محمد العربي كرانة
اعتادت المدينة أن تراه وهو يذرع شوارعها ذهابا وإيابا، بأسماله البالية المطموسة الألوان، وشعره المتسخ المرسل على كتفيه وابتسامته الحائرة على شفتيه. كما اعتادت على هذيانه المتكرر.
متى ظهر في المدينة؟ سؤال لم يجد له أهلها جوابا محددا. تعددت الفرضيات، ولكن أشهرها وأكثرها تداولا تلك التي تربط ظهوره بها بأحد أعياد الأضحى منذ عقد من الزمان. فقد كان تاجر ماشية ميسورا يجوب الأسواق بشاحنته متاجرا إلى أن حط الرحال بالمدينة حيث وقع في حب امرأة أتت على ثروته وعقله معا. أدخل المستشفى مرارا دون جدوى، ثم أرسل إلى مدينة بعيدة مشهورة برعاية المجانين في مستشفاها، ولكنه فر بعد أشهر وعاد أدراجه نحو المدينة.
عاش حياة التشرد، رافضا كل المحاولات لإدخاله لخيرية بالمدينة، فترك وشأنه. لم يكن عدوانيا ولا عنيفا مما سهل عليه الاندماج مع بقية السكان الذين حرصوا على إطعامه، وكسوته قدر المستطاع لأنه كان يمزق كل الثياب المهداة له حتى يصبح شبه عار.
عانى من معاكسة الأطفال وشقاوتهم، ولكنه بالمقابل كان يحظى عند الشباب والكهول بالعطف، ومع الوقت أصبح من علامات المدينة. ظل “البوهالي”، وهذا لقبه وبه عرف، يجوب شوارع المدينة صيفا وشتاء دون ملل ولا كلل، ودون أن يؤثر فيه تقدمه في العمر.
كان من عادته أن يذهب إلى سوق الخضر وأن يصيح:
– أيها الناس، اسمعوا وعوا، وأخبروا من غاب منكم، يوم القيامة أصبح قاب قوسين منكم فاتقوا الله.
وبعدها يتمتم بكلمات غير مسموعة، يرفع على إثرها بصره نحو السماء لحظة قصيرة ثم يتقدم من رفوف الخضراوات ويتناول ما شاء منها وهو يقول:
– رزق الله لعباد الله، فلم تحتكروه يا عصابة السوء؟
يكتفي أصحاب الرفوف بالابتسام وبإعادة توضيبها. يبتعد إلى ركن منعزل حيث يقضم ما أخذه بشراهة ويقذف بما بقي بعيدا. ثم يبدأ مسيرته اليومية عبر أحياء المدينة وهو يلوح بقبضته مهددا عدوا وهميا. يتوقف أمام الفيلات الفخمة المكونة لأحد أحياء المدينة الجديدة. تظهر عليه علامات التفكير الشديد. يتجاهل الأيدي الممدودة نحوه بالهبات ويبدأ في عد الفيلات. واحدة … اثنتان … عندما يصل إلى عشرة يقف مترددا، يبحث في ذهنه عن الرقم الموالي دون جدوى ولما يعييه الأمر، يتناول حجرة يضعها أمام الفيلا العاشرة ثم يبدأ العد من الأول إلى أن ينتهي من الفيلات المتراصة على جانبي الشارع. يجلس القرفصاء ممسكا رأسه بين يديه ومجهشا بالبكاء بصوت مرتفع ليقوم من مكانه وهو يردد:
– الدنيا ملعونة… الدنيا ملعونة.
يعدو بكل ما تبقى له من قوة، وبين الفينة والأخرى ينظر خلفه ليقف لاهثا عندما تختفي المدينة الجديدة وراء أشجار الحديقة العمومية هنالك في أقصى اليمين. ليستند بعد ذلك إلى جدار المقبرة مستردا أنفاسه.
تمتد أمامه أحياء الصفيح المتاخمة للمقبرة، يتمم طريقه نحوها في هدوء غريب حيث يستقبله نباح الكلاب المتجهة نحوه مهددة. تعرفه، تتمسح به، يتمسح بها. تشاكسه مجموعة من الأطفال الأنصاف عرايا في مرح صبياني:
– البوهالي الحمق.. البوهالي الحمق
لم يأبه بهم. يوجمهم موقفه فيكفون عن مشاكسته. يتبعونه في رحلته الصامتة عبر أحيائهم الحقيرة. يتوقفون عند نهايتها ليشيعوه بصوت واحد:
– الله يعاون البوهالي…
يدخل المدينة من الناحية الجنوبية، يخرج عن هدوئه، يبصق عن اليمين والشمال وهو يدمدم:
– السرقة… الغدر.. الدنيا ما بقى فيها أمان.. القوي يأكل الضعيف.. والدنيا تدور… والدنيا تدور.. والدنيا تدور …
يرقص بعنف، يمزق أسماله وهو يردد:
– الدنيا تدور… الدنيا تدور…
يسقط أرضا، يتلوى في التراب. ينساب اللعاب من فمه، تتحجر عيناه ثم ينتابه الارتعاش من رأسه لأخمص قدميه. تحيط به جماعة من الناس، تتنقل الألسن:
– البوهالي تصرع… البوهالي تصرع…
لم يسعفه أحد لأن كل هؤلاء المتحلقين حوله يعرفون بأنها حالة يمر منها الرجل، وسرعان ما تزول ويعود لهدوئه النسبي، ينتظرون ما سوف يقوله في هذيانه الذي يصاحب دائما هذه الحالة. لا زال البوهالي يتلوى فوق التراب، ولا زال جسمه مسرحا لصراعات مجهولة. يتوقف الارتعاش والتشنج فجأة، تعقبه فترة هدوء تام تنبسط من جرائه أساريره ليردد بصوت منخفض:
– الدنيا تدور… الدنيا تدور…
ترتسم علامات الدهشة على محياه ، يمسح عينيه بكلتا يديه ثم يقول:
– إني أرى مدينة مكتومة الأنفاس، ترزح تحت ثقل سحابة سوداء. السحابة السوداء محملة بوعود كثيرة. كان من المفروض أن تمطر منذ مدة طويلة، ولكنها ما فعلت. أجيال متتابعة من أهل المدينة انتظروا عطاءها بدون جدوى. المدينة مشلولة الحركة. السحابة الجاثمة فوقها تكتم أنفاسها، تغلق المنافذ في وجهها. البحث عن حل أصبح الشغل الشاغل لأهلها. أعياهم الأمر فقرروا الرحيل. اعترض بعضهم واقترحوا أن يبحثوا عن وسيلة تجعل السحابة تمطر، لأن الرحيل لا يفيد في حل المشكل المطروح. لم يجد اعتراضهم آذانا صاغية فجرفهم تيار الأغلبية.
يعتريه التشنج من جديد، يكف عن الهذيان، يتلوى بشدة، يمسك قبضة من تراب، ينظر إليها مليا، يقبلها عدة مرات قبل أن يقذف بها الجمع المتجمهر حوله وهو يصيح:
– الدنيا تدور… الدنيا تدور…
يخف التشنج تدريجيا، يتوقف جسمه عن الالتواء، تسري همهمة في المحيطين به، ثم ينساب صوته في هدوء غريب:
– السفينة تنتظر أهل المدينة في الميناء. السفينة كبيرة جدا ولكن الأمواج تتلاعب بها كلعبة أطفال.
المدينة خلية نحل. الاستعداد للرحيل يستقطب اهتمام الجميع. الأطفال يجوبون الشوارع في حماسة وهم يصيحون:
حان وقت الرحيل… حان وقت الرحيل.
للسعادة بريق في أعينهم، للأمل مرتع في قلوبهم، يتصورون بعقولهم الصغيرة كيف ستكون حياتهم بدون هذه السحابة المعلقة فوق رؤوسهم، والتي تسحق هاماتهم. يرددون:
– الرحيل… الرحيل.
يكتسح أهل المدينة أرصفة الميناء بأمتعتهم. السفينة مفتوحة الأشرعة، ربانها شاب فتي خرائطه جديدة. السفينة تملأ الأفق ولكنها تبدو حقيرة أمام جبروت البحر. على جانبيها آثار دماء قديمة. البحر لا يحب الدم، رائحته تجلب الحيتان المفترسة وهذه تعيق مسيرة السفينة. يتطوع بعضهم لتنظيفها من بقايا الدماء، يصبح البحر أحمر اللون بينما تزداد حمرة الدماء على جانبي السفينة. يستسلم المتطوعون للأمر الواقع. ألواح السفينة وبقايا الدماء شيء واحد. يستحيل البحر والسماء والسفينة كلا أحمر، عسر الرؤية وهبوب ريح عاتية حالت دون انطلاق السفينة رغم استماتة ربانها. أصبح الرحيل مستحيلا. سكان المدينة لا يصدقون حواسهم. ينظرون بحسرة ولوعة للسفن المارة هنالك في الأفق البعيد. يلتفتون خلفهم، السحابة السوداء لم تبرح مكانها. يفضلون البقاء على أرصفة الميناء بدل العودة، يرتقبون في أمل نهاية العاصفة وهبوب ريح الشمال ليرتحلوا.
وضعت نوبة من السعال حدا لهذيانه، أدركت الجماعة المحيطة به أنه قد جن بكل ما للكلمة من معنى. وأن مقامه بينهم لم يعد ممكنا خاصة بعد تهديد باشا المدينة بترحيله مرة أخرى إلى مستشفى المجانين.
استفاقوا على صوت سيارة إسعاف تقف أمامهم، نزل منها ممرضان فسحوا لهما الطريق في صمت. اقتربا من البوهالي في حذر ولكنه استسلم لهما في خنوع، وعند اقترابهم من سيارة الإسعاف انفلت من قبضتهما واستدار نحو الحضور الصامت وهو يقول:
– الدنيا تدور… الدنيا تدور…
أحكم الممرضان قبضتهما عليه من جديد وقذفا به داخل سيارة الإسعاف التي شقت طريقها على صوت نفيرها المزعج.