العريش التي عرفتها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ذات يوم من أيام ربيع العام 2005 زرت سيناء وتحديدا مدينة العريش..  وكانت هذه الكتابة

"سيناء مثلث مليء بالطاقة والحيوية، وبعض القلق ، شكلها الثلاثي على خريطة الوجود تتعمق جذوره للثلاثي "إيزيس، أوزيريس، حورس" ، وتمتد أضلاعه على الازمنة "ماض، حاضر، مستقبل "، وعلى مساحته  توحدت  السماء والأرض والإنسان.

من إله القمر سين الذي ينير شعابها ليلا اشتق اسمها وفي الذاكرة يتردد صدى اسمها القديم  

تامفكات.. تامفكات أو أرض الفيروز. وأنت تسير بمحاذاة شاطئها الشمالي تتمهل الخطو فربما تطابق موقع قدمك مع آثار قدم عمرو بن العاص وهو يحدق فيمن حوله متسائلا أهذه أرض مصرية ؟ وفي يده رسالة من عمر بن الخطاب مفادها إذا لم تكن قد دخلت مصر فارجع، وإذا وصلتك رسالتي وقد دخلتها فامض لوجهتك واستعن بالله.  ويمضي ابن العاص ليتغير وجه مصر و تتغير حركة الزمان.

يمكنك أنت أيضا أن تمضي متتبعا تجمعات النخيل على الشاطئ  فتلمح طيف السيدة العذراء وعلى ذراعها وليدها “المسيح” تحث الخطى بحثا عن أمان تجده مع ظلال نخلة، يمكنك أنت أيضا أن تستظل بها أو ربما تغويك الصدف المتدرج في ألوانه من البني حتى البنفسجي فتلتقط بعضا منه.

وقبل أن أرفع رأسي يسألني فتي صغير:

ـ عاوزة سمك ؟

يشير إلى طوف يقترب بهمة من الشاطئ وبه رجل عندما يقترب مني لا أستطيع أن أمنحه عمرا محددا، لعله أثر البحر وقد تماهت سنوات عمره في أمواجه

أسأل الصغير -:أبوك؟

قبل أن يجيب يسعى في اتجاه المقبل، يفرغان السمك في طبق بلاستيك. أراقبهما دون أن أقترب -ربما يؤمنان بالنظرة في الرزق –  أسأل:

ـ بلطي ؟

يشفق الصغير على جهلي:

مفيش بلطي، ده موسم السردين.

يمضي الكبير دون أن ينتبه لي، أو ربما يسخر من السيدة التي تسير على الشاطئ بحذاء طويل الرقبة ويدرك أنها ليست ابنة بحر فلا يعبأ بها.

استدرت لأتابع خطواتهما ففاجئني بياض المدينة التي أقف على حدودها، بياض شاهق  لا أدري لم  وحده يترسب في ذاكرتي رغم أن معظم مبانيها ذات لون رمادي فاتح بلون الطوب الأسمنتي الذي بنيت منه، مدينة جديدة من مدن المسحورة التي تمتلئ بها قصص الأطفال. وتحتفظ بها ذاكرتي.

في المساء يمكنك أن تتناول النسكافيه والكابتشينو في أكثر من مكان، حتى محلات كل حاجة باتنين ونص موجودة، فقط تغير اسمها لتصبح “مفيش مشكلة” كل حاجة بثلاثة ونصف. كل أشكال وموديلات الملابس موجودة في واجهة المحلات .. البانطلونات الجينز والبلوزات، الايشاربات، كل شيء، بيع وشراء .. تجارة .. حركة لا تتوقف

بعد أن تتعب تشير للتاكسي وقبل أن تفتح الباب يقول لك بلهجة مؤدبة تفتقدها في القاهرة حتى مع وجود تاكسي العاصمة

– مخصوص ؟

أهز رأسي وابتسم ببلاهة :

– يعني إيه؟

– اتنين جنيه.

بالطبع لن تضحك بصوت مرتفع ولكنك ستحتفظ بالموقف كمزحة ترويه لأصدقائك وتشكر هذه المدينة التي تجعل للجنيه قيمة، وستحبها أكثر من أي مدينة أخرى، بل ومن أجلها ستحب مدنا لم تزرها، ومن أجل أهلها ستحب كل أهالى سيناء أيا كانت قبائلهم .. السواركة ، الرميلات، البياضية، العيايدة ، المساعيد، الترابين ، الحويطات،.. ،… وتفكر فربما تكون أنت أحد أقاربهم الذين جاءوا في هجرات متعددة واستقروا منذ زمن في الوادي.

سيناء المكان والبشر، الخصوصية الثقافية ، هموم ومشاكل اليومي والمعاش.  مواطنون حقيقيون، وليسوا مجرد حلية أو نغمة في نشيد الوطن.  سيناء ليست  مجرد  فلكلور .. قضاء عرفي، أعشاب طبية، رقصات، ملابس مطرزة.. برقع وعقال ووشم وشماريخ وأشناف.  وعندما تدرك ذلك ، ساعتها سترى في سيناء وجهها الحقيقي بعيدا عن ” كروت البوستال”  والكلمات الفارغة المضمون. وستحب مدنها البسيطة التي تذوب في شوارعها دون أن تلفت الانتباه لغربتك، أنت نفسك ستنسى أنك غريب، بل سيتطور الأمر إلى أن يعدك بائع في محل بأن يأتي لك بطلبك غدا مساء ، وأنت بصدق ستؤكد عليه الموعد، رغم أنك حجزت مقعدك في أتوبيس شرق الدلتا المغادر في الخامسة عصرا .”

 

 

 

مقالات من نفس القسم