البعث السردي.. قراءة في “33 عن الفقد والرهاب” لمينا ناجي

مينا ناجي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي قطب

يأخذنا مينا ناجي في سرديته التي تعد مقطعا روحيا من سيرته الذاتية، لمعالجة مفهوم الفقد بأشكال متعددة، فمحور السرد هو موت الأم، وهو يذكرنا بموت الأب في رواية نورا أمين الوفاة الثانية لرجل الساعات، مينا في هذا الكتاب الجميل لا يبحث عن نسيان أو يجعل السرد بكائية للرحيل، على العكس إنه يتمسك بحضور الأم في نفسه لدرجة أن هذا التشبث يتحول قرب نهاية الكتاب إلى احتماء بالمكان فتصبح مصر الجديدة معادلا للأم يحتضن البطل الراوي الذي لا يستطيع الفكاك من أسره مهما تصورته رؤى الصحاب في هيئة المثقف المنعزل غير المشارك في التفاعل الاجتماعي الواقعي.

والفقد أيضا في سردية مينا يعني موت البراءة فرقم ثلاثة وثلاثين الذي يلح عليه حين فقد الراوي أمه جرده من الطفولة الممتدة السعيدة التي يركن فيها إلى شخصية راعية يضمن احتوائها له وعطفها عليه في كل أحواله دون لوم أو نقد أو عتاب.

وهناك كذلك فقد توهج المشروع الإبداعي الذي يصبح مشتتا بين الأشكال والتأليف والترجمة، في وجود الأم كان هناك الوعد بالتحقق يوما ما فالطفولة مازالت قائمة أما بعد رحيلها فقد اكنشفت الذات وأدركت أنها لم تفقد الأم فقط وإنما لم تحقق درجة من التشبع في الميلاد داخل الإبداع بما يمنحها حضورا واضح المعالم في سياقها الثقافي.

في هذا الكتاب لا يقيم مينا سرادق عزاء لأم الراوي بقدر ما يحاول بعث الذكريات في الكلمات، وهي ليست ذكريات درامية في حواديت يمكن نقلها شفويا، وإنما هي ذكريات شعورية متجذرة في النفس لا يمكن التعبير عنها إلا بخطاب مكتوب فتكاد السردية أن تتشابك مع قصيدة النثر التي تختزن أسرارا في حياة الشاعر لا يعرفها إلا أقرب الناس إليه ويعبر عنها بطريقة مختزلة فيها التفكيك والإحالة إلى أشياء أخرى والنغمة الحزينة الشجية الناطقة بعمق المأساة التي يعيشها، وهي مأساة تنتقل من شعور شخص ما باليتم إلى استدعاء حالة اليتم الإنساني الكلي بمستواها الوجودي المؤرق المحفز للأسئلة منذ بدأ التجربة الأرضية، فيكاد يكون خروج الأم إلى العالم الآخر معادلا لخروج الابن من الجنة إلى الأرض.

ينتهي مينا ناجي في هذه السردية الشعرية إلى نوع جديد من الفقد هو انسحاق الإنسانية مستدعيا كافكا وعالمه الاستعاري بتحولات شخصيته إلى كائنات حيوانية من عالم الحشرات ليس لها الاختيار أو الإرادة نتيجة المعاناة الروحية والضغوط المجتمعية وفقدان التواصل الحقيقي مثلما يحدث مع الطفل بالميلاد حين يخرج من جسد أمه أو يحدث معه مرة أخرى بوفاة الأم التي خرج منها.

سرد مينا حافل بالإشارات الثقافية دون إقحام فستجد معه عالم السينما وعالم الشعر والترجمة واليوميات التي تعد تقنية تعبيرية لاستعادة الماضي المفقود برحيل الأم، وله وقفة طويلة مع علم النفس بسلاسة وتعمق استطاع أن يضع بطله أو قرينه أو ذاته العميقة في حصار يوازي حالة الطفل الذي أصبح دون الراعي الذي يأمن على نفسه في وجوده.    

مقالات من نفس القسم