الرجل الذي أحب عازفة كمان في جنازته

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة: محمد فاروق


استوقفتني المرأة التي تعزف الكمان وهم يحفرون قبري، نظرتُ إليها مبتسمًا؛ فبدَأت في عزف مقطوعة موسيقية لم أسمعها من قبل، كان جثماني في خشبة خضراء مغطاة بكوفرتة زرقاء، نزل إلى القبر شخص؛ ليتسلَّم جثماني، ثم يفك الحبل المربوط فوق رأسي، ويوسدني في قبري، ارتفعت الحناجر بالتهليل والحوقلة، والصراخ،

بينما أهال اثنان التراب عليَّ في خفة وسعادة. عندما بدأ الشيخ في خطبته عن الموت، ووجوب الاستعداد له بالصالح من الأعمال، أخذ صوت الكمان يخفت ويبتعد.

 

بحثتُ عن العازفة التي كانت تتقدم المشيعين فلم أجدها، انصرفتُ عن الوجوه الباكية والضجرة والمتململة من حرارة الجو، واليوم السيئ الذي اختاره لي القدر كما قال أحدهم.

وقفت على مبعدة من مدفن العائلة حيث تصطف السيارات، لمحت المرأة التي تعزف الكمان، كانت تسند ظهرها على حائط أحد المدافن، تثني أحد ساقيها، ويصافح باطن قدمها البيضاء الحائط الوردي للمدفن اقتربت منها وسألتها:

– كم الساعة؟

لم ترد واستمرت في العزف، أردفتُ أنا:

– الطقس حار أليس كذلك؟ في أي عام نحن؟

لم تجب، وظلت على عزفها وإطراقها، تسبل جفنيها ثم تفتحهما، وتحدق في جسدي بإعجاب كأنها تود لثمه أو التهامه، قلت لها:

– لماذا لا تحدثيني؟ ألا تريني؟ ألا أعجبك؟! ليس من اللباقة والأدب أن تتجاهلي رجلًا يحدثك، وأن لا تلتفتي لوجودي، خاصة في هذا الحفل، أنا موجود بدليل أنك تبتسمين لي.

لم أفلح في أن أجعلها تتكلم، ألقيت نظرة على المدفن، وجدت الناس قد انفضوا عني، وخلعوا أقنعة مهرجي السيرك التي كانوا يرتدونها، فتحوا أبوب سياراتهم، وأشعلوا محركاتها، مع ارتفاع ضجيج المحركات وأصوات المقرئين من السيارات، كانت العازفة قد اختفت، بينما كان رجل لا أعرفه يرش ماءً على قبري من صفيحة صدئة مكتوب عليها: جبنة براميلي إنتاج مصانع الحاج إبراهيم عوض المنوفي.

الواقع أنني عندما استيقظتُ هذا الصباح منهكًا من العلاج الجينومي، قررت أن أزور يوم وفاتي، الأطباء يقولون إنني ربما أموت بعد سنتين، أي في الثاني والعشرين من شهر أغسطس آب عام 2157، بنسبة خطأ تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر يومًا- أي عندما يكون عمري مئة وثمانية وعشرين عامًا وخمسة شهور تقريبًا- بعد أن تم حساب كفاءة استجابة جيناتي للروبوت الذي يعمل على العلاج الجينومي لطفرات بالحمض النووي؛ أدت لإصابتي بالسرطان.

أثناء زياراتي ليوم موتي لم أستطع أن أعرف تاريخه أو في أي سنة نحن، شغلتني العازفة فنسيت أن أطالع تصريح الدفن عندما أعطيته لحارس المقبرة بعد أن وقع من يده. لم أر زوجتي في الجنازة أو أي أحد من أبنائي أو أبناء وأحفاد أحفادي، ماذا سيحدث لهم؟ لماذا لم يحضروا؟ هل سيصيبهم مكروه؟ أم سيتخلفون لانشغالهم ببعض الأشياء الضرورية.

وبينما تعصف بي الأفكار اتصلت بي زوجتي على جهاز قياس الوظائف الحيوية الذي يحيط برسغي اختفت الرسوم البيانية الضوئية مؤقتًا، وظهرت صورة زوجتي، كانت ودودة للغاية، وأخبرتني أنها ستعاود الاتصال في المساء، وربما في غضون ساعتين؛ لتطمئن علي. أنهيت الاتصال، بعد قليل سمعت طرقًا على الباب، فتحته ببصمة صوتي فإذ بي أراها أمامي، إنها هي عازفة الكمان التي رأيتها منذ قليل في جنازتي. قالت:

– مرحبًا، هل تأخرت؟ لقد حضرت قبل أن أخطر في بالك، كنت سأخطر في بالك بعد 5 دقائق بالضبط.

– لماذا اختفيتِ بعد الجنازة؟

– لأقابلك هنا، لقد كنا على موعد.

– وأين الكمان؟

– في صدري.

_ في صدرك؟!

– نعم.

كشفت عن صدرها، وضمته بيديها فخرج من مفرق نهديها كمان، عزفت لي نصف عارية، ثم توقفت فجأة وقالت:

– لا يصح أن أعزف أي شيء، من التأدب أن أسألك: ماذا تريد أن تسمع؟

– أريد أن أسمع المقطوعة التي عزفتيها يوم موتي، كانت رائعة، من مؤلفها؟

ضحكت:

– أنت.

– أنا؟! ولكني لم أؤلف موسيقى في حياتي.

– بل فعلت؟

– متى؟

– منذ قليل.

_ تقصدين يوم وفاتي؟

_ نعم، لقد ألفت قطعة موسيقية وهم يدفنونك، كانت مكتوبة على جسدك.

_ غريب، لم ألحظ ذلك.

– لأنك كنت مشغولًا بي.

– وأنت لماذا لم تردي على أسئلتي؟

– كنت مشغولة بعزف الحروف المكتوبة على جسدك.

– لكني قلت لك أنا لم أكتب شيئًا على جسدي؟ أنا لا أعرف أي شيء عن الموسيقى.

– بل كتبت وألفت.

– من أين أتيت بهذا اليقين؟

– من معرفتي بك أنت موسيقي ليس له مثيل!

– تسخرين مني؟!

– صدقني، عندما تموت تأمل جسدك ولا تنشغل بالنظر إلي وحينها ستعرف الحقيقة، تكتشف أنك أعظم من ألَّف الموسيقى، إلى اللقاء.

– إلى أين؟

– علي أن أذهب… عندي حفلات كثيرة حول العالم، أراك يوم جنازتك، ولا تنشغل حينها بغير الاستماع لعزفي، لا تسألني عن شيء فقط استمتع بعزفي لموسيقاك؟

– من أنت؟

– ………

– لماذا لا تردين؟

– ……..

– إلى أين أنت ذاهبة؟

– ………

– لا ترحلي أرجوك…

…….

– لا تأخذي الكمان….

– لا تعيديه إلى مفرق نهديك، اتركي لي شيئًا من رائحتك وجنونك.

– ……..

– سأموت بعد عامين وهذا وقت طويل، طويل جدًّا حتى أراك مرة أخرى.

– ……..

رحلت عازفة الكمان، وحضرت زوجتي من مركز علاج في مدينة بروتون الفضائية بالقرب من القمر، حيث كانت تقضي عدة شهور للعلاج بالأشعة الكونية من أجل الحفاظ على بشرتها والقضاء على التجاعيد. دخلت الغرفة، قبلتني ثم نظرت إلى شاشة الوظائف الحيوية المثبتة حول معصمي، راجعت الرسوم البيانية والأرقام التي تشير لعمل كافة أجهزة الجسم، تتبعت مسار الروبوت الصغير الذي يتجول بجسدي ويحمل العلاج الجينومي، قالت:

– عظيم يبدو أنك ستعيش أكثر، ربما لن تموت قبل أن تبلغ المئة والسبع والثلاثين، أي بعد تسع سنوات، هذا واضح من هذه الأرقام وربما تعيش أكثر لو نجحنا في تعديل تلف البروتين الذي سيؤدي بك إلى الزهايمر بعد خمس سنوات؛ لكن دعك من هذا الآن، يبدو أن الروبوت نجح في حل شفرة الطفرة التي أدت بك إلى السرطان، انظر مُنحنى انقسام الخلايا يهبط بشكل معقول، هذا خبر سار، أنت تتعافى، يجب أن نخبر الأطباء.

وضغطت على زر أحمر، وأرسلت البيانات إلى الطبيب على الشاشة المثبتة في يده، أرسل الطبيب بعض دقيقة رسالة قصيرة على شاشتي، تقول: “هذا رائع… هذا رائع، أنا قادم بنفسي”.

قبلتني زوجتي وقالت يجب أن نحتفل، يجب أن نحتفل، فيما أنا صامت، أحاول أن أسترجع ملامح العازفة أو أدندن بالموسيقى التي عزفتها في جنازتي، فلا أستطيع.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص –  مصر

ـــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان المصري: سمير عبد الغنى

ـــــــــــ

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم