهما يشُدُّ الصغيرَ إليه رغبةً في اجتذابه؛ فتَتشَظَّى ذاتُه، وينتهي به الأمر إلي الانفجار، ومِن ثَمَّةَ التَّغرُّب أوِ التَّطرُّف.

    في المقبرة.. وهم يسْحبونها من النَّعش إلى القبر، غشَّى بصرَه بياضُ الكَفنِ الناصعُ، فاستعاد رحلتَهما الأخيرةَ إلى الأراضي المقدَّسة، وكيف خَطرت لهما فكرةُ اشتراءِ كفن لكل منهما، وغسْلِه بماء زمزم زيادةً في التَّبرك والتَّطهر،  واحتفاظِهما بهما إلى حين حلول موعد الرحلة الآخرة، وكيف كانا يتخاصمان حين يدعو أحدُهما أن يكونَ هو السابقَ، فينتهى خصامُهما إلى تصالحٍ ووِفاقٍ حين يدعوانِ اللهَ أن يرحلا معاً؛  ولكنْ، ها هو الآنَ حيٌّ يُرزَق، بينما المشيِّعون يُهيلون عليها الترابَ، في جوٍّ يتداخلُ فيه صوتُ اصطدامِ المَجارفِ بالأرض والترابِ المختلطِ بالأحْجار، بأصواتٍ شَتّى تتْلو سورةَ يس.

 كان يتأمل نهايةَ رحلتِها الطويلة القصيرة، مسترجعاً ما كابَدتْه من عذاباتٍ في أيامها الأخيرة جَراءَ معاناتِها الطويلةِ مع المرضِ الذي ما نفعتْ معه جهودُ الأطباء، ومعاناة الجميع من مرارة العجز، ثم من مُكوثها الطويلِ في مستودَع الأمواتِ الباردِ بالمستشفى إلى حينِ استكمالِ تدابيرِ ترحيلِها إلى الوطن؛ وتنهَّد حامداً اللهَ أنْ أنْعمَ عليها، أخيرا، بهذا الوداعِ الدافئ في حضنِ الوطن، مَحفوفةً بالأهلِ، وتحتَ نورِ القرآن الكريم والدعاءِ  الرحيم.

    غادر المقبرةَ مع بعض الأهل، وفي وسط المدينة، تفرَّقوا، كلٌّ منهم تَعلَّلَ بقضاءِ مصلحةٍ من مصالحه الملحَّة؛ وانتهى به الأمر وحيدا.. ها هي مَلامحُ حياةِ التشرُّد والوحدةِ القاتلة بدأت تلوحُ جَليّةً أمام عيْنيه.. ها أنذا بين أمريْن ألطفُهما علْقم، قال لنفسه: عودة إلى مهجرٍ باردٍ جامدٍ لا روحَ فيه ولا عاطفة، فيه أهلٌ وما هم بأهل، أو بقاءٌ في الوطن. ابتسم ساخرًا من نفسه ومن الحياة وهو يذكر الوطن؛ اختلطت في ذهنه الكلمتان وتساءل: أينَ المهجرُ وأين الوطن؟ قال ذلك وهو ينظرُ الى وجوه الناس الذين يمرُّ بهم ويمرونَ به في الشارع، عشراتُ الوجوه،لا يعرفُ منهم أحدا و لم يتعرَّف عليه أحدٌ، وما أقَرَّ أيٌّ منهم لهُ بالوجود بتحيةٍ يوجِّهُها إليه.   

   عاد إلى البيت بعدَ صلاة العِشاء، مصحوباً بإمامِ المسجدِ وبعضِ حَفظةِ القرآنِ الكريم، لإقامةِ ليلةٍ للتلاوة والذكر والدعاء للفقيدة؛ وحينَ انفَضَّ الجمعُ، وهم على مائدةَ العَشاء، حدَّثتْه عائشةُ عن انشغالِ بالها بصغارها الذين تركتهم هناك مع ابيهم.. نظرَ إليها بعَطفٍ ثم أطْرقَ وقد خامَره، لأوَّل مرةٍ، إحساسٌ بأنه ظلمَ أبناءه باقتلاعِهم من جذورِهم، ثم اتَّكأ على رُكبتَيه وغادرَ إلى غرفته.

  في الصباح، طرقتْ عائشةُ  باب الغرفةِ  لتدعوَه لتناولِ طعامِ الإفطار.. لا جواب .. عجباً، تساءلت، ليس من عادتِه النومُ بعد صلاةِ الصُّبح..  أعادتِ الطرقَ ثم فتحتِ الباب.. كان نائماً وهو يحتضنُ الكَفَن.

………………………..

* قاص من المغرب

 

مقالات من نفس القسم