د. قيس عمر
القراءة الانتاجية/ المُجالَدة الجماليّة:
في كتابه (دفائن القراءة والكتابة) يذهب رعـد فاضل إلى الكشف عن الجسور الغاطسة في الممكن الأدبيّ لعملية القراءة، تلك التي تعمل كتجسيرات خفية ما بين (القراءة/ الكتابة)، وحتى تكون القراءة فعالة فلابد أن تكون ((قراءة انتاجية)). وقبل الشروع بتحديد شعرية القراءة الانتاجيّة، يتساءل الكاتب: ((ما الضّير إذا ما قلنا إنّ القراءة فعل انتاجيّ وفقاً لمفهوم الإنتاج الاقتصادي. أليس كلّ نص مادة تنتج في مشغل الكتابة؟))[1]. ويمكن أن نحدّد تجليات هذه القراءة وطبيعتها الاستعمالية بنوعين رئيسين هما: الحواشي الكتابيّة التي تتشكّل على هامش القراءة ويدوّنها القارئ كتعليقات، وحواش كتابية تنكتب حول النص. والكتابة بوصفها نتاجاً لفعل ((القراءة الانتاجية)) حين تكون ممارسة تراكميّة تنتقل من المستوى التجريديّ إلى المستوى المادي. إذاً لتكون القراءة ((انتاجية)) ومنخرطة في شعريّة الإنتاج الأدبيّ، على القارئ أن يكون ((قصاص أثرٍ بارعاً، وهذا يعني عمقيّاً أنّك خارق لانتظام ما قرأت لجبابرة الكتابة والمعرفة والفنون)) [2]. فالقراءة التي يسعى رعـد فاضل، بهذا المعنى، إليها هي القراءة القادرة على إحداث نقلات واختراقات نوعيّة في طبقات النصّ، كذلك القدرة والكفاءة العالية على اختراق النصوص الكبرى لجبابرة الكتابة، وهذا يقودنا بالضرورة إلى ضرب من شعرية (القراءة /الكتابة)، وما هذا الضّرب إلّا الناتج التحصيليّ، أو الإنتاجية ذات القدرة النوعيّة العالية، وهي أدب النُّدرة المؤسَّس على مفهوم ((المجالَدة)) الذي هو سر القراءة الانتاجية إذ إنّه ((يتطلّب أن تكون مجالداً لا يعرف اليأس من وهن القراءة السائدة، إلى صبر هذه الكتابة المجالدة))[3]. إنّ الانتاجية لتكون متجسدة وعيانية لابدّ أن تقوم القراءة على المجالدة/ المفاعلة، وهذه المجالدة لن تكون غير الاشتباك ما بين القارئ والنص، فثمّة صِدام جماليّ معرفيّ يحدث خلف كواليس القراءة، ما بين مرجعيات القارئ، ومرجعيات النص، وهذا التصادم وإن كان ذا طبيعة متخيّلة إلا أنه كما شرر يتطاير، لينتج لنا مفهوم القراءة الانتاجية التي ستتجسد على شكل حواش وتعليقات على متن النص/الأصل، أو على شكل ارتداد نصيّ كتابيّ قائمٍ على الامتصاص والهضم والتّحويل.
شعريّة الكتابة/ التّعبير فرديّاً:
لقد نال مفهوم (الكتابة) اهتماماً موسّعاً لدى الباحثين، لاسيّما في المنهجيّات الحديثة، بيد أنّ هذا المفهوم بقي متعالياً وبعيداً ورجراجاً، وقابلاً للكثير من المقاربات، ولعلّ ما يعنينا هنا في هذا المقام، هو مفهوم (الكتابة) واستعمالاته في كتاب (دفائن القراءة والكتابة). يحاول رعـد فاضل في هذا المتن التنظيريّ، تقديمَ شعرية نوعيّة لمفهوم (الكتابة)، ويذهب إلى تجاوز الحمولات الأجناسيّة المتعلّقة بالكتابة(شعراً/ نثراً) والخاضعة لمواضعات(لوغوس الأجناس)، فهو يتجاوز وظيفة الكتابة(التعليمية/الإبلاغية/الأيدولوجية) ويرصد لنا الكتابة ذات الوظيفة الجماليّة ويعمد إلى التحرر من كل إرغام منهجيّ رسّخ لمفهوم الكتابة وجعله مفهوماً قاراً ومؤطراً بتحديد منهجي. إنّ الكتابة بالنسبة إلى رعـد فاضل هي ((تعبير فرديّ عن الكاتب الفرد بوصفه جزءاً من العالم.))[4]، وإذا كان الأدب بهذا المعنى تعبيراً فردياً، فإن الطبيعة الجمالية للكتابة ستكون غير خطية، بسبب من طبيعتها الفردية، والطبيعة الفردية تستلزم تشكل مفهوم الكتابة الابداعية(نثر/ شعر) فينبغي أن يكون غير قابل للتحول لحالة تتسم بالخطية والثبات، ويرى أن على الكتابة أن لا تتحول في استعمالاتها المشغليّة المُحتَرَفيّة إلى حالة (مسلكية): ((أن لا تتحول الكتابة الأدبية بكلّ أجناسها وأنواعها، كما أيّ شيء حي آخر بالتقادم، إلى حالة مسلكية))[5]. ومن هنا فإنّه يذهب إلى تحديد ضربينِ من الكتابة الجماليّة، مشخِّصاً طبيعة الاستعمال لشعرية الكتابة ووظائفها الداخليّة، فالكتابة بالنسبة إليه كتابة خطيّة/ إعادة ترميم: تتمتع بثبات تاريخيّ، وتستمد قوة ضغطها من تاريخ النوع الأجناسيّ كشكل كتابيّ، ويمكن لهذا الشكل الكتابيّ الخطيّ أن يتعرض لبعض الترميمات والتّحديثات، التي تقع في القشرة الخارجيّة للنوع الأدبيّ، هذا الضرب من الكتابة يراهن على توقّف زمن القارئ ومحدوديّة أفقه الثقافيّ، ذلك أنّ أيما شكل أدبيّ قارّ، وإن تعرض لعمليات ترميم جماليّة، سيبقى هذا الترميم في منحنى القراءة مراهناً على القارئ ذي المرجعيات الجمالية ذات النزعة التاريخية التي تعني عمقياً (التّكرار)، والتي تراهن على ثبات الشكل الخطيّ ونمطيّة الكتابة، وما الكاتب سوى ((موظّف يؤدّي وظيفة ما))[6].
الكتابة/ إعادة التصميم:
هذا الضرب من الكتابة، يتمتع بالقدرة على تكوين خرائط داخلية جديدة، وتصميمات مبتكَرة للشكلّ الكتابيّ ضمن دائرة الجنس الأدبيّ، بمعنى أنّ على الكتابة هنا أن تكون قادرة على ابتكار خرائط جديدة، ضمن ذات المساحة التي يحددها الشكل الكتابيّ المُجنَّس، وهذا الضرب من الكتابة، كما ذكرنا، يقوم على مفهوم (الكتابة بوصفها تعبيرا فردياً) وهذه الفردية تستلزم تمتّع الكاتب بشرط أساس هو الحرية، أي عدم خضوع الكتابة ووظائفها واستعمالاتها لأيّ ضرب من الأيديولوجيا أو التصنيمية الأجناسية، والخروج من سلطة النوع الأدبيّ بوصفه عامل ضغطٍ تاريخيّ، وهذه الاشتراطات ستؤدي في النهاية إلى جعل المشغل الكتابيّ، واستعمالاته، ووظائفه، مزوّدة بقدرة عالية على استنبات مفهوم الكتابة وشحنه بنزعة تدميرية محدودة، مهمتها تدمير النماذج الجماليّة التاريخية فهماً وامتصاصاً وتجاوزاً، وهذا سيؤدي إلى تكوين وتأسيس مفهوم مغاير لكتابة الكاتب الذي ليس ((مسلكياً))، وإنما الكاتب الذي يؤدي ((نشاطاً حراً))[7] وهذا النشاط هو تأسيس الكتابة الجمالية على وفق خرائط جديدة، وتأثيثات تتناسب ومعماريّة النصّ الحديث في الكتابة النُّدرة.
………………….
([1]) – دفائن القراءة والكتابة، رعـد فاضل، دار سنا- سطور للنشر والتوزيع، العراق – بغداد، ط1، 2021 : 8
[2])) – المصدر السابق نفسه : 10.
[3])) – دفائن القراءة والكتابة: 11.
[4])) – المصدر السابق نفسه: 13.
[6]) ) – دفائن القراءة والكتابة:64.
[7]) ) – المصدر السابق نفسه: 64.