الرسائل.. فصل من رواية “بار توماس”

حسين عبد الرحيم: "زووم إن" مرثيتي الجديدة عن فردوسي المفقود "بورسعيد"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

كنت قد مللت من الرسائل ولم امل . قلت له هذا، ونزلت من بيتي في دار السلام، وصلت للزمالك عن طريق مترو التحرير، ورأيت البنت التي كرمها الرئيس، تنظر في بلاهة إلى النيل، نظرات حائرة، غير معلومة المغزى.

كتبت له كثيراً. قلت اعذرني يا جان، فانا مشدوه بهذا الكم من الرسائل، في حين أنني لم أعثر على مكان لوالدي، وجهة معلومة. تدلني . في أي البلاد يسكن أو يقيم، ضحك في رسالته الأخيرة وقال: اترك سيرة الأب، نحيها جانبا، اقتربت من نيل الزمالك، كان الأستاذ في محرابه، يفتش عن أوراق لقضية تحيره منذ أن كتب “الثرثرة” في قصر عائشة فهمي، كان الورق المسطور بأحرف رقيقة وكلمات ذات مغزي وجودي، تحيرني، سألته عن مدلول واقعية الوجود في المطلق، انطلاقا من كتاباته .

كان الشتاء قد زادت برودته، وأنا اتطلع لبيوت باروكية الطراز، انظر إلى “بار توماس” الذي صارت واجهته معدنية غارقة في الأسود × أبيض . وأتذكر موعدي القديم، في عام تسعين، وخروجي من بورسعيد، أكتب عن الحيرة، حيرتي في مسارات كثيرة. عن الفن، الأدب والسينما والمسرح، وشبح الاوبرا، وتلك الباليرينا الساحرة التي لم تفارق مخيلتي وأنا أشاهد “بحيرة البجع” وماهيات كتابة السيرة الذاتية، ومصير “أنيس زكي”، والأفلام الأخيرة لصاصا، زيارته لإسرائيل، ترددي وأنا الذاهب لسكنه في شارع السراي، أسأل نفسي، إن كانت هي زوجته، تلك التي قدمت لي الشاي في السادسة عندما كان يحدثني بغضب عن ما كتبت في الصحف، عن حيرة عيسى، ومصير ريري، يسألني فور دخول الهانم غرفة البنات، هل ذهبت إلى الإسكندرية مؤخرا، قلت صحوت على كابوس تراءى لي في البدء حلما بالخروج من قيدي، أنا المكبل بالحنين لأزمنة وبشر وأمكنة، عديدة مجهولة في الواقع والصحو، تتراءى لي بوضوح في النوم، أنظر لنفسي في مرآة مشروخة على درجات السلم وأنا في طريقي لطرقة ذر جرس باب المخرج، عن أي الأشياء سأكتب، وهل تكفي سيرتي مع العائلة لتكون فيلمي الحلم عن المدينة، كتبت له من جديد، في ذاكرتي هذه المرة، قلت: ذهبت إلى الاسكندرية لأبحث عن منزل عيسى الدباغ بعيدا نسبيا من محطة الرمل، يضحك، وأنا المتردد في طرق عتبات الدخول وقت الغروب في الزمالك، العوامات شبه مطفأة، إلا واحدة تشبه لحد ما وتحديدا في شكلها الخارجي بالسلم وشكل الستائر.

ما مثلت فية رواية الثرثرة، أحاول ان استجمع قواى، اتذكر ماذا ساقول لصاصا عن الاسكندرية التي بهتت ملامحها إلا من روح أثيرة لم تزل تتفرد بها وحدها، سكندريتي، التي لا تراقب الغريب، إبنتي الصغيرة التي فرت على الاسفلت فور خروجنا من محطة مصر مرورا بمدخل النبي دانيال حتى طارت فوق أرصفة البازلت كطائر خفيف يبغي السفر بلا كوابح، تقفز وتضحك، أجرى خلفها في محطة الرمل، حتى إتينيوس الذي غامت ملامحه القديمة، تعبر نهر الشارع قافزة للجانب الآخر من الكورنيش بجناحين من رهف وطفولة وعشق للهوى موروث عن أبيها والذي رأيتني أنظرها، وأدقق النظر في حسية دقيقة لما وصلت إليه الصورة ونحن نضحك كلانا، فريحه وديدا ولولا، نجرى خلف البنت، على صوت مكتوم لبحر هائج، قبل غروب ليل الخميس في الشاطبي.

على باب الرقم 7 في الدور الثاني بشارع السراي، كنت أقف مترددا لم أزل، عين على تلك الهوات الطالة والمنفتحة من جدارات مصقولة بالزخارف الموشاة بالطوب الأحمر، أنظر في ساعتي في حيرة، ماذا سأحكي لصاصا عما رأيت في الإسكندرية، هل سأحدثه عن الغرقى في قايتباي، حسين الصومالي وخالد السروجي وطمان، وكتيبة الإستنزاف، أحمد متولي وربيع ويسري النحاس، وتلك النوافذ التي لم تزل على حالتها القديمة، منذ أن هشموها بالعصي البلاتين بعدما تجرعوا الترامادول بكثرة، حتى طرش الدم من فم ربيع فارتمي بجانب شادوف الرسوة في العام 80، عن ماذا أكتب .

قلت لنفسي وأنا لم أحزم أمري بعد، هل سأطرق الباب لأقابل صاصا لأحدثه عن خلل ما في الذاكرة، تصوري عن سيرة بطلي المنتمي واللا منتمي في الرواية التي لم تكتمل، الهواء يضرب الأشجار ويزوم الريح ويحلق الغبار وتنطفئ الانوار بغتة وقت طللي بشغف لا يهدأ للشرفات العالية المطلة على نيل الزمالك وبولاق، أحدق في المدى البعيد منصتا لهدر يتصاعد، ورجرجة لقطار يغرب من فوق كوبري يترك إمبابة ويغور في زعيق لا ينقطع

 

مقالات من نفس القسم