العجوز البنيّة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

ندى خالد 

أنا عجوزٌ، عجوزٌ بنيّة، ملطخة بالمجازات، قدمها اليسرى تحمل عرجًا قديمًا، بينما كلتا يديها مملوءة بالخربشات القديمة، خشنة، تنتهي بأظافر متشققة بالطول داكنة، وصلبة.

أمتلك بيتًا خشبيًّا يشبهني تمامًا، يمتلئ بالتشققات، والوهن الواضح، كما أنه عتيق، ورثته عن أم أمي؛ لا أحب أن أناديها بجدتي الآن، إذ ماتت صغيرة، لا أتخيل صورتها في الذاكرة جدة لامرأة عجوز مثلي..

 

اللقب سيلطخ الذكرى، سيحولّها لذكرى مترّبة وسخيفة، أصنع الكعك الساخن في أيام الخميس، علّ أحدهم يزورني ليلًا، لا أحد يأتي، ولكنّ يدي لا تكف.. عادة ما يصحب الصنيع دندنة دامعة “زوروني كل سنة مرة.. حرام تنسوني بالمرة! “
أغني لنفسي، للجدران، للكراسي، للصور القديمة المعلقة في الباحة الخلفية، أردد، زوروني، ولا أحد يجيب، غير أن الصدى في بعض الأحيان حين يعلو صوتي يردد معي، يجيب: زوروني.. أشعر حينها بالألفة، ثمة من يرغب بالزيارات أيضًا، هناك من هو وحيد مثلي ولا يأتي أحد لكي يسأل عن أحواله، ثمة من تقتله الذكرى، ويمثل بجثته الحية الوقت.. نحن العجائز الوحيدون، نستيقظ محمّلين بآلام الروماتيزم، والفقرات القطنية، وآلام الرأس، نستيقظ على دقّ مطرقة قاسية في منطقة الركبة، بينما ينتفض الجسد من برد مفاجئ يتملّك كل بقعة صغيرة في عظام الجسد الهزيل، نستيقظ محاولين تجنب المرآة، التي تعكس صورة الشيب، والثدي المتهدل، والوجه المتكتلّ بالتجاعيد، كل تجعيدة بذكرى مؤلمة، كل تجعيدة تحمل خريفًا مضى، ربيعًا مرت حلاوته ولم يتبقى سوى الشوق له، شتاءً باردًا مرّت أحداثه، وظلت البرودة قابعة لم تذهب معه.. كل تجعيدة تذكر العجوز ثقيلة اللسان، بطيئة الحركة، بالشباب، بالحيوية، بالتجارب، بعلاقات المراهقة، وممارسات الحب، بذكرى أول دورة شهرية، وذكرى مرور أول شهر في سن اليأس، توقف عادة الجسد الشهرية، والنفس العميق لتصبير الأنثى داخلي.. “أخيرا لا عناء اضطراب هرمونات ولا آلام جديدة بالرحم” بينما الخوف من العجز يملأ جوفي..

كل تجعيدة هي وسام حُفر على وجهي ليذكرني أنني مررتُ من هنا، ليصفق لي أنني استطعت أن أمضي، أن أحيا، ثم ليصفعني لأنني مازلتُ حيّة، دونما أي مظهر من مظاهر الحياة التي اعتدت.. يمضي الليل ثقيلًا، مثل عصفورٍ يحمل أطنانا من القشّ محاولًا الوصول لعشّه.. بطيئًا وباردًا..

يرددون دائما أنك مع الوقت، تعتاد الأشياء.. مرّ الكثير من الوقت، ولم أستطع اعتياد الوحدة، اعتياد الفراغ، والسرير الفارغ، والطاولة التي تحمل إحدى عشر كرسيًا فارغًا، تجلس على رأسها عجوز قبيحة ترتدي القمصان الواسعة علها تداري بها السنين العجاف، تربط شعرها الأبيض كعكة صغيرة تحمل شعيرات هي كل ما تبقى من الشعر الطويل الأسود الداكن المنهدل حتى أسفل المؤخرة.. في البداية كانت تسليني الأشعار، الأفلام الكوميدية الرديئة، وصوت نجاة، والصوف، أشاهد التلفاز بينما أصنع أقمشة التريكو كما علمتني أمي، صنعتُ الآن عشرة قمصان، وعشرين مفرش، وجوارب لا حصر لها.. أقول لنفسي أني أصنعها للزائرين، للأقارب، للصغار.. سأهاديها بهم، سأوزع صنيع يدي مع وصفات يوم الخميس، سأنظر بفخر لعيونهم الممتلئة بالامتنان لكل ما صنعت وسأربت على أكتاف الصغار بينما يرتدون كنزاتي الجميلة.. الخيال رائع! لكن السيء بخصوصه، هو أنه لا يحدث أبدًا.
بعد مرور وقتٍ طويل، رغم انتظاري وعلمي بقدومه، إلا أنني لم أكن على استيعابٍ تام للفكرة، أنه سيكون زائري الوحيد، ومخلص آلامي.. الوجه الوحيد الذي سأراه بعد كل هذا العمر، العين الوحيدة التي سترى كل الأشياء التي صنعتُها، والأنف التي ستشم رائحة خبزي الطازج، وكعك الشوكولاته، اليد الوحيدة التي ستتحسس كم أن جسدي متعب، وجاف، وهزيل..

 لم أكن أعلم أن اليد الوحيدة التي ستربت على كتف العجوز البنية في سنين عمرها الأخيرة هي يديه، لكنني اليوم استيقظت على حقيقة قدومه، ألم شديد في قلبي وذراعي اليسرى، نفس يخرج بصعوبة، ونهار شاحب، كلها أشياء نبهتني أنه اقتر

 عزيزي الموت، بالطبع لم أتمنى يومًا في ريعان شبابي أن تكون أنت الوجه الأخير، ولكن.. مرحبًا بك..لقد انتظرتُ طويلًا

 

مقالات من نفس القسم