الدراجة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الهادي الفحيلي

ماذا كان سيخسر لو انتظر قليلا؟

الدراجة عند مصلح دراجات لا أعرف محلّه. وهو مات وفي فمه سيجارة رخيصة من تبغ أسود، وبقايا سعال ولعاب. وأمي ما تزال تندب وتَنْحِط نحطا. أخي يحشو سيجارة بالحشيش وأختي في زاوية من الكوخ القصديري تضفر شعر دميتها الشقراء. وأنا أقلب عيني في وجوه المعزين عل وجهه يطلع ويبتسم ويقول لي إن الدراجة جاهزة.

ضاعت مني الدراجات التي صنعت. أغمض عيني وألصق العجلات بالهيكل المعدني وأرَكّب السلسلة وأقفز على السرج. يتبعني الأطفال وأنا أضحك وأسابق الريح على الطريق الخاوية. أفتح عيني فلا أجد غير الظلام وسعالا كبيرا آتيا من الغرفة الخشبية الداخلية ودخانا. يلعن اليوم الذي رأى فيه وجه أمي وأبصر قلبها يلعنه ويدعو الله أن يحرقه.

قبل يومين من أخذه إلى المقبرة جامدا فاتحا فمه ملفوفا في ثوب أبيض، قال لي إن “السيكليس” مريض وقد أغلق حانوته منذ شهر، والدراجة معطلة يلزمها إصلاح كثير. سألته عن شكلها فأجابني إنها “يِّيكالة” بعجلتين و مقود. منذ سنة وهي هكذا دون لون ولا شكل. والسيكليس سيعود إلى حانوته بعد أسبوع. مر يومان وماتزال خمسة أيام أخرى. وهو ذهب ولم يعد، وأخي يمص السيجارة المحشوة ويقول لي إنه كان يكذب. 

 في الليل عاد. يلبس أبيض في أبيض. لم نسأله وقال لنا إنهم أعادوه لأنهم أخطؤوا، فوقته لم يحن بعد. أكلنا ولم نكن في كوخ القصدير. لم يشعل “كازا سبور” وأخي لم يحش سيجارته وأختي حضنت دميتها الشقراء ونامت. لي غرفة وسرير نظيف. أطفأت النور وأغمضت عيني. لم أسمع سعالا ولا قلب أمي يحرقه. سمعت أصواتا تتمرغ في الضحك واللهاث. نمت وأنا أركب دراجة جديدة بنوابض في وسطها ومقود من ألومنيوم، وحلقت بها في طريق تخترق السقف صاعدة في الفضاء.

 في الصباح كان متربعا على لبدة من صوف خروف يحرك حبات مسبحة. قال لي إن دراجتي مركونة في المِراح الواسع. حركت رأسي مبتسما. ركبت وحلقت ثانية في نفس طريق الليلة الماضية…
 
في الليل قال إنهم نادوه كي يلتحق بهم هناك. يلبس أبيض في أبيض فتح بابا في السقف وطار. في الصباح فتحت عيني بصعوبة. أمي تنغزني في جنبي. قالت لي إن الكوخ لا توجد فيه ولو قطرة ماء واحدة. سحبت الغطاء على وجهي وتبعت أبي على الدراجة. حلقت عاليا وكان ينتظرني جالسا في حضن سحابة يلبس أبيض في أبيض…

……………

*قاص من المغرب

 

 

مقالات من نفس القسم