السيرة البندارية (7)

موقع الكتابة الثقافي art 18
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

سادت تغاريد العصافير، فتمايلت لها أذن الأشجار، فاهتزت طَرَبًا، ونسائم الربيع تداعب وجنات الأزهار، فتغار الفراشات، فتختلج ألوان أجنحتها المتداخلة، لتحملها أنوار الشمس، تظللها بسحابات حانية، تمشي الهوينى، تشهد عرسًا كوينًا ، واحتفالًا بميلاد نجم سيبزغ في سماوات الخير المقبل.

لم يزد وردك يا عيساوي عما كان، سوى غفلة قلبك النهائية عند الدنيا، ما من خاطرة تهفو لما وراء خلوتك، أصبح الكون خلوة تقطنها، وتهادى السر يسكن قلبك، ويفيض نوره فيزداد ألق الشمس، ويسبح القمر في أضواءه.

يأتي الشيخ البنداري فجأة كما ينهمر الغيث، فيُحي أَرضًا، ويُزهر خضارًا، وتلِين له الأَحجَارُ، وَكَأَنَّهُم كَانُوا جَمِيعًا على موعد ضُرِب في سحيق الزمن. يأتي الأحباب حلمي البكري، ومحمد بسيوني، وأبو جمالة، ومسرعًا يأتي السيد العيساوي. 

تُفْتَحُ أبواب الخلوة، فيبزغ العيساوي نجمًا، يبتدره البنداري “أَهلًا بالقطب المكتمل…” اكتملت في الأزل، وانتظر الكون أن تنساب سطور اللوح، يتحقق الغيب حَدَثًا بعوالم الشهادة. كنت قطبًا قبل اكتمال الأكوان، كنت قطبًا حين تَتَبُعَكَ الأنوارَ صغيرًا، كنت قطبًا حين تواجدت عِشْقًا تنقب عن شيخ دليل. وأنت شيخ.

واكتمل الأحباب جَمِيعًا بخروج العيساوي الأحمدي البنداري. يبشرهم البنداري كما اجتمعتم على المحبة دنيا، تجتمعون برزخًا، وَمَعَادًا.

يتوق العيساوي للقرآن، فيصبح الجميع على أغرب المشاهد فالعيساوي يجلس مع الصبية في كتاب أبي جمالة، يكتب معهم على اللوح، ويردد مع أصواتهم الآيات، وأبو جمالة يرجوه أن يجلس جانبه على أريكته، أو يفترش أبوجمالة معه الأرض، فيأبى العيساوي إلا أن يبقى أبو جمالة على أريكته، ويبقى هو مُفْتَرِشًا الأرض بين صبيان الكتاب.

يودعهم الشيخ البنداري، مُطْمَئِنًّا، بَاسِمًا، يُغَادِر لطنطا حَيْث الرَّوْضَة الْأَحْمَدِيَّة، يَقِف مناجيًا سيده بأسرار ويوصي أن يكلأ  السيدُ أ أبناءه إلى أَنْ تَرِثَ السَّمَاوَاتُ الْأَرْضَ، وتطأ الثُرَيَّاتُ الثَّرَى.

وَبِالعَابِدِ المَحْمُودِ سَيْرًا وَ سِيرَةً

أَقِمْنَا عَلَى التَّقْوَى وَ قَدِّسْ نُفُوسَنَا 

فَيَارَبُّ أَمْطِرْهُ سَحَائِبَ رَحْمَةٍ  

تُبَلِّغْهُ أَعْلَى الفَرَدِايسِ وَ المُنَى

***

ولما بلغ سيدي محمود البنداري حدود دنايوس  البندارية بالشرقية، استقبله أولاد أخيه صالح وصلاح، كانا صورتين مكررتين من الشيخ، إلا أن صَالِحًا كان ربعة يميل للقصر مع بعض الامتلاء، وكان يركب حِصَانًا بلا سَّرْج ولا لِجام، وكان الحصان في بعض الأحيان ينطلق مُسْرِعًا وصالح لا يميل ولا يضطرب، ثَابِتًا كأكمل الفرسان دربة وتَمَكُّنًا مع كونه كان كثير الغياب، نادر الكلام، كأنه قد رحل إلى غير أرضنا، كأنه لحق بالملأ  مُسَبِّحًا، تراه مُتَمِتما هامسًا دَوْمًا بأذكاره، وصلاته، وتسبيحه. 

وصلاح شقيق صالح، إلا أنه كان يميل للطول وبه بعض النحافة، يركب حِصانا مُطَهَّما، ظاهر السيادة، مكتمل الحِنكة في إدارة الأملاك، ومسايسة الحكام والفلاحين مَعًا،ليجمع كلا الفريقين  على حبه واحترامه، يذكرك بعزيز الكبير حينما ينشغل بالحسابات وتدبير الوارد والمنصرف، ولايقل صلاح، مع ذلك، عن صالح دِيَانَةً وَوَرَعًا، إلا أنها قد أصبحت سنة في آل عطية البنداري، منذ علي وعزيز، أحدهما للعشق ومكابدة الأحوال والارتقاء في المقامات وحوزة السر، والآخر للحَذْق، وسياسة الدنيا، وإدارة المال، وربما للوزارة وحكم العباد وقيادة البلاد. فسبحان من سخر صالح أولئك لهؤلاء، وترى كلا الفريقين في مسارات حياتهم، وخواتيم أيامهم أولياء سادوا الدنيا وكانوا سَنَدًا للدين، ومصابيح محبة يستضيء بهم العباد.

ولم يكن من عادة صالح وصلاح أن يكون كلاهما في استقبال الشيخ محمود البنداري، ولكن أحدهما كان يتناوب مع أخيه في استقبال عمه، فقد مات أبوهما شابا وتركهما لأخيه الشيخ فكان الأخ نعم الأب ونعم المربي. لا لم يكن أَبًا لابني أخيه، ولم يبالغ في محبته لهما، وحدبه عليهما، لأنه لم يرزق بعد بالولد، ولا لكونه قد بلغ السبعين من غير ذرية، ولكن لكونه كان رحمة عامة لخلق الله أجمعين، ومحبة للقاصي والداني، كان عَطْفًا خَالِصًا، وَشَفَقَةً تزداد بمرور الأيام والسنين.

ولما رآهما الشيخ علم أن في قدومهما مَعًا أَمْرًا ، فأومأ الشيخ مُستفسرًا ليخبره صالح، وكأنه قد آب لتوه من رحلة طويلة، وسرعان ما سوف يستأنف الرحيل، أن زوجته قد بشرت بحمل، وسبق أن يأست كما ييأس النساء، فسجد الشيخ شُكْرًا، وسجد لسجوده صالح وصلاح، وغاب صالح يهلل بصوت طَرِب، وقدم صلاح ،ضَاحِكًا، لعمه ركوبته، فلما اقترب الركب من الديار، نزل الشيخ وبعد أن اطمأن على زوجته، دخل خلوته وهام في سماوات الحمد ومقامات الشكر .

وبعد انتهاء شهور الحمل جاء صالح مُبَشِّرًا عمه الشيخ بابن وليد، كفلقة القمر، يصيح صياح الوليد وكأنه يُسَبِّح، يصل أجيالًا بأجيال، أَعْمَارًا بإعمار، ليهتف صالح، “مُصْلِح… مصلح… هو مصلح ياعمي”، فيبتسم الأب الشيخ “فليكن مُصْلِحًا ياصالح فليكن مُصْلِحًا” ليدور صالح حول نفسه فَرَحًا بفرحة عَمِّه الطَّيِّب مُكَبِّرًا ومسبحًا.

***

وعاد النيل يجري حَامِلًا الحياة بين موجاته الفتية الهادره، تحتضنه أرض طالما اشتاقت لوطأ خطوته المانحة الخصب والري، لتورقَ الْأَشْجَارُ خضارًا صَبِيًّا، ويَنْبُتُ الْخَيْرُ وَلِيدًا يَافِعًا، وَتَصَالَح الْأَيَّامُ الْأَيَّامَ، وَيَصْفُو الزَّمَنُ بَعْدَ طُولِ عَبْسٍ وتجهمٍ .

يعود الفلاحون لديارهم، يحتضنونها بأنفاسهم، ويربتون على شقوق جدرانها بتراب اختلط بماء كعطر الصباح.

ولكن عام الجدب أثر سَلْبًا على صحة الشيخ الجليل جاب الله وبرحيل العام رحلت عافيته، وكأنما أنفقها جَمِيعًا مع ذهبه وفضته التي أنفقها في سبيل من اجتاحهم الجوع فلجأوا إليه. يتذكر جاب الله وكم تغزوه الذكريات بلا ملل، ملحة بصفوها وكدرها، بأفراحها وأحزانها الكثيرة، ربما كانت هذه الخطوات الخافتة التي تنوء بها قدماه، مستندة على عصا أبيه السطوحي عطية البنداري هي خطواته الأخيرة… يبدأ بزيارة المقابر  الجاثمة بالصحراء البعيدة، يرقد فيها بسلام ولأول مرة الولي بجانب الشقي، واللص بجانب الشرطي، والشريف بجانب الحقير، والفقير بجانب الغني تعلوهم السكينة ويجللهم السلام، لا تنابز ولا ملاحاة ولا مطاردة كلهم تحت رحمة ربهم التي وسعت كل شئ. يدعو ويقرأ فواتح كثيرة تشرأب الأرواح لنيل بركاتها.

كم أثرت فيك الأيام ياشيخ، لترجع لا تبارح خلوتك، ويتناوب أبناءك علي وعطية الخدمة والسهر.

علي لمكابدة العشق، وعطية لمسايرة الحياة، هي القسمة التي ماشذت يَوْمًا، والسنة التي ما انقطعت في ذرية عطية الكبير.

يخطو جاب الله خطواته الأولى نحو حياة أخرى بكيفية أخرى وقوانين جديدة.

 يستقبله الأعزاء أبوه عطية وأخواه علي وعزيز يتقدمهم السيد ذي الراية الحمراء، الأحمدي المسمى، العيساوي القدم، كلهم في ميعة الشباب ورونق الفتوة، لترحل إلى مالانهاية تجاعيد الأيام وشيب السنين، يودعه الأبناء والأحفاد و المريدون…

هنا كان يحيا يَوْمًا شيخ جليل يدعى جاب الله البنداري، ولاتكف الصباحات عن الرحيل ملاحقة المساءات الحزينة، والنهار الباسم يعقبه ليل كئيب، لا تمل السنون، ولا تتوقف الأزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال