حين جاوبته وأنا أضحك كي أبعد عنه الهموم، تدلت الرؤوس الـتي فقدت ملامحها من فوق الأكتاف ، حدقت العيون إلى جيداً ، وطارت منها آلاف الغربان، تمتمت أفواه كثيرة ، بعضها طلبت أن أطرد وأمنع من المشاركة بالتشييع الذي لم أعترف به أصلاً ، وبعضها سخرت مني واتهمتني بأشياء كثيرة، أما أنا فتعجبت وتساءلت في داخلي :”لماذا لا تتدلى الرؤوس وتحدق العيون إلا عندما أتكلم أنا فقط؟”.
ما إن وضعوا النعش بجانب الحفرة حتى تطلع إلى من حوله ، ثم تمطط وحاول النهوض لكنه لم يستطع ولا أدري لماذا ، حينئذ طلب المساعدة وهو يتوسل، فلم يستمع إليه أحد، فما كان منه إلا أن نظر إليّ وابتسم ، ثم قال نكتة أضحكتني كثيراً ، وبينما كنت مشغولا بالضحك ، سقطت كف ثقيلة لعفريت ابن عفريت على رقبتي ، كادت توقعني أرضاً ، بعدها سمعت شتيمة بذيئة جدا ، شعرت بحقد طاغ تجاه كل الموجودين ، التفت إلى الوراء وأنا أغلي ، فرأيت الوجوه الواقفة خلفي محايدة تماماً.
حين حملوا النعش ، رفع رأسه فرأيت وجهه ينبض بالصحة والعافية ويلمع مثل قنديل في الليل ، وحين أراد أحدهم أن يدخل رأسه إلى داخل الصندوق رغما عنه ، أمسك صديقي بيده وعضها بقوة حتى امتلأ فـمه بالدماء ، ولكن يا للعجب ، لم يتأوه الرجل ولم يشعر بأي شيء على الإطلاق، وقبل أن يدخلوه إلى الحفرة راح يصيح بصوت مصحوب بغضب دفين:
ـ اتركوني.. لم أفعل شيئا..
في لحظة أكثر من هستيرية ، انتفضت كل حواسي ، وكان نبضي يجري عتيا بين القبور ، وفجأة عفرتهم بالتهديد والوعـيد ، ثم اندفعت باتجاه النعش وكل همي أن أخلصه من بين براثنهم ، ولكن قبل أن ألمسه ، اعترضتني الأيدي والأفواه وصادرت فمي المليء بالشجب والاستنكار ، اقترب مني ثلاثة رجال وجوههم معفرة بالتراب والعرق ، حملوني بصمت وألقوا بي بعيداً وعادوا إلى عملهم .
سمعته يناديني باسمي ، فلملمت بعضي ، ومن بين الأرجل زحفت عبر الأشواك باتجاه الحفرة ، وما أن وصلت إليها حتى مددت رأسي ، نظرت إليه فرأيته ينتحب بصمت ويقول بهمس:” آه يا دنيا”. في البدء كاد يغمى عليّ ، لكنني تمالكت أعصابي فمددت له يدي وقلت بصوت خفيض:
ـ انهض بسرعة لنهرب.
بغتة سمعت شتيمة مزلزلة ، ثم سقطت على رأسي وظهري محتويات الأفواه ، هوجمت من عدة جهات وانهالت عليّ الصفعات والركلات التي لا ترحم، وبعد لحظات وجدت نفسي وحيداً , منكسراً، مهزوماً ، ومرمياً فوق الأشواك والصخور الجارحة.
لوثوا ثيابه الناصعة البياض بالتراب وهو يصيح :
ـ أخرجوني يا صعاليك .. لست ميتا بل أنتم الميتون.
ثم رسم لوحة بالبراءة وأضاف:
ـ الحياة حلوة ولم أتمتع بها بعد .
كل نداءاته ذهبت أدراج الرياح وبمغمضة عين صار تحت التراب ، أما أنا فطردت كل آلامي ولملمت شـجاعتي ، واندفعت نحوهم كثور هائج ، أبعدتهم عن طريقي ، وقفت فوقه ، ناديته ، ثم تمددت إلى جانبه:
ـ كيف افقد شهامته ورجولته ودعابته وحديثه المحبب ، هذا حرام يا ناس انه لم يفرح بشبابه ، ولم ينم لصق الجسد الأنثوي بعد، أرجوكم أخرجوه فمكانه ليس هنا.
لم أسمع جواباً من أي بني آدم ، ولكن بعد لحظات تقدم مني أحدهم وأراد أن يبعدني بالقوة ، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما سمع أحدهم يقول:
ـ اتركه يفعل ما يريد , انه…
بقينا أنا وصديقي وحدنا ، جثة فوق التراب وأخرى تحت التراب ، ولكن ظلت أصواتنا الضاحكة تعلو وتطير مع طيور اليمام فوق الأودية والسهول ، بينما كان الآخرون يخرجون من المقبرة تباعاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب سوري
خاص الكتابة