الدليل

الدليل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مريم سمير أحمد

جلس شيخ العرب وسط أصدقائه يحتسون القهوة.. والنار بينهم مشتعلة تعطي الدفء للمكان في ليلة شتوية هادئة والسماء واضحة بلا غيوم مرصعة بنجوم لامعة.

كان أصدقاؤه يحكون النوادر وهو يستمع ويضحك في وقار كانوا يحبونه ويحترمونه منذ أن ظهر بينهم فجأة من زمن طويل معظمهم لا يتذكر متي ولا يعرفون لماذا قرر أن يعيش معهم ويترك حياته السابقة خلفه بكل ما فيها، عندما عم الصمت علي مجلسهم تجاسر أحد الصغار وسأله: قل لي يا شيخ أنا أعرف أنك من أهل المدينة فلم تركتها وعشت في واحتنا منذ زمن طويل؟ صمت الشيخ ولم يعقب وأخذ يخلل بأصابعه ذقنه البيضاء بينما نظر الآخرون للسائل نظرات غضب وعتاب وأخيراً تكلم الشيخ فقال: كنت تاجراً صغيراً في أحد أحياء العاصمة وكنت أتاجر مع أحد سكان هذه الواحة، وفي يوم كان لهذا الرجل دين عليّ طلبت منه الانتظار حتي أجمع له المال فوافق علي أن أوفيه به علي واحته، وما إن اجتمع في يدي المال حتي أجرت أول دليل وجدته ليرشدني في الصحراء الواسعة إلي واحتكم، لم أرتح للدليل في البداية ولكن خدمته لي نهاراً وتسليته لي ليلاً جعلني أأنس له وأعترف له بسبب خروجي ورحلتي تلك، وفي صباح الليلة التي عرف فيها سبب سفري استيقظت لأجده جالساً علي بطني وفي يده سكين يلمع نصله تحت أشعة الشمس ويقول لي في هدوء: عذراً إنني أحتاج للمال أكثر من الرجل الذي خرجت من أجل رد دينه، وما كاد يضع السكين علي عنقي حتي فوجئت بصوت عال وطلقة رصاص استقرت في رأسه كان علي أثرها أن غطي الدم وجهي.. قمت مذهولاً وأزحته من فوقي لأجد من خلفه رجل ملثم فوق جمل أشهب له بقعة سمراء في رقبته ظللت انظر له في صمت وأنا بين الذهول والتعجب من أين جاء؟ ومتي؟ لقد ظهر فجأة كأنما جاء من تحت الأرض.. أو ربما من السماء، لم ينتظر حتي أتكلم وإنما قال من خلف اللثام: قم لأوصلك إلي ما تبتغيه ومن دون أن أرد قمت ليأخذني ويصبح دليلي، كان قليل الكلام كثير العمل، حاولت أن أتكلم معه ولكن كان دائماً ما يصدني إما بكلمة باترة قاطعة لسيل الكلام وإما بالصمت، كان غريباً حقاً.. غرته بيضاء كمن جاء من الظل حالاً وليس صاحبها من عاش تحت شمس الصحراء حتي أسود وكان دائماً ملثماً لم أنجح ولو مرة في أن أري وجهه بالكامل كأنما كان يخشي ذلك.. فضلاً عن أنه أخبرني بأن الدليل السابق انحرف بي عن طريق القوافل لكي يستطيع أن يقتلني ولكي نرجع للطريق الرئيسي استغرقنا فترة من الوقت في السير في طريق صخري تلمع الأرض تحتنا كأنما نمشي علي زجاج وتصهرنا الشمس من فوقنا كأننا في يوم الحشر، فكان يسقيني الماء كلما أحسست بالعطش بينما لم أضبطه ولو مرة واحدة وهو يشرب حتي في تلك الأيام الصعبة التي كنا فيها، وعندما خرجنا إلي طريق القوافل وظهرت واحتكم علي بعد النظر توقف والتفت لي قائلاً: هذه الواحة التي تريدها هيا اذهب، مشيت بجملي بعض الشيء ثم التفت وله وقلت: شكراً جزيلاً.. هز رأسه ولم يعقب، فقلت: ألن نلتقي مرة أخري؟ سمعت ضحكته من خلف لثامه، ثم قال: لماذا؟ رددت عليه: لقد أنقذت حياتي وهذا دين عليّ أود أن أرد ولو جزءا صغيرا منه.. فقال: ادعو لي الله أن يرضي عني ويغفر لي، هذا هو رد دينك.. فقلت: هذا فقط؟ فرد: هذا فقط.. ثم أكمل: هيا اذهب.. سرت بجملي دون أن التفت، وبعد لحظة التفت لأجده قد اختفي دون أن يترك وراءه أي أثر..

صمت الشيخ وأرسل بصره إلي النار فترة ليست بالقصيرة حتي حسبه من حوله أنه نام وعيناه مفتوحتان.. وفجأة قال: لازلت أتساءل حتي الآن من هذا الرجل؟ أهو رجل حقاً؟ أم ملاك أرسله لي إلهي لكي ينقذني؟! لا أعرف إلا أنه أكسبني عادة لازلت عليها منذ أن رأيته من عشرين عاماً وحتي الآن أني أرفع يدي إلي السماء في كل يوم ادعو له الله أن يرضي عنه ويغفر له.. ولقد عشت في هذه الواحة لأن لديّ شعورا قويا بأنني في يوم من الأيام سوف أراه.. حتماً سوف أراه مرة أخري.

ــــــــــــــــــــــــ

قاصة من السويس

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم