خالد جودة أحمد
يعني الرمز معجميًا الإيماء أو الإشارة، أي يحمل التلميح دون التصريح، لذلك أقبل الأدباء علي تخصيب نصوصهم بمعطيات تمنح التأويل في رحاب الرمز، وقد ُيستعمل الرمز في ناحية الإغراب الذي يثمر أدبًا ينتمي للعجيب، يقول “الجاحظ” عن مرحلية هذا النوع الأدبي الفريد: “إن الشيء في غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع”، والعجائبي في قصص “العصر الذهبي للديليفري ” للقاص “أحمد عبد الرحيم” يعبِّر عن موقف فني في القصة القصيرة ينتمي إلي تسريبات معطيات فنتازية لقص واقعي تمثل “الواقعية السحرية”، إضافة إلي تقنيات قصصية منوعة.
أولي تلك التقنيات القصصية استعمال “واسطة العقد القصصية”، والتي تعني نقطة ارتكاز للتجميع لعدد من حبات العقد المنظوم “النص”، بمعني أن عدد كبير من قصص المجموعة تشتمل تنويعات أو وحدات “حبات العقد”، لكن هناك مرتكز تنتمي إليه هذه الجزئيات، والشواهد ُكثر: المزروعات وآفاتها في قصة “المزرعة” وهي قصة عجائبية تطرح تعثر الفعل وغياب البوصلة ومراوغة الغايات، لأسباب عدة منها النفسي “الملل”، ومنها الاجتماعي “الآخر”، ومنها العام “تدهور الإعلام والنقد”، أما واسطة العقد فتمثل في “التنقيب عن أسباب للسعادة”، حيث تقوم شخصية القصة بزراعة خمسة عشر صنفًا من أصناف مزروعات ثم يتم تركها لأسباب منوعة، أمثلة منها: (زراعة ملابس فاخرة. سبب متخيل للسعادة: المظهر. سبب الترك: الذئاب تلتهم المحصول أول بأول)، (زراعة الأصدقاء. سبب متخيل للسعادة: الصداقة. سبب الترك: الخيانة، الأموال / السرقة)، وهكذا تكون القصة رامزة لفكرة البحث عن السعادة المفقودة. الصنف الأخير زراعة الفراغ والتهامه ليكون الإنتفاخ. ونموذجًا آخر: تشكيلات المخلوق في قصة “المخلوق” – والذي ليس له اسم أو شكل معين – حيث الانقسام علي الذات بما يحقق اغترابها، وغياب الحب الصافي الخالص، أو التصحر في التواصل الإنساني يقول: (الكل مشغول بحاله ولا وقت لديه)، حيث تستهل القصة الحكي بزيارة ابن العم الذي يحمل هدية لكنه جاء لقضاء مصلحة، لذلك كانت الابتسامات المصطنعة لأنها (لم تكن كاملة الصدق)، ثم يبزغ المخلوق في أفق القصة بعد أن فقد بطلها الحب، ودال حالة الإغتراب البدانة أو الإنتفاخ ( البدانة كانت بعد موت أبي والذي تركني وحيدًا بعد رحيل أمي قبلها بعام)، وحيث رحلة الذاكرة وتمثلها العبارة الدقيقة الحانية للأم ( وأنت من أهله يا حبيبي) كنسمة دافئة تمده بالأكسجين الوفير والنوم الوثير، وجزئيات القصة جاءت في تشكلات المخلوق ودوال لها طبقًا لتأويلي، وأمثلة لها: (كلب مرعب / الخوف)، (كيان وطيف أبيض شفاف / الإبداع)، (حمامة صفراء / الحزن)، (سيدة عجوز ترتدي السواد / حزن)، إلي آخره، وواسطة العقد هنا تمثيل حالات متعددة للنفس المغتربة التي تفقد التواصل الإنساني الكريم. ونموذجًا ثالثًا: البدانة وإحتوائها للحيز “البيت” كفكرة فنتازية ساخرة، في قصة المركز “العصر الذهبي للديليفري”، تمثل واسطة عقد لجزئيات رامزة للخمول ونفي الفعل والانكسار والتشتت، ونموذجًا آخر بقصة “النموذج”، حيث حبات القصة مثلت أنواعًا منوعه لخلايا يتم تركيبها في المرأة المصنوعة “النموذج” لتنتج خصالًا منوعة، ومغزي القصة نفي عوامل التصحر الأسري، بمعني أن إرادة الكمال في العلاقة الزوجية ليس أمرًا صحيحًا أو ناجعًا، وواسطة العقد “حسن المعاشرة” فإن سخط الزوج من زوجته خلق رضي منها بآخر. وهكذا يمكن تشغيل فكرة واسطة العقد القصصية علي باقي قصص المجموعة، ولذلك يشعر القارئ بالإشباع لكون القصص تمور بتنويعات كثيفة رغم أن غالبية القصص لا تزيد عن الصفحات الثلاث أو أقل.
وتتراوح قصص المجموعة بين الواقعية الفنية المحضة، والواقعية السحرية، والمحاكاة الساخرة، بما يمنح دال كثافة التجربة القصصية وتنوعها، واستعمال واسطة العقد القصصية، مما أدي لعمق التناول وسخاء الأساليب الفنية. ومن قصص الواقعية نجد قصة “خير الأصدقاء” وهي قصة مهمة في تأطير مغزي المجموعة القصصية، حيث مثَّلت كنز القصة بالتعاطف الإنساني النبيل (قاعدة القصة الذهبية: “لا تذهب بعيدًا عن الإنسان وأنت تكتب القصة”، أو كما يقول “واسيني الأعرج” للقاص: “تحسس الهشاشة الإنسانية الدفينة لكي تحرِّك مواجعنا وأشواقنا كقراء”)، وهي تذكرنا بقصة (لمن أشكو كآبتى؟) لتشيكوف، حيث احتوت لحظات مضيئة إنسانية من البوح والإفضاء في لقاء عابر بين راكب التاكسي وسائقه، ورغم ذهول الوقت ونحره لكنها كانت دقائق قيمة من الحياة يقول: (عبرتنا نسمة باردة شقية) في جو معبأ بالصهد، والمأساة أنه لقاء عابر ولحظات منقصية، وأن صديقه الذي توحد معه (وشعرت أن دمنا واحد) تركه سريعًا، والمفارقة حادة في القصة وتأتي في الخاتمة حيث يعي القارئ المأساة: (في النهاية، أشار لي والإمتنان عيناه: “إنت راجل طيب”، أجبته: “إنت راجل أطيب”، ثم حاسبته، خارجًا من التاكسي متجهًا في طريق، بينما يتجه هو في الآخر)، وقدمت القصة أن التواصل الإنساني يحتاج إلي التعاطف والحجاج، لا إلي الغضب والجدال، لذلك حقق منجزات هائلة في أسرع وقت، فقد ألتقي الراوي بصديقه (ودمي يغلي) ثم التحول: (وفي لحظة، ارتخي ظهري، وخيّم الإطمئنان علي نفسي)، وأيضًا حرص الصديق علي صديقه وتبادل النصائح القيمة: (ألا أصحب هموم البيت للعمل) نصيحة السائق للراكب الذي قبل بها، و(أني لا أعتقد صدق ما سمعته) ونصيحة الراكب للسائق في ضرورة التوثيق قبل إصدار الأحكام، ثم الحجاج (أكد اقتناعه بما لا يحتمل جدالا). وتقدم القصة الخاص بهموم حياتية يومية وتنمر عاطفي واجتماعي عاصف ومرير، والعام بصورة آملة رغم جهامة نفي الفعل في القصص: (إن الغد يحمل نهايات تدريجية لكل ما نقاسيه، ونظن استحالته، واتفقنا أن الشعب – مع ذلك – سيتغير وإن كان هذا في عمر آخر متقدم لن نعيشه)، ومغزي القصة ومركزها في تأويلي: أننا نحتاج إلي التفاهم والإنصات والتعاطف والتقدير والنصيحة والتواصل الإنساني الدافئ والمثمر.
والتصحر العاطفي فكرة مركزية في القصص في عصر التشيؤ والآلية والمادية، وقدم لها تنويعات خاصة في الأسرة، في قصة “سهرة”، حيث (بعد اندفاع حار، ذقنا فيه ربيعًا طازجًا منعشًا، عادت لها بدانتها، وعاد لي تجهمي، لننام تحت صورة زفافنا المعلقة فوق الفراش منذ أعوام)، وفي القصة نجد حضور الحواس. وفي قصة “الجهاز” حيث المعمل الذي يقصف عمر “الأب” يمثل رمزية للدنيا الشاغلة عن الرعاية العاطفية للأسرة، واستدعت عندي القصة مقولة من الطرافة الداكنة “إن الإنسان يقضي عمره كي يقوم بتدبير أموال لشراء أجهزة توفير للوقت!”، ويأتي تعقيب القاص في الخاتمة (ما رأيكم .. أليست قصة خيالية؟!)، وهنا نجد إزاحة الراوي وحضور المؤلف بشخصه ليتحدث مع القارئ ليؤكد مغزي قصته. وحضور الآخر قويًا في القصص (صديق / زوجة / جار / مدير / عابر / …)، وتمثلات حالات عدة في الصلة مع هذا الآخر بين الإدبار والإقبال، والعزلة والإجتماع، لكن يسود معظمها انقطاع البث الإنساني.
والتصحر الإنساني ثمرة مرّة من ثمار نفي الفعل في القصص، حيث فكرة الإختباء من المجتمع “السلبية”، والإنطواء عن أهوال الواقع وعواصفه الداهمة، وديليفري التغذية النفسية الممرضة، والشيخوخة النفسية، وتمثلات نفي الفعل صاخبة بقصص المجموعة ترقي لهدم الروح تمامًا، والشواهد النصية ُكثر: (رأيت في لحظة تجل مليون فجر صافي في الطريق، ينكسرون – جميعًا – لغروب كله غيوم، غيّرت ملابسي واتجهت في سعادة عظيمة للنوم)، (ثم لم أكتب شيئًا)، (لقد قاربت نسيان فعل التكلم). ودائمًا نجد الهروب إلي القوقعة أو الانكماش في البيت والوحدة: (عدت إلي منزلي)، (عدت خائبًا إلي منزلي)، (عدت إلى صمت البيت الثقيل، وفراغه الشاسع). والقصص تجمل الإدانة لشخصيات تعامي العزلة والعجز: (يظل يغني بصوته الأقبح من العجز. متي سأنهره “أخرس”؟)، (الحب الذي لا يملكه الابن المراهق، والمشروع الاقتصادي المريح الذي عاش يحلم به الزوج ولا يحققه). و”البدانة” أو “الإنتفاخ” دال نفي الفعل في القصص، وتضخم غدة “الكسل والعجز”، وقد يكون مغزي قصص كاملة تمثل كلي لهذه الفكرة، ففي قصة “الكنز” نجد نوعًا من العجز بالجهد غير المنتج، حيث يسفك الإنسان دماء حياته وجهده سعيًا وراء وهم، وبالقصة ملمح فنتازي بعبور البحور السبعة، ومحاربة التنين الأحمر، ومجاوزة أرض البراكين، ورغم علم شخوص القصة بالخاتمة وأنهم لم يجدوا كنزًا سعوا أليه بل بطاقة تشرح لهم إما المضي لمسالك أخري، أو إعادة الرحلة ذاتها ليصلوا لذات النتيجة، فاختار أكثرهم العودة والبدء ثم الوقوف علي طلل الطموح الذبيح “الوهم”، كلون من ألوان نفي الفعل. وفي قصة اسمها “اسمها” تحكي نفي الفعل لكن هنا في حالة متفردة هي حالة الإبداع، حيث استغرق المبدع في البحث عن اسم الشخصية في عمله الأدبي، وسقط في الانشغال بالماضي والاستسلام للقيود في اختياراته للاسم، ثم نسي فكرة القصة نفسها في الخاتمة، وقضي علي إبداعه. وفي قصة “العاشق الخارق” نجد ثنائية الرقة والقوة، حيث العاشق لا يقاوم ويبكي علي الطلل، ويستعذب (البكاء الحلو والنبضات الطازجة)، رغم أن سر قوته قبلة الحبيبة لكنه يتركها للقاسي الخارق الأعمي الذي يسحق الأبرياء، ونجد بالقصة نفي الشوك للورد، واستلاب الإرادة تحت شعار زائف من رضا الحبيبة.
وينعكس نفي الفعل أيضًا بالقصص لفكرة التسليع أو الآلية أو القولبة للإنسان، وتنميط روحه، وتحوله ذاته لسلعة مستهلكة، ولها دوال كثيرة بالقصص منها (البدانة المعجزة / الإنتفاخ / الشلل / سلب الروح “كيف العيش وروحك مسروقة منك؟” / النوم / التقوقع والعودة للبيت / الجمود والتثليج / التشوين “واضطر المليونير إلى العودة لحياته، مع تشويني في مخزن ما، لم أقدر أن أهرب منه لرصيفي القديم، لأن أطرافي تجمدت بالفعل” / إلي آخره). ونجد فكرة معروفة عن أنسنة الأشياء، والكائنات غير الإنسان، للتعزي عن تشيؤ الإنسان نفسه، بل حدث انتقال ثالث وتطوير مفزع بالعودة لتشيؤ الكائنات المؤنسة للتعزي بها، فيكون الاغتراب مركبًا والمحنة ماحقة، ففي قصة “الجسر” التي تقدم التحول في المجتمع الزراعي المنتج، نجد الحيوانات المؤنسنة (البقرة الطيبة والدموع في عينيها)، و(الجاموسة تشيح بوجهها وترجو الخلاص) تتحول إلى آلات فاقدة الحس: (البقرة إلي عربة نصف نقل / العنزة إلي توكتوك / الجاموسة إلي سيارة لوري)، فحتي العزاء عن آلية الإنسان وتسليع مشاعرة تم سحقه بالتحول للآلية مرة ثانية، وخاتمة القصة ممتازة للحظة تنويرها حيث اصطحبت شخوص القصة كل آلية (وخرجوا إلي الطريق الزراعي والهواء يثير غبارًا صحراويًا عنيدًا) ليكشف عن الإنسان والوطن جميعًا.
وتسريبات الخيال المجنح للواقع لا تخفي عن العين القارئة، ونجد أكثر القصص متشربة بالأسلوب الفني المختار. كما نجد قصة الرمز الكلي “الكناية” أي يرتقي ويتعملق الرمز في القصة لتكون القصة كلها كناية، مثال قصة “النمر”، حيث النمر في تأويلي بالقصة هو الكراهية أو الغضب كمادة كاوية تأكل في الأناء الذي يحتويها أكثر من الأناء الذي تصب فيه، وحيث التنمر الاجتماعي “ضيق التنفس الاجتماعي”، والنار التي تأكل بعضها، ولحظة تنوير القصة أتت بالخاتمة: (لكني اكتشفت أني لم أحضر أي طعام للنمر طوال اليوم فانقض علي وأكلني). ونجد حضور الهامش الاجتماعي، ففي قصة “شراء جريدة الغد، الليلة” رمزية لمفارقة الافتراضي واختبائه من المجتمع: (وركبتاي تصيحان ألمًا لفراق الكرسي والمكتب والكمبيوتر) إلي الواقع (الشارع مظلم)، واستعمال مفردات موحية (السواد / الموت / الصمت / البرودة / القتامة / …)، ووصفًا لمظاهر عشوائيات، لتكون القصة رمزًا شاملًا لهذه الحالة البائسة.
أما قصة المحاكاة الساخرة التي تعني عملًا أدبيًا يحاكي مصدرًا وفي ذات الوقت يعارضة بطريقة ساخرة في المعالجة، فنجد نموذجًا لها قصة المسلسل الأجنبي “صابون إلي الأبد”، حيث التلميح إلي قوة تأثير المسلسل الأجنبي المئوي الحلقات في الذائقة والسلوك الاجتماعي، رغم أن مادته الثقافية لا تناسب هويتنا، وبالقصة فكاهة الإفتتان بالأحداث الممطوطة غير المعقولة وغير الهادفة لحبكة أو قيمة، وحيث التزحلق علي صابون العبث والتخدير الفني. ونموذجًا آخر قصة (0001) حيث محاكاة ساخرة لخدمة الطلب الهاتفي لسلعة الصداقة، وتسليعها، حيث الاختيارت لمواصفات صداقة معيارية، وتربو السخرية (… وانشغل الخط بإعلانات عن الشركة، وعرض لزوجتين كسولتين بنصف الثمن، وقريب مزعج مع ساندويتسات هدية، وابن سارق فوقه خطوط موبايل ُمخفضة).
أما بشأن اللغة فقد أتت عبر راوي ذاتي غالبًا بالقصص حيث يسرد همومًا وآلامًا خاصة وعامة، يحتاج معها للبوح. والحوار ليس ممسرحًا، ولكن مشغولًا في نسيج السرد ذاته من خلال إنتقاء العبارات المهمة والمحمورية والمؤثرة والتي تشكل الحدث، وبلغة عامية غير مبتذلة. كما أتت تعبيرات فيها مجاز، ومن الأمثلة: (طبطب علي حزني)، (أمتص غضبي بإبتسامة رءوم)، (لماذا يموت هذا الشارع مبكرًا؟)، (الشارع المتعفن الجثة)، (كنت أبكي بكاءً متقدًا متصلًا)، (.. بتردادت صوتية تمضغ وجودك بأنياب قاطعة)، (البهجة الناصعة)، (لتلين أوقاتي، وتسافر همومي). كما نجد عبارات شعبية لها تداولية جارفة: (وخرج من المولد بلا حمص) عن سوبرمان لدي حرمانه من الميراث بقصة “أحزان”.
ورغم نفي الفعل، ومرآوية الواقع ومرارته، نجد شعاعًا من امل، ففي قصة ذات اسم دال “صباح الخير” حيث (هذا الرجل يملك تلالًا من الطيبة، وشلالات من المحبة، وعددًا لا يحصي من شموس بانواع متباينة)، يميل إلي فعل يرتكن للشعر والإبداع ليظل الأمل حيًا: (في جلستنا بدكانه، كان يترك باب مخزنه الفسيح مفتوحًا، لتتوهج شموسه، وتنطلق أشعتها عبر الممر، وضاءة دافئة، إلي كل أرجاء الشارع).