الكابينة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 32
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شوقي عقل

دق جرس الرحيل ثلاث دقات. وقف فوق سطح السفينة يتأمل رصيف الميناءالمبتعد ببطء. كانت الشمس تغرب في ظلام البحر. فكر متعجبا وهو يتطلع إلى جانب السفينة التركية المليء ببقع الصدأ، وسطحها المغطى بالطحالب البنية الجافة، إن تلك العلبة القديمة تقطع آلاف الكيلومترات في المسافة ما بين الإسكندرية وأزمير مرتين كل شهر!كان سيغادر السفينة في بيروت. دق جرس الرحيل ثلاث دقات. وقف يتأمل رصيف الميناءالمبتعد ببطء. كانت الشمس تغرب في ظلام البحر. مر وهو يتمشى على السطح ببعض الشباب الأجانب جالسين في حلقة صغيرة فوق أكوام من الحبال الجافة، أحدهم يعزف على جيتار ويغني أغنية للبيتلز، يصفقون على إيقاع اللحن. في منتصف الحلقة أخذت فتاة تدور وتتمايل ببطء، ثوبها الكتاني الأخضر الطويل يبين تفاصيل جسدها، الشعر الأسود المجدول في ضفيرة ثقيلة يلف مع حركة رأسها. جلسيراقب الفتاة البيضاء المتمايلة بانتشاء ويداها الشاحبتتن العاريتين مرفوعتين في الهواء. وضع الفكة المعدنية المتبقية معه في العلبة الصغيرة بجانب العازف. فكر إنها قد تكون في العشرين، أكبر منه بعامين. تفرقوا بعد انتهاء الأغنية، مرت الفتاة بجواره ومعها رفيقها العازف النحيل، يضع نظارة بعدسات مستديرة صغيرة وإطار معدني أسود، وجهه الصغير الشاحب يحيط به شعر كث وشعيرات ذقن متناثرة. نظر إليها. قابلت نظرته بعينين فارغتين. وضعت وصديقها حقيبتي ظهريهما أسفل قارب أنقاذ، وقفت تتطلع إلى الغروب بينما جلس رفيقها مسنداظهره إلى جانب القارب. أمسك كاميرته الصغيرة ليصور المشهد، تراجعت قليلا لتفسح له الصورة، تابع بالكاميرا حركتها، انحنت فانحنى معها! ابتسمت ثم أشرق وجهها بالضحك! تلألأت المصابيح في عتمة الليل الذي حل سريعا. انطلقت السفينة بعد خروجها من الميناء.. في طريقه للكابينة التقت أعينهما ثانية، فكر إن حاجبيها لم تمسسهما يد. نظرت إليه متفحصة بفضول. تاه في ممرات السفينة الضيقة وعنابرها المعدنية الصدئة وهو يبحث عن الكابينة. لا يدري كم طابقا نزل، ولكنه وجدها أخيرا. سريرامن طابقين وممر ضيق بجانبه وخزانة معدنية لم تسع حتى حقيبته الصغيرة. رائحة الكابينة كرائحة جوارب رجل لم يخلع حذائه منذ شهور. الكوة الزجاجية الصغيرة معتمة لا تكشف شيئا، الماء خلفها حالك السواد مفزع! فكر إن هذا ما تراه عيني غريق. حينطلب من مسئول الركاب إن يعطيه كابينة تحت الماء أو في مستواه، كان يظن إنه سيقضي وقته يراقب أعماق البحر والأسماك الكبيرة! نظر الرجل إليه وهو يعطيه رقم كابينة في عمق السفينة، ثم خاطب زميله بالتركية فابتسم الأخير. حاول إن يستلقي قليلا ليستريح قبل العشاء. السرير العلوي في الكابينة المكتومة، يهتز ويأز بدون توقف. لم يستطع النوم. ضل طريقه ثانية بين الممرات المعدنية والسلالم الزلقة الضيقة، حتى جاءته رائحة البحر المنعشة فدلته على المخرج. وقف فوق السطح المفتوح يستنشق بعمق الهواء المحمل برائحة الملح. بحث عنها، لم يجدها أسفل القارب. من بعيد لاح ضوء خافت لمصباح ملون مثبت أعلى باب صغير، أصوات غناء وضجة مكتومة تنبعث منه، لافتة صغيرة (بار) معلقة بجانب المصباح، تتأرجح. دخل بحذر إلى الغرفة. هاجمته سحب دخان السجائر وروائح “تمباك” الغليون الثقيلة والكحول النفاذة. جلس على أول مقعد صادفه، سقط عليه تقريبا. على الفور جاءه الجرسون متسائلا عن عمره. أخرج له جواز السفر فنظر إليه ثم أعاده، طلب مشروبا فأشار إلىِ البار. في أحد الأركان رأى الفتاةجالسة بجوار صديقها وهو يعزف على جيتاره غير مبال بالضجة. صاحبته الهيبية تراقب حوارا حادا بين رجال جالسين قربها. وضع البارمان أمامه زجاجة بيرة سوداء لم يطلبها فأنقذه من حرج الاختيار. البيرة مرة وقوية. شغله عن مرارة مذاقها معركة وشيكة الحدوث. فجأة قلبت منضدة ولمعت مدى حادة ذات ظهر مسنن، كسرت زجاجات. دارت معركة قصيرة استخدمت فيها القبضات فقط. ظل رفيقها منحنيا يعزف بدون توقف، الفتاة هادئة تتفرج. أتجه الفائز إليها، وضع أمامها ورقة نقدية.وضعت الورقة في حقيبتها القماش المتدلية من كتفها، وقامت لتذهب مع الرجل. كان قد أنهى زجاجة البيرة السوداء الثقيلة. أجتاحه غضب هائل! خبط سطح المنضدة المعدنية بقبضته. رن الصوت في الهدوء الذي أعقب المعركة. تطلعت العيون إليه بفضول، وقف متحفزا محنيا جسده النحيلينظر إليها! لم يكن يعرف ماذا سيحدث بعد. أمسكت به يدا من قفاه، جرته إلى الباب ودفعت به إلى الخارج بعنف. لمحها بعد قليل واقفة في إطار الباب تنظر إليه وهو ملقي على سطح السفينة المعدني المبتل بماء البحر وقيء السكارى. كانت ذاهبة مع مالكها. انحنت عليه، فاضت عينيها بنظرة حانية، مست بأطراف أصابعها وجهه المبتل. ابتسمت برقة ثم ذهبت. عاد إلى الكابينة مترنحا. غاب فورا في نوم عميق. أستيقظ مبكرا، ظل مستلقيا يتطلع إلى الماء خلف الزجاج.. قرر أن لا يصعد إلى السطح حتى يحل الظلام. الساعة لم تتجاوز السابعة صباحا، إي بعد أثنى عشر ساعة. ماذا عن الطعام؟ وكوب الشاي بالحليب الذي تعود أن يتناوله حتى قبل أن يغسل وجهه؟! قام وارتدى ملابسه، قرر إن يفطر ويتناول شايه ثم يعود ثانية إلى الكابينة،لاشك أنها نائمة الآن. كلها أثنى عشر ساعة وتصل السفينة إلى بيروت. لا يريد إن يراها ولا أن تراه ثانية! لدى خروجه من الباب الضيق إلى السطح، وجدها جالسة بالقرب من عازف الجيتار يتحدثان، وعيناها تتطلعان إليه! هزت رأسها محيية. هز رأسه وأدار وجهه العابس. ذهب إلى مطعم السفينة، أعطوه قطعة جبنة مثلثة، وبيضة مسلوقة وقطعتي خبز صغير وكوب من قهوة سوداء باردة لا طعم لها. لم يسد الطعام جوعه، ذهب إلى الكافتيريا الملاصقة للمطعم وأشترى ثلاث قطع من الكيك المغطى بالشيكولاطة، خرج واتجه مباشرة إلى حيث تجلس. كان زميلها ممددا ورأسه فوق ساقها الممدودة وفي يده كتاب. فتح العلبة وأخذ قطعة وأعطاها القطعتين المتبقيتين وهو صامت. دعته للجلوس، أشارت إلى زميلها: مايكل! هز رأسه. حين انتهوا من تناول الكيك سألته من أين هو؟ أخبرها أنه من القاهرة. قالت إنها ذهبت إليها وإنها مدينة مدهشة! قال زميلها: إنها مدينة غريبة وآسرة ولكن يصعب العيش فيها، إنها ضد الحرية، الشرطة والممنوع في كل مكان! تحدثا قليلا، سأله مايكل فجأة إن كان له رأي سياسي؟ أجاب بالنفي. قال الشاب الهيبي بابتسامة: لا يوجد أحد ليس رأي سياسي، ولكنك لا تعلم! صوت ارتطام مقدمة السفينة بالموج يأتيهم مع ذرات خفيفة من الماء. الهواء ناعم منعش. كلما رفعت رأسها ومالت بها إلى الوراء، تطايرت خصلات من شعرها الأسود المحلول. قال: صباح جميل! نظرت إليه، سألته بعد قليل: هل تقيم في كابينة بمفردك؟ قال: نعم، لا يوجد أحد معي رغم أنها مشتركة. صمتت قليلا ثم قالت ببساطة وهي تنظر إلـي عينيه مباشرة: هل تحب إن أذهب معك إلى كابينتك؟ ابتسمت حين رأت الدهشة في عينيه، قالت برقة: لا تخف، لن آخذ منك نقودا، أريد فقط أن أجعلك سعيدا! لم يدر ماذا يقول، نظر إلى مايكل، كان الأخير يتفحصه. عاد ونظر إليها، قال بصوت جاف: أحب أن تسيري معي فوق السطح، إذا رغبت! قامت فورا قبل أن ينهض. جذبته من يده، سارت بجانبه وهي تحتضن ذراعه إلى صدرها الناعم وتنظر إليه، لم ترفع عينيها عنه. تحدثا في أشياء كثيرة وهما سائران، لم تفلت ذراعه حتى وهما يتجنبان صناديق البضاعة الكبيرة، وأكوام الحبال المصفوفة، والعوارض الحديدية التي كان عليهما أن يقفزا من أعلاها أو يعبرا من أسفلها ضاحكين. سألته عن أسمه؟ قال: علي! قالت ضاحكة: كلاي! وأنتِ؟ هانيا! وقفت وقالت وهي تنظر إليه: ألي! …نعم؟! ضمني! تطلع حوله، كان هناك الكثير من ركاب السطح.. نظر إليها بوجه محمر حائر! ابتسمت بسعادة، اقتربت منه، احتضنته ثم أبعدت جسدها عنه.احتفظت بذراعيها حول رقبته، دارت فدار معها، أخذ يراقب من حوله، وجد إن لا أحد يعبأ بهما. اقتربت منه، مالت على أذنه، قالت: سأخذك الآن إلى الكابينة! ثم قالت بجدية: إنها المرة الأولى لك، اليس كذلك؟! نظر إليها صامتا. همست: لن تنساها! همست ثانية: لكن لا تحبني، فأنا لك الآن فقط.. عليك أن تنساني بعدها. عندما رأت الكابينة شهقت قائلة: لماذا قبلت إن يضعوك هنا؟ أغرقت في الضحك عندما قال إنه هو من طلب تلك الكابينة.. اكتسى وجهها بالجد فجأة واقتربت منه، قالت بحنان: أنت طفل طيب!….

غادرا الكابينة في الظهيرة، كان جرس الغداء يدق. لم يكن مع هانيا ومايكل “كوبونات” للطعام، أخذ غدائه في علبة، وذهب إليهما بعد أن أشترى علبتين من التونا وبعض الخبز والفاكهة. جلسوا يتناولون الغذاء صامتين. سألته هانيا (كم تبقى على موعد وصولك؟)

قال:

– لن أنزل، سأظل معك!

أطلق مايكل صيحة قصيرة:

– أوبس!

قالت:

– لن يسمحوا لك بالبقاء!

– سأختبئ في أحد قوارب الإنقاذ.

ضحك مايكل. دق بأصابعه على ظهر الجيتار ثم قال:

– حيث يبدأون بالبحث في كل مرة!

– وإين أختبأ؟

قال مايكل:

– أبقى في زنزانتك، واترك بابها مواربا، لن يبحثون عنك هناك!

التفتت إليه:

– ولكني قلت لك لا تتبعني، قلت لك ألا تحبني، فأنا لا أريدك.

كانت غاضبة. قالت:

– وإذا أردتني، فعليك أن تدفع الأجر مثل غيرك!

نظر إليها صامتا، بدا التصميم على وجهه. أشاحت بوجهها.

دق مايكل بأصبعه على ظهر الجيتار، ثم أخذ يعزف أغنية البيتلز:

you say yes

I say no

You say stop

I say Go,Go,Go

You say goodbye

I say hellow

من بعيد بدا جبل لبنان.مزيج من ألوان حل محل لون السماء في الافق، اللون الرمادي المزرق الممتزج باللون الأخضر للغابات. سحب صغيرة كثيفة تخفي قمته العالية، وغلالات من ضباب أزرق باهت تطوف حوله. كان شريط السماء يضيق كلما اقتربت السفينة من الميناء، حتى اختفى تماما خلف سفح الجبل الهائل. نزل إلى الكابينة محاذرا أن يراه أحد من البحارة، والسفينة تدخل الميناء ببطء.ترك الباب مواربا وأطفأ المصباحواستلقى على الفراش. فكر إن قدره يتوقف على مرور أحد البحارة بالكابينة ودخوله للتأكد من خلوها! هناك في القاهرة، مدينته التي يحبها، سيترك عالما كاملا، الدراسة والأصدقاء وأهله! سيرسل لوالده رسالة يخبره فيها أنه سيعمل في اليونان خلال الإجازة، وإنه سيعود بعد نهايتها. سينقل له بعدها خبر عدم رغبته في العودة تدريجيا، حين انتهاءالإجازة بعد ثلاثة شهور.والده يعلم أنه لم يحب يوما دراسة القانون وإنه دخل الحقوق تلبية لرغبته. هل سيقول له إنه قابل فتاة هيبية وأحبها، فتاة حلم بها قبل أن يراها،وإن أحلامهتحققت؟!

ساد الهدوء الممر الخالي خارج الكابينة. والسفينة العجوز راسية.راح في نوم عميق، رغم خشيته من النوم لئلا يصدر صوتا وهو نائم يدل عليه، كانمرهقا من انفعاله وقلقه. أستيقظ بعد ساعات بسبب الاهتزاز الرتيب للسفينة وهي تمخر عباب البحر، غادرت ميناء بيروت وهي الآن في طريقهاإلى أزمير حيث ستنزل هانيا ومايكل، وحيث سينزل معهما، ليبدأ حياة جديدة، في عالم لا يعرفه.

في صباح اليوم التالي، رفضت هانيا جلوسه معهما. لم ينزل إلى الكابينة، ظل جالسا غير بعيد عنهما، بدون أن يتطلع إليها. ظلت صامتة لا تتحدث، جالسة أسفل قارب الإنقاذ، أو واقفة تتطلع إلى البحر والهواء يدفع بعنف شعرها الأسود الثقيل.لم تذهب إلى البار ولم تتجول في أنحاء السفينة كعادتها. في مساء اليوم التالي لمغادرتهم بيروت، قام مايكل مصطحبا جيتاره وجلس على كومة الجبال. وضع أمامه منديله، وأخذ في العزف. جلس عليبجواره. رآها قادمة، دعاها أحد الواقفين للرقص، فدخلت معه داخل الحلقة ودارت.مرت بجواره عدة مرات بدون أن تنظر إليه. أبعدت عنها رفيق الرقص ومدت يدها إلى الأمام، كانت ترقص بفتور وتدور وتقف عند منديل النقود، ثم تعاود الدوران. قام وعاد إلى مكانه بجوار القارب. عادت وجلست مكانها، لم يجرؤ أن يحادثها. ذهب إلى الكابينة وأحضر بطانية ووسادة وفرشهما واستلقى يتأمل النجوم اللامعة في سماء شديدة السواد. كان بين النوم واليقظة حين رآها واقفة فوق رأسه تتطلع إليه، أنتبه مفزوعا وجلس على الفرش. جلست أمامه ضامة ساقيها بيديها.. ظلت ناظرة إليه بوجه هادئ حزين بعض الشيء. سألته عن أسرته، عن والديه وأخوته…أخبرهابانه الأبن الأوسط ، وعدد أخوته خمسة ووالده يعمل موظفا في الحكومة.. طلبت منه أن يقص عليها كل شيء، يصف بيته، أول بنت أحبها، هل كان مسموحا له أن يقبلها؟ ضحك وهو يخبرها إنه كان يقبلها حين يغيب من حولهم، على السلم أو في ظل شجرة أو في شارع مظلم! سألته هل مارس معها الجنس؟! ضحك، لأ، ممنوع! ولكن، بشكل ما، نعم! سألته مندهشة بفضول: كيف؟ قال ضاحكا: بالملابس كاملة! تساءلت هل مارست الجنس من قبل؟ أحس بنبرة صوتها مختلفة، كما لو أنها فتاة شرقية تريد أن تطمأن أنه لم يعرف فتاة قبلها! أحس بالفضول في نبرات صوتها. قال:

– كما حدث بيننا، لأ!

– إذا مارسته!

– نعم!

– مع نفس الفتاة؟

– طبعا لا، مع قريبة لنا متزوجة، أكبر مني بسبع سنوات.

– كم كان عمرك وقتها؟

– ستة عشر عاما.

طلبت منه أن يقص عليها ما حدث بالتفصيل. قص عليها ما حدث، حين جمعته الظروف بقريبته البعيدة، كيف شعر وهو يرى ما يحدث له. ظلت صامتة. سألته ماذا يدرس؟ حين قال إنه يدرس الحقوق ليصبح محاميا، شهقت، قالت:

– تريد أن تترك دراستك وعالمك من أجلي؟

– نعم!

– ولكنك حصلت علي! ألم تكفيك مرة؟!

– نعم.. ولكني أحبك!

– هيششش.. أنت طفل شرقي محروم مليء بالأحلام، كما يصفك مايكل. أتعلم أنه متعاطف معك؟

– ولكني لا أحبه!

تساءلت مندهشة:

– لماذا؟!

– لأنه يتركك للآخرين!

أغرقت في الضحك، كانت تنظر إليهثم تعاود الضحك ثانية. قالت بهدوء:

– أنت خطر ومؤذي! في ظروف أخرى ربما كنت أحببتك!

صمتت قليلا ثم قالت:

– سأقول لك شيء، أنت لن تنساني! حتى حين تكبر وتصبح عجوزا، ولكنك ستظلمني، ستطلق علي حكما، سترى أني عاهرة، ستتذكرني كفتاة عاهرة مررت بها، حين تصبح محاميا كبيرا. ولكنك ستتذكرني رغم كل شيء!

أراد أن يتكلم، أشارت له أن يصمت، قالت:

– ولكن يجب أن تعرف، أني امرأة حرة فخورة، وإني جعلتك في لحظة تضمني وتمتلكني، كما لو أنك امتلكتهذه! أشارت إلى نجمة بعيدة مشرقة، نظر إلى النجمة مندهشا.

قامت فجأة كعادتها، قالت:

– تعال لتجلس معنا، قد تكون هذه ليلتنا الأخيرة معا! هات فرشتك الجافة معك، فهي أفضل من النومعلى حديد السطح.

جلسوا معا بجوار القارب، ظلوا يتحدثون بدون توقف، كان أكثرهم اندفاعا وحديثا.. ظلت لطيفة ورقيقة وجادة، تستمع باهتمام وتبتسم بحنان وهي ترى حماسه وفرحه. في لحظات تبادلت هي ومايكل حديثا جادا بالفرنسية، بدا مايكل غاضبا وبدت مصممة على رأيها وهي تشرح له. لم يكن النوم مريحا على بطانية خفيفة فوق السطح المعدني البارد. ولكنه كان مليئا بالسعادة وهانيا بالقرب منه. كانت السفينة ستصل إلى محطتها الأخيرة في أزمير عند الظهيرة. لاحظ في الصباح إنهما يتجنبان الحديث معه. كان مندهشا، فقد استغرقوا في النوم وهم مازالوا يتبادلون الحديث! وضع خطة بسيطة، أن يطلب تأشيرة دخول من ضابط الجوازات، أخبره بعض زملاؤه أنهم لا يمانعون. قد يسبب ذلك مشكلة لطاقم السفينة مع أمن الميناء لأنهم لم يقوموا بالتأكد من نزوله في ميناء بيروت. ولكنهم لا شك معتادون على مثل هذه الحالات. تركتهم هانيا، غابت طويلا. لاح الميناء من بعيد. رأى أثنين من ضباط السفينة قادمين ناحيته. طلبا منه جواز سفره. أعطاه لهما، طلبا منه الذهاب معهما. تطلع إلى مايكل، سأله أين هانيا؟ لم يرد عليه، هز كتفه! سار بين الضابطين حتى وصل إلى غرفة مكتب الإدارة. سأله موظف يبدو أنه الشخص المسئول، لماذا لم ينزل في ميناء بيروت كما تقول تذكرته؟ كان يكتب في ورقة أمامه وعلي يحاول أن يشرح. قال له الرجل إن ما فعله مخالفة قانونية، وإنه لو سلمه لإدارة الميناء فسيقدم للمحاكمة وقد يسجن، سيعتبرونه متسللا! وإنهم مراعاة لسنه ومستقبله، وبناء على رجاء السيدة التي أبلغتنا بمخالفتك، سيقومون بإرجاعه إلى الإسكندرية! تساءل مندهشا أي سيدة؟ قال الرجل: السيدة التي كنت معها! أخذوه إلى الكابينة ذاتها التي كان يقيم فيها، وضعوا له مرحاض متنقلفي الركن وطعام وزجاجة ماء. أبلغوه إنه سيظل محتجزا فقط في الموانئ وسيدعونه يخرج أثناء الأبحار. عاد إلى الإسكندرية بعد حوالي أسبوعين من مغادرتها.

كانت هانيا مخطئة، ففي حين أنه لم ينساها كما قالت إلا أنه لم يصفها قط بالعاهرة. في البدء كان غاضبا حزينا مما فعلته، ولكنه بعد قليل رأى أنه كان مندفعا وإنها عاملته كطفل وأعادته إلى عالمه. ظل كذلك لفترة، حتى قرر في لحظة، وهو في بداية الأربعينيات من عمره، إنه لا يعلم ماذا كان الأفضل له! لو تركته ينزل معها وينشأ حياة مختلفة، أم عودته إلى عالمه المفروض؟ كان السؤال يلح عليه: ماذا لو لم يعد؟

مقالات من نفس القسم