د. نعيمة عبد الجواد
الفن السنيمائي في مصر ثابت الجذور، تميز منذ نشأته على أرض مصر برقي وتقدم جميع تقنيات الصناعة على مدار عقود طويلة. ويلاحظ أنه قد ظهرت السينما في مصر بالتزامن مع ظهورها في العالم. ومن الجدير بالذكر أن أول عرض سينمائي تجاري في العالم كان في ديسمبر 1895م في العاصمة الفرنسية باريس، وتحديداً بالصالون الهندي، بالمقهى الكبير (الجراند كافيه)، الكائن بشارع كابوسين بالعاصمة الفرنسية باريس، حيث تم عرض فيلم صامت للأخوين “لوميير”. ثم تلى ذلك بأيام معدودة تقديم أول عرض سينمائي في مصر، بالتحديد في مقهى (زوانى) بمدينة الإسكندرية في يناير 1896م، وتبعه عرض آخر يعد أول عرض سينمائي في مدينة القاهرة في 28 يناير 1896م، في سينما (سانتى)، ثم كان العرض السينمائي الثالث بمدينة بورسعيد في عام 1898م. ويلاحظ أن أهم ثلاث مدن في مصر استقبلت أول عروض سينيمائية تجارية ليس فقط في تاريخ مصر والعالم العربي، ولكن أيضاً في تاريخ السنيما العالمية بأسرها. مما يعني أن مصر حفرت سمها كواحدة من أهم المراكز لصناعة السنيما في العالم.
ولذلك أقبل على هذه الصناعة الكثير من الأثرياء ومحبي الفن السنيمائي الذين يودون استثمار أموالهم؛ لضمان أن هذه الصناعة تدر عائدا مضمونا. ولنجاح تلك الصناعة الجديدة، حاول المستثمر الذي استحق عن جدارة لقب “المنتج” أن ينتج أفلام عالية الجودة، والمضمون قدر المتاح في تلك الآونة لاجتذاب أكبر قدر من المشاهدين. ولضمان جودة الأفلام، لجأ المنتج لاستخدام أحدث التقنيات السنيمائية في ذاك الوقت، والاستعانة بالخبرات الأجنبية، واللجوء إلى القصص ذات المغزى، والمضمون المفيد للمجتمع الذي يساعد على تقدمه وتثقيفه. فكانت جميع الأفلام تعنى بتقديم العظة، والنصح والإرشاد بجانب الإمتاع والإبهار. وتوافرت تلك العناصر حتى في الأفلام الكوميدية الخفيفة؛ وذلك لأن الهدف الأساسي للسنيما في ذاك الوقت كان الجودة، واستقطاب الجمهور بشكل راق لضمان الانتشار وتحقيق الربح الوافر السريع.
وعرفت مصر بعد ذلك باسم “هوليوود الشرق” لتنوع الأفلام بها، وتميزت الأفلام بجمالها الذي أثرى الوسط الثقافي بمصر سواء بين طبقات المتعلمين أو حتى الأميين؛ الذين وجدوا بالسينما متنفساُ لأحلامهم وأوهامهم، وناصحاً يمدهم بالخبرة والدرس الأخلاقي. ومن الجدير بالذكر، أن سينما “الأبيض والأسود” بمصر تتميز برقي وجمال فريد، لما لها من سحر خاص يجذب الألباب والمشاهدين من مختلف الأعمار، وعلى مر العصور، حتى وإن تميزت قصص الأفلام وطريقة عرضها بالبساطة، أو حتى التواضع، لكنها في نهاية المطاف تعد عنصراً جاذباً، لا يمكن الفرار من سحره والرغبة في مشاهدة المزيد منه.
وعلى هذا، فإن سنيما الأبيض والأسود في مصر كانت ولا تزال رمز الرقي. وهي ولا تزال أيضاً تحظى بجمهور واسع حتى يومنا هذا. مع العلم، أن جمهورها ليس فقط من كبار السن، ولكن أيضاً من جميع الفئات العمرية التي تأسرها شدة رقي التقنيات السنيمائية المستخدمة، وتفاني العاملين على الصناعة بالرغم من بساطتها، عند المقارنة بالسنيما المعاصرة.
ولكن مع توالي العصور، وبسبب التغييرات السياسية والاجتماعية المتلاحقة التي تشهدها مصر، بدأت تمر صناعة السنيما في مصر بمنحنيات خطيرة، وتشهد قمم وقيعان غير مسبوقة ظهرت مرات وكأنها مؤشر للنجاح، ومرات أخرى على أنها منعطف للانحدار الذي لن يعقبه نهضة.
ومن أشد المنعطفات قسوة في تاريخ السنيما المصرية كانت موجة أفلام المقاولات التي أطلت بوجهها القبيح على السنيما المصرية في ثمانينات القرن الماضي. و”أفلام المقاولات” كمصطلح تشير إلى أفلام ذات ميزانية منخفضة جداً، مما ينعكس بالفعل على جودة عناصر الفيلم، من قصة وسيناريو، وإخراج، وبالتأكيد، على التقنيات المستخدمة في انتاج تلك الأفلام. ومن الطريف جداً عدم معرفة أحد سبب تسمية تلك الأفلام المنخفضة التكلفة بهذا الاسم. ولكن فيما يبدو أن من أطلق هذا الاسم عليها كان يرغب في التهكم على هذه النوعية من الأفلام التي ينتجها فئات لا تمت لصناعة السنيما بصلة، ويقوم على اخراجها وتصويرها وكتابتها اسماء مغمورة ليست جديرة بصناعة السنيما، وذات خبرات محدودة، وقد تكون منعدمة في مجال الإنتاج السنيمائي. أضف إلى ذلك، أنه كان يتم تصوير أفلام المقاولات في أسبوعين فقط، ولقد ذكر أحد نجوم أفلام المقاولات تلك أنه تم تصوير فيلم بأكمله على مدار أسبوع واحد فقط. وكثيراً أيضاً ما كان يعمد مخرجوها لكتابة قصة الفيلم بأنفسهم، ربما طمعاً بحصة أكبر من المال. وعلى هذا يظهر المنتج وكأنه “مقاول أنفار” لتنفيذ مهمة ما.
ويكمن السبب الحقيقي وراء ظهور تلك الفئة من الأفلام الرديئة التي تدعى بأفلام المقاولات هو ازدياد هجرة العمالة المصرية بشكل غير مسبوق لدول الخليج، والتي فتحت سوقاً كبيراً لتسويق أفلام المقاولات لدول الخليج، التي كان يتم انتاجها بغية العرض على شرائط الفيديو، وليس على شاشات السنيما. وكان أكبر جمهور مستهدف لمشاهدة تلك النوعية الرديئة من الأفلام هو العامل البسيط، أو الموظف المنهك الذي يعمل طوال النهار ويرغب في مشاهدة فيلم خفيف في نهاية اليوم. وعلى هذ اشتهرت هذه الأفلام بخلطة مميزة تجذب المشاهد، ألا وهي: الكوميديا، والرقص، والإغراء، والإثارة، ولربما كان وجود بعض الحركة مثل وجود جريمة أو مطاردة، ولكن أيضاً بشكل خفيف.
أما نجوم هذه الأفلام، فغالباً هم نجوم صف رابع، أو نجوم يمرون بظروف مالية صعبة، أو أسماء مغمورة لم يسمع عنها أحد، لكنهم مستعدون لعمل أي شئ لمجرد وضع اسمهم على أفيش عمل سنيمائي.
ومع اندثار أفلام المقاولات بعد حقبة التسعينات التي تزامنت مع اندثار وعدم جدوى وجود جهاز فيديو بالمنزل لعرض الأفلام؛ لانتشار القنوات الفضائية وقنوات الرقص والغناء، بدأت أفلام المقاولات تجد متنفساً لها في مواسم الأعياد، التي تجذب جمهوراً واسعاً من طبقات – في كثير من الأحيان – غير معتادة على ارتياد السنيمات، لكنها قد تذهب لرؤية ما يعرض على الشاشة الفضية أيام الأعياد لصرف المال الوفير الذي تواجد معها، ولامتاع شعورها بخلطات الفن الرديء الذي يسهدف الإثارة وليس الفن الجيد. لكن يجب ألا أن ننسى أن سنيما الأعياد مرات كثيرة تشهد نزول أفلام درجة أولى من الطراز الأول الذي يجذب جميع الفئات، ويجبر الطبقات المثقفة، والمنخفضة الثقافة، والمهمشة على مشاهدتها.
أتمنى أن ننعم في هذا العيد بأفلام الدرجة الأولى التي تمتعنا وتجعلنا راغبين في ارتياد دور السنيما. لكن الأماني قد لا تتحقق في كثير من الأحيان لأن أفلام المقاولات تظهر فجأة ودون سابق انذار.