محمد فرحات
منذ الصباح الباكر انهمك العم سليمان الصعيدي، في تسوية الأرض، ثم تقسيمها إلى خطوط مستقيمة طولية، يشكلها على صورة أحواض مؤطرة بخطوط مستعرضة، فنوبة الري قد أزف ميعادها بعد طول انتظار، فتراه في عجلة من أمره، ومع ذلك فاستقامة الخطوط الطولية، وما يتقاطع معها على حدود الأحواض من خطوط عرضية غاية في الاستقامة والإبداع، ومن الحين للآخر يهتف “الله…الله” مع ابتسامة رضا منيرة، حانية تظهر على وجهه الأسمر النحيل، وكان جسده في استقامة خطوط أحواضه الرشيقة، نحيلا بقوة، مفتول العضلات، ينم ارتفاع جبهته على عزم وتصميم وإرادة لا تلين، مستقيم الأنف، واسع العينين.
وكان العم سليمان الصعيدي قد سهر طوال الليل على ضوء ثلاثة مصابيح، وقودها الكيروسين الأبيض في تشكيل قوالب الطوب اللبن، تمهيدا لبناء مندرة الضيافة الجديدة لآل العيساوي، كان العم سليمان شابا صغيرا حينما عاصر ولي الله أبي المعارف العيساوي، وكان الوحيد، أو من القليل في جيله الذي نال بركة العهد من قبضة أبي المعارف في حياته، فأبوه الشيخ محمد الصعيدي كان لا ينقطع عن حضرات البندارية في ساحة العيساوي القديمة، وكان دائما ما يصطحب ابنه الصغير معه، فنشأ سليمان على محبة الطريق، واستقام عوده على أوراد البندارية.
وكما نشأ سليمان في ساحة العيساوية البندارية حرص على اصطحاب ولده أحمد الذي لم يتعد السبع سنوات، حيث تقام الحضرات البندارية على رأسها شيخهم الجليل أبي جمالة عن يمينه خليفته سيدي السيد العيساوي، وكلما رأى الشيخ السيد أحمد بشر أبيه سليمان ببشرى ولايته، فيقول “ولدك ياسليمان ولي صغير”، وأحمد الصعيدي كان يحفظ من صغره كل أوراد البندارية خاصة المنظومة البندارية، ومنظومة الاستغفار، والكثير من قصار السور حفظها على يد الشيخ أبي جمالة، وكان يحلو للشيخ سيد الاستماع للطفل الصغير أحمد وهو ينشد منظومة الاستغفار في الليالي التي كان يجالس فيها سليمان في داره، كان السيد العيساوي يجد راحة وطمأنينة جارفة في مندرة سليمان الصعيدي، فكان إن خرج من نطاق بيته ومسجده وخلوته، لايجد غير مندرة الصعايدة مرفأ سلام وطمأنينة ومحبة، وحينما كان يسأله المقربون عن سر ذلك، ولم لا يجالس الكثير من الأثرياء الذين يتمنون مجلسه، ويتمنون أن يخطو أعتاب قصورهم، وهو العالم الجليل، والشيخ المبارك، يقول مداعبا بنبرة جادة” والله إن مش الصعيدي، ألذ عندي من شهي لحمهم و ثريدهم…”
لم يخرج العم سليمان عن انهماكه في العمل، وكان الطفل أحمد يساعده ببذر بذور الذرة، على أطراف الخطوط التي يخطها سليمان، بمساعدة محراثه الذي يجره حمار أبيض وديع الصورة، عالي الصهوة، ليتوقف العم سليمان فجأة عن العمل، ويهتف بصوت يسمعه أحمد…
-حاضر…حاضر …أحمد هيجيلك حالا بالركوبة ياسيدي …!!
ليعجب الطفل أحمد من هذا الحوار الغريب بين أبيه وهذا الشخص الغير مرئي، وكان الطفل على حداثة سنة متقد الذكاء، حاد الملاحظة، فعاجل أبيه بالسؤال عمن يحدثه…
فابتسم الأب وأخبره بأن الذي يحدثه هو سيده السيد العيساوي، فتعجب أحمد لذلك كيف يحدث أبوه الشيخَ عن بعد وهو لم يره، فأخبره سليمان بأنه يوما سيعلم كيف تطوي المحبة المسافات والأزمان، ثم جهز سليمان الحمار، وأمر ابنه أن يذهب بالحمار لشيخه السيد فهو ينتظر عند الجامع الشرقي..
فركب الطفل الحمار وأسرع نحو الجامع، فإذا بالشيخ السيد يجلس على مصطبته منتظرا، فلما اقترب الطفل منه …قال له ” لا تسأل يا أحمد ثانية فتضيع الوقت، ويضيع العمر في السؤال تلو الآخر، امتثل للأمر توفر من عمرك الكثير والكثير …”
وبالرغم من ضخامة النصيحة، وصعوبة فهمها على من هو في سنه، إلا أنها وعى بعضها، واختزنها في ذاكرته، يرجع إليها في المقبل من عمره، وكلما رجع إليها، تكشفت له الحقائق على ضوئها…
***
وحينما اكتمل تشكيل العدد الْمُبْتَغَى من الطوب اللَّبِن، المتلألأ ذَهَبًا، كلما انعكس وميض ألسنة مصابيح الكيروسين الحمراء على ما رَصَّعَ جنباته من نثرات تبن، كشذرات ذهب منسي، ومن بركة طين مختمر، تفوح منه ذاكرة عطر الخلق الأول المتوج بسجود النور بين يديه، كان الطفل أحمد الصعيدي يغترف من طينه مِلاطًا على صفحات خشبية معدة، يناولها لأبيه سيدي سليمان المنهمك بكل ذرة من عزمه في رص الطوبة بجوار أختها، يوفق بينهما في تآلف لصيق، ثم يضع عليها من الطين المختلط بالتبن، فإذا البناء يرتفع مُتَمَاسِكًا رُوَيْدًا رُوَيْدًا، يشاهدهم السيد العيساوي وقد انساب حال البسط ففاض على كل من شاهد، ليلة تلو الليلة، يستقيم البناء عَالِيًا، تجتمع بين جنباته أفئدة تخفق بالحب والعشق، هي المندرة الأحمدية العيساوية الجديدة.
يجتمع الأحباب على رأسهم الشيخ ويبدأ سيدي السيد بقراءة صحيح مسلم، قبل الحضرة البندارية، فكان من مآثره حصوله على إجازة قراءة لصحيح مسلم بسند صحيح متصل للإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري، الملقب بأبي الحسين، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان منهج الشيخ السيد العيساوي مقتصر على قراءة متن الحديث دون إطناب في الشرح إلا تَفْسِيرًا مُقْتَضَبًا لما يصعب من الألفاظ، فكان يغار على لفظ رسول الله أن يزاحمه من غير لفظه النبوي، حتى لو كان لفظ السيد العيساوي نفسه. والغريب أن كل من كان يستمع، مهما بلغت درجة تعليمه أو عدمت، يفهم مغزى الحديث بل ويحفظه، فكانت بركة لفظ النبي تفيض على الجالسين معرفة وعِلْمًا ونُورًا.
ثم يشير الشيخ أبو جمالة لبدأ الحضرة آمرًا الجميع بقراءة الفاتحة، ثم ذكر السادة البندارية سيدي عطية، فسيدي جاب الله حتى سيدي العيساوي، ثم الوقوف على رأس الطريقة سيدي أحمد البدوي بأشعار معظمها من المنظومة البندارية، يرتفع بها صوت رفيع جميل يمتلأ شَجَنًا وحُزْنًا وحنَيْنًا يترنم به الطفل أحمد الصعيدي الذي أُّفْرِدَ له دور المنشد في الحضرة، ثم تلاوة أحاديث فضل التهليل، ثم ترتفع الحناجر بتدرج صوتي منتظم على إيقاع بديع بصقفة يد مدربة، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم القيام من موضع الجلوس في حلقة واسعة، تتشابك بها يد الأحباب، في وسطها الشيخ ينظم الدائرة، ويلصق يدا نافرة هناك بيد أختها، أو يصحح حركة غير متفقة، ثم ترديد لفظ الجلالة “الله” على سرعات متدرجة من البطء للتوسط للسرعة جَهْرًا، ثم الذكر بلفظ الجلالة” الله” سِرًّا ثم مشاهدة، ثم”حي” ثم السجود لله شُكْرًا على المحبة، ثم لا إله إلا الله ثَلَاثًا، ثم قراءة ماتيسر من القرآن الكريم، ثم يجتمعون على طعام لايتجاوز بعض ثمار الفاكهة، أو الأرز باللبن، أو بعض كسرات الخبز والملح. لتنير في بعض الأحيان أخشاب المندرة، أو يغلي إبريق الشاي بدون نار، وكان سيدي أبو جمالة وسيدي السيد العيساوي يحرصان كل الحرص على عدم إعلان ما يدور أثناء الحضرة من كرامات حسية، كانت الاستقامة ما يحرصان على إظهارها من كرامة، وكان سر الطريقة في أورادها المباركة.
إلى أن جاء الإمام البخاري مُعَاتِبًا سيدي السيد العيساوي، على إفراده صحيح مسلم بالتلاوة، فقبل السيد يد الإمام البخاري مُعْتَذِرًا بامتلاكه السند عن مسلم فقط، فابتسم البخاري ابتسامة القمر بين السحب، فقال” وهاك ياسيد السند مني…!” فكان للسيد سَنَدًا مُتَّصِلًا مباشرة للبخاري…فكان يراوح في القراءة بَابًا من مسلم، وآخر من البخاري، ليشيع حديث رسول الله بين فلاحي القرية، فيتعجب المعمم والمكوكل، من أزاهرة القرى المجاورة، من فلاح يروي حَدِيثًا بسنده للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعلم أن بركات الأحمدية البندارية قد حلت على تلك القرية الآمنة لتفيض على من حولها…