بولص آدم*
في قصته القصيرة “فيزوف”، يروي عمرو عز الدين حكاية عمار، موظفٌ متقاعد، يعيش وحده في شقة باردة بعد وفاة زوجته، وتقلص معاشه، واختفاء أصدقائه. لا رفيق له سوى قطه الوحيد الذي سمّاه باسم غير مألوف: “فيزوف”، نسبةً إلى البركان الإيطالي الشهير. من هذه التسمية، تبدأ أولى مفاتيح القراءة الرمزية للنص: فهل كان القط بركانًا نائمًا؟ أم أن الاسم إشارة إلى ما يكمن تحت رماد حياة عمار من احتقان وعزلة وصمت؟
القصة تبدأ بجملة لافتة تتجاوز حدود الواقعية إلى تخوم الرمز والعبارة المفتاحية:
«في المساء مات فيزوف، وفي الصباح التالي تحدّث لأول مرة.»
هذه الجملة تفتح القصة من نهايتها، لا من بدايتها التقليدية. تتجاوز الموت بوصفه خاتمة، لتجعله شرطًا للكلام. وكأن لسان النص يقول: لا صوت في هذه الحياة إلا بعد الفقد، بعد الغياب، بعد فوات الأوان.
عمار يعيش في حالة من التآكل التدريجي، حيث «تتناقص أوراق مظروف المكافأة» أسبوعًا بعد أسبوع، بينما القط يزداد بدانةً وسكونًا. يقول السارد:
«راقب عمّار على مدار الأيام، ثم الأسابيع، ثم الشهور، نقصان سُمك مظروف المكافأة، وازدياد حجم فيزوف».
هنا يظهر أحد محاور المفارقة: العالم من حول عمّار يتقلّص، ينكمش، يتراجع، بينما الكائن الوحيد الذي يشاركه العيش يكبر، يتضخم، دون أن ينطق بكلمة واحدة.
لا توجد حوارات حقيقية في القصة سوى في لحظة ما بعد الموت، حين يسمع عمار صوتًا غريبًا من تحت التراب، فيكتشف أنه صوت فيزوف نفسه. حينها يدور بينهما الحوار المفجع والمقتضب:
«قال عمّار دون أن يلتفت: “أنا كنت مستنيك تتكلم طول عمرك”.
قال الصوت: “بس أنا مرجعتش يا عمّار”».
هذه العبارة تمثل قلب النص. فالصوت، حين يأتي أخيرًا، لا يُبشر بعودة، بل يُكرّس الفقد. هو صوت اللاعودة، صوت من العالم الآخر، من عمق الحزن المترسّب.
الصمت هو بطل القصة الحقيقي. ليس صمت القط فقط، بل صمت الحياة حول عمار: صمت بعد الوظيفة. صمت بعد الزواج. صمت بعد الأصدقاء. صمت في الشقة. صمت في الشوارع التي «لم يعد يعرف فيها أحدًا، ولا يعرفه أحد».
حتى قطه، لم يكن إلا مرآة لهذا السكون العاطفي الكامل. كان صامتًا «كأنما أقسم ألا يصدر عنه صوت».
يُشكّل اسم “فيزوف” بحد ذاته مفارقة مريرة: فذلك البركان الذي طمر مدينة بومبي تحت الحمم فجأة، لا يثور في هذه القصة، بل يموت بصمت. لا يحدث الانفجار الكبير. لا يثور الحزن. بل يتحول إلى صوت دُفن تحت الأرض، ويعود للحظة خاطفة، ثم يتلاشى.
السرد في “فيزوف” يتبنى تقنية الترشيد الحاد، فالجمل قصيرة، مقتضبة، كما لو كانت تتنفس مع بطلها:
«لم يعتد عمّار التحدث. لم يكن لديه من يتحدث إليه.»
كل جملة تترك فراغًا معنويًا على القارئ أن يملأه. لا تشرح القصة شيئًا. بل تضعنا في صمت عمّار، وتجعلنا نراقب تقلّص العالم من حوله.
في هذا الصمت، يتحول فيزوف من كائن بيولوجي إلى رمز نفسي، يحتمل تأويلًا مزدوجًا:
– هو الحيوان/الآخر، الذي امتص مشاعر عمار المكبوتة.
– وهو في الوقت نفسه البديل الرمزي لكل من رحلوا: زوجته، أصدقاؤه، شبابه، صوته.
وبينما يغيب فيزوف، لا يبقى أمام عمار سوى الوهم. الصوت الذي يسمعه من تحت التراب قد يكون هلوسة وحيدة أخيرة، أو «لحظة يقظة داخليّة أخيرة»، كما تقول بعض مدارس التحليل النفسي.
لكن ما يزيد من ألم المفارقة هو أن هذا الصوت، وإن جاء، لا يواسي. لا يعد بشيء. بل يُقِرُّ بعدم الرجوع. إنّه اعتراف أخير بأن الإنسان، حين ينتظر صوتًا من المجهول، قد يسمعه، لكن فقط لكي يعرف أنه تأخّر كثيرًا. هكذا تنتهي القصة، لا على انفجار، بل على ما يشبه شهقة رماد: صوت لا ينقذ، بل يرسّخ العزلة.
يمكن وضع قصة “فيزوف” ضمن سياق عالمي لأدب العزلة الحديثة. فهي توازي من حيث البنية والمناخ أعمالًا لهاروكي موراكامي، أو ريموند كارفر، حيث يغيب الفعل، وتُصبح التفاصيل الصغيرة – مثل فتح المظروف أو إطعام قط – معادلًا رمزيًا لحياة بأكملها تنهار ببطء. وكما في أعمال كاو كينغ، يبدو أن الكائن غير البشري (القط، الطائر، الشبح) هو الوحيد الذي يستمع، حتى وإن كان قد مات.
فيزوف ليس قِطًا فقط. هو آخر من تبقى. آخر من سكن عالم عمار. وموته لا يعني نهاية علاقة، بل نهاية قابلية العيش نفسها. هو البركان الذي لم ينفجر، بل ابتلع صوته، وظل مدفونًا حتى اللحظة الأخيرة، ثم قال:
“بس أنا مرجعتش يا عمّار”.
بهذه النهاية، تُصبح القصة عن الإنسان الذي لم يعد يسمعه أحد. عمن ينتظر كلامًا فلا يأتي، من يبتلع صوته في زحام العالم. عن واقعنا المُفرط في الصمت، رغم كل صخبه الظاهري.
…………………
*كاتب وروائي عراقي
للمزيد.. اقرأ أيضاً: