الثلاثون المعلّقة
محمد عبده
اليوم يودع سالم عاماً و يبدء آخر جديد. الثلاثون من نوفمبر، والثلاثون من العمُر. استيقظ متأخراً على غير عادته، كسولاً، سعيداً بعض الشىء و تعيس. ليلة أمس كانت صاخبة. فرك عينيه. خطا مترنحاً بمحاذة الجدار، وأضاء الكهرُباء. أغرق رأسه تحت ماء الحنفية طارداً أثر الكحول من رأسه. تدق الساعة الرابعة مساءاً.
******
لم أكن عازماً على مغادرة العمل، ولم أقصد كل ماترتب من أحداث فى ذلك اليوم. ذهبتُ صباحاً إلى الشركة. وأصطدمت به كالعادة، لكنى لا أعلم ما الذى أصابنى اليوم. أنا لا أشعر بندم، ولكن كان يمكن أن أكون أكثر تحكماً .. أو هدوءاً، أنفعلت أمام مُساعدُته. لمّح لى مرةً أخرى بطرد عمال اليومية و أستبدالهم للمرة العشرون خلال تواجدى بهذة الشركة منذ عامان. تدافع السباب من فمى من دون وعى محاولاً أن تعبّر كلماتى عن فكرةٍ واحدة .. إنهم ليسوا ماكينات .. إنهم ليسوا ماكينات. كان مشدوهاً وأخذ يمررُ يده اليمنى بتوتر فوق صلعته، و الملفات تحاصرنى من كل صوب، ولمعة عين حنين. أظننى رأيتُ إبتسامتها أيضاً، لكننى كنت فاقع اللون غاضباً.
خرجت من مكتبه ولا أسمع إلا وقع خطواتى و لهث أنفاسى، ثم توقفت. عدتُ إليه، ولازالت ملامحه شاخصة كما كانت لم تتغير. أزدادت الملفات من حولى و أحكمت الغرفة جدرانها حول عُنقي. صحتُ قائلا لن أرفدهم، ونظرتُ إلى عينيى حنين الجامدة مكانها، فوجدتهما تلمعانِ بريقاً. خرجتُ منتشياً، وبعد دقائق جائنى قرار رفدى.
***
اليوم تم رفدى و غداً سأبلغُ الثلاثون. أعيش فى حى عابدين، جدرانٌ كُثر تشملنى أنا و أمى بأمنَهَا، وكئابتها. سئلتنى أمى لماذا عدتُ مبكراً؟. لم أجيب. أشعلت سيجارة ونفثتُ السم من خلال شيش البلكونة المغلق، ووجدَت أشعة الشمس حثيثُها إلى وجهى. وددت لو تعبرُ إلى رأسى، حتى جاءنى غناء فيروز من مذياع أمى. أغمضتُ عينى، و شممتُ رائحة تراب الشيش تختلط بدخان سيجارتى. تمايلت خلايا مخى بعد أن هبط الدم إلى باطن القدم. خَفَت الأوزانَ من حولى، و لم يحولنى جسدى من الطيران. عينيّ أحست بقوة ضوء الشمس من خلف الجفون المغلقة. هذا بفعل الصعود، نَفساً آخر ولازلنا نحن َ والقمر جيران. وجدتنى ممسكاً بيدها طائراً إلى السماء مخلفاً الشمس ورائي. أنا لازلتُ أتمايل، وهي بجواري فاتنة.
أفزعتنى دقات الباب الغير موصد. توقفَت فيروز، وتسألت أمى سالم ما كل هذا الدخان ؟. أشارت إلى عايدة التى أقتحمت الغرفة، فولت أمى أدبارها.
عايدة يا مكمن قوتى ووهنى. أحببتها منذ ُ سنوات، تباطئنا كثيراً فى خطوبتنا، حتى أضطرُرتُ من قِبل أمى منذ عام على التقدم لطلب يدها، ولازلنا خطيبين. مُتيمٌ أنا بتلك النظرة التى تحدجنى بها الآن، وجهِهِا شاخصُ بعيداً دون مواجهتى، ولكن عينيها فى أقصى مقلتيها ينظرا لى شذراً، والحلقُ الدائري فى شحمتى أذنيها خلف شعَرِها شامخاً ينذرنى بشؤم ٍ قادم.
باغتتنى .. حشيش مجدداً !. تعثرت نظاراتى، فاطفأت السيجارة، وقبلتُ وجنتيها. تحاشتنى، وفَتحت شيش البلكونة على مصراعيه. أضاءت الشمس الجدار الكئيبة من الداخل، أستندت عايدة على سور البلكونة. طالعتُها، ومسحتُ بيدى على باقة الزهور التى كانت قد أهدتنى أياها منذ شهر. أبتسمتُ وهى أمامى مولّيةِ الدُبر. أشعر بشىء غريب أثناء حضورِها، شىء يجتاحنى بُغتة ً، كأنها تملأ الفراغُ من حولى، فأجدنى قد نسيت يومى وما أحتواه من ساعاتٍ ودقائق رتيبة. أتقدم منها و أرِح يدى على خصرها، تُزِيحها برفق. أعلم أنها تعاتبنى، لعلها فى تلك اللحظة تحتقرنى. وأنا أعترف .. لا أحب تلك المسئولية. تفاتحنى عينيها ما الذى يؤخرنا ؟!. أشُيح بنظرى بعيداً. تتشبث يدها بخاتم الخطوبة فى أصبعها، تخلخله، ثم تنتقل إلى الإصبع الذى يقابله فى اليد الآخرى. فأباغتها لقد تم رفدى من العمل !.
***
لا أعلم هل تمكّنت منها فكرة الزواج أم أننى من تمكن منه الخوف ؟!. يتبدد الخوف أمام ملامحها العذبة، ويستبدُ بى فى خلوتى. عايدة تصغرنى بثلاث سنوات. وددتُ لو راودتُها و راودتنى. أشعرُ بخذىٍ حينما أُشبع شهوتى مع إحداهن من دونِها، وتضيق روحى بعد أن أفرغ، وأجدنى لاجئاً إلى الله طالباً المغفرة.
ألقيتُ عليها ما يُثقل كاهلى، ولم ألجم لسانى عن الإعتراف بما أقترفت من إتيان اللذة كلما سنحت لى الفرصة. أقسمتُ أيضاً أننى لا أحبُ سواها. أجلس الآن وحيداً فى عتمة الغرفة بعد أن غادرت عايدة، وخلفت وراءها صفعةً و خاتم.
خرجتُ من غرفتى أبحث عن أمى، وجدتُها تصلى. لابد أنه المغرب. عدتُ إلى ظُلمتى، وأخذت أفكر ملياً فيما حدث اليوم .. الشركة، التحليق، عايدة، وعينين حنين. شربتُ كأساً من زجاجة عتقتها لشهور، و قد أنتابنى شعور غريب بالراحة، لا أفهمه. صدح صوت أحمد العجمى من مذياع أمى. دلَفَت هى إلى الغرفة بعد أن أفرغت من صلاتِها. سألتنى كيف تجري الأمور بيني و بين عايدة. خبئت الزجاجة، و أجبتها أنها على أحسن مايرام. أنشرحت أساريرها، فقبلتُ رأسها الأشيب. خرجتُ ورائها لاتوضأ بعد أن باركتنى بأدعيتها. كبّرت، ركعت، سجدت، وسلمت. وجدتنى مبتسماً. لعلّه شعورٌ بالرضا يخامرنى. يستمر دقائق وقليلاً ما يمتدُ لساعات، ثم وجدتنى أهاتف حنين، وأرى بريق عينيها.
*****
أول يوم بدون عمل، الثلاثون من نوفمبر، وسالم يبدأ عامه الثلاثون، وقد أستفاق من أثر النعاس و الكحول. أرتدى ملابسه بتأنق، توقف أمام المرآه طويلا ً، أكثر مما يجب. نكس رأسه، نظر إلى شيش البلكونة المغلق .. أقترب. أستنشق التراب وعاد إلى مرآته المعلقة، وخرج.
***
أنتظرتُها مايقارب الثلاثون دقيقة. أنهكنى التفكير خلالهم. تحدثتُ إليها أمس، وألحَت أن تحتفل بعيد مولدى بمفردها. أستصغتُ الأمر وأستحسنته. لا أعلم على وجه التحديد لمَ، لكننى أحتاج ما يُخفى وهنى، ويحمل ثقل الأشياء من حولى. تتملكنى الوحشة من دون عايدة، ربما تهدهد حنين من روحى الثلاثينية.
أقبَلَت، فتنهدت. فى البدء كان تنهدى لكسرِها حاجز الزمن الذى أطبق على أنفاسى الدقائق الفائتة، لكننى حين رأيتها حقاً، تيبست عضلاتى، وكدتُ أفرغ فاهى. مددت يدى زاحفاً، فأنفرجت شفتاها قانية الحُمرة. سلّمت، وجلست. أخذتُ أحاصر خيالاتى التى ذهبت بعيداً بعيداً. أُقُبل عُنقها النرجسية. أُلطخ وجهى بلون شفاها الدموى. أفُرك رأسى كى أستفيق، ثم أعاود النظر خلسة إلى ثمرتيها. وأجد صوتى يخرج مسموعاً أستغفر الله. تضحك حنين متعجبة، فأنظر إلى عينيها البراقتين، و يدّى تفعصان الهواء أسفل المنضدة، وأقول لاشىء لقد تذكرت الحمار!. تعاتبنى بنظرةٍ حانية. تحاول أن تطمئنى بأننى سوف أجد عملاً أفضل. تتوقف خيالاتى. أتذكر أننى قمت بموقف نبيل من أجل هؤلاء العمال، فأقرر أن أسب الحمار ورأسمالِه و العمل. أسبُ وأضحك عالياً، وينعكس وجهى فى عينيها الواسعة. سعيدة هى. أشعر بها، وأشعر بحاجاتى الشديدة لملامساتها. أمرر يدى فوق يدها، فتحتضن هى كفى بقوة، فأغمض عينى. يُخيل لى تقبيلها، تتصارع الصور أمام عينى الغامضة، تشتعل غرفتى بالشموع. أحاصر خصرها بين راحتّى. أحتضنها طويلاً، نقع سوياً فوق الفراش. أفتح عينى أجدنا متشابكين الأيدى حقاً نصعد سلم عمارتنا. أهمس فى أذنيها ألا تُحدث ضجة تستيقظ من إثرها أمى. نعبرُ إلى غرفتى، إلى النعيم الجحيم. أتوقف أمامها مأخوذاً. تسابقنى ضربات قلبى. وحنين تتأمل الغرفة فى سعادة، وتشير إلى الناى. تأخذه من فوق الطاولة، وتناولنى إياه. تأملته فى يدى كثيراً، مررت بيدى فوقه أزيح عنه التراب. نظرتُ لعينيها، فأبتسمت إيجاباً، فقربته من فمى، نفختُ فيه، فأصدر آنينه خافتا. خِفتُ أن يُحييِ من الجروحِ ما نضب، فتوقفت. آخذته من يدى وقبلتنى. قبلتُ وجنتيها. شحمة أذنُها، و تأملت عينيها. أنفها الدقيق. وددت لو أخبىء رأسى فى ثناياها. أتمنى لو أبكى كطفلٍ عاد من التيه إلى صدر أمه. شرعتُ فى مناجاة أنوثتها أن تبتلعنى من هذه الدنيا، أعود إلى رحِمَها، وأختفى وألا أكون، لكننى رفعت وجهى فى علياء. لن أبكى، لن أبكى. ونظرت فى عينيها وأنا أعتليها، فوجدتنى أقول فى غرفة المكتب الضيقة حينما كانت تنظر إليِ أنهم ليسوا ماكينات ليسوا ماكينات. ولم أستطع أن أمنع عينى من أن تذفر دمعاً، لم تلحظه حنين أو تظاهرت. ألتحمنا كثيراً، ولا أذكر الزمن، لكننا كنّا عاريين. ونتمدد الآن متجاورينِ ناظرينَ إلى سقف الغرفة، بعد أن فرغ كلانا من غريزته.
أنا أتمتم الآن من دون وعىٍ آيات الفاتحة. أشعرُ بشىءٍ يوخزنى لا أعلم ماهيته. أضرب بطنى لعله يتوقف، لكن لا جدوى. أشعر باللذة تتحلل من جسدى ويحل محلها تعاسة ً تأخذ مكاناً قصىِ في قلبى. أبكي، يعلو صدرى ويهبط. أنظر إلى حنين أجدها غارقةٍ فى ثبات .. فاتنة. أقبض على يدى وأضربُ رأسى، ويزدادُ نحيبى.
ينتشر آذان الفجر في الخواء، ويأتى التكبير من كل صوب. أجدنى هدأت. أقوم لأستحم، أرتدى ملابسى، أجذبُ خاتم عايدة من فوق الطاولة بجوار الناى. ومن خلفى أغلقُ باب الغرفةِ بإحكام .. وأخرج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص من مصر