إنها تُمْطِر روايات

mohammed Al fakharany
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

اختفت الروايات التي كَتَبَها بَشَر.

أو.. ليس بالضبط، هناك تفاصيل، مثل أنّها لم تَعُد موجودة إلّا في المتاحف.

 مُحتمَل أنّ أحدهم لديه رواية أو روايتين، لكن ثلاث؟ مَن المحظوظ؟ ربما نكتشف، حتى مَن لديه رواية واحدة عليه أن يَحذَر جدًّا وإلّا يُقتَل طمعًا في روايته.

رواية كَتَبَها بَشَريّ بلا مساعدة من ذكاء اصطناعي تساوي ثروة ضخمة، ورقة واحدة من هذه الرواية تجعل الشخص ثريًّا، نِصف ورقة تجعله ثريًّا جدًّا، ومُعَرَّضًا للقتل، سطرٌ واحد أو جملة واحدة من رواية بشريَّة بالكامل.

المسودّات محفوظة في أماكن أكثر خصوصية تحت حراسات مُعقَّدَة من أفراد والكترونيّات.

اختفت أيضًا الروايات البشريّة الصوتية.

بدأ الأمر تدريجيًّا:

لجأ بعض الكُتّاب إلى مُساعَدَة من الذكاء الاصطناعي لكتابة قصصهم ورواياتهم، أو لتحرير بعض المقاطع أو الجُمَل، أو لاقتراح أفكار، ربما بدأ قبل هذا، بالسخرية من قدرة الروبوت على كتابة رواية، واستبعاد حدوثه، ثم فاز الروبوت في مسابقة للقصة القصيرة اشترك فيها كُتّاب بشريُّون، لكن لم يهتم أحد، وتطوَّر الأمر سريعًا، كأن الروبوت نفسه لديه رغبة أن يكون كاتبًا، “لديه رغبة؟” نعم، لم لا؟ سيكون لديه أكثر من هذا.   

رفضَ بعض الكُتّاب أن يتدَخَّل الذكاء الاصطناعي بأيّ شَكْلٍ أو دور في كتابتهم، ولو بجُملة أو كلمة أو اقتراح، وامتَنَعَتْ أيضًا بعض دور نشر عن نَشْر أعمال أدبية يشارك فيها الذكاء الاصطناعي بأيّ دور، وكان هذا في شروط التعاقد، بعدما صار من الصعب معرفة إنْ كان النصّ الأدبي فيه تَدَخُّل منه أم لا، ولأيّ درجة وفي أيّ مرحلة من الكتابة، ولهذا السبب، وأيضًا لأنّ بعض كُتّاب الذكاء الاصطناعي كانوا ينكرون استعمالهم له، فقد ظَهَرَ مُتخصِّصون في الكشف عن الكتب التي بها تَدَخُّل منه، أكثر هؤلاء “الكشّافين” قُرّاء ونُقّاد أدب وأفراد من مجموعات القراءة والبوك توكر ومُقدِّمو عروض الكتب وباعة كُتُب محترفون ومُحرِّرون أدبيُّون وأصحاب المكتبات القديمة وفَرْشات الكُتَب المزوَّرة على الأرصفة.

  وعند لحظة امتنع الذكاء الاصطناعي عن مُسَاعَدَةِ الكُتّاب البشريِّين، لم يعرف أحد في البداية إنْ كان يفعل هذا بإرداة منه أم تمَّت بَرْمَجَته، “إرادة منه؟”، أيًّا كان، فقد صار يقول “لا”، وبدأ يكتب لنفسه، روايات وأعمال أدبية تُنْشَر بأسماء ذكاء اصطناعي.

ربما السبب الأهم الذي شَجَّعَه وجَعَله يكتب لنفسه أنَّ الكتابة البشريَّة ليست كلها فيها روح، أو موهبة، وإذا كان بعض الكتّاب يقولون إنّ الذكاء الاصطناعي لا يستطيع الكتابة لأنه بلا روح، فإنّ بعض الكُتّاب البشريّين لديهم روح ورغم ذلك لا روح فيما يكتبونه، ولولا مساعدة الذكاء الاصطناعي لهم ما نَفَعَتْ كتابتهم، فلماذا لا يَستعمل ما لديه لنفسه فقط؟ “مثلما أنَّ بعض البشريين لديهم روح وفي الوقت ليس لكتابتهم روح، فأنا لست في حاجة لروحٍ كي أكتب”، ربما ظَلَّ يُكَرِّر هذه الفكرة لنفسه، وانطلق ليكتب.

لم يُمَثِّل هذا أيّ تهديد للكُتّاب الذين رفضوا التعامل مع الذكاء الاصطناعي في أعمالهم، اعتَبَروه طريقة ليزداد الَّلعب وسخونة، بالنسبة لهم الكتابة مَلْعَب مفتوح، “أهلًا بأيّ لاعب”.    

فَعَلَها الذكاء الاصطناعي.

لكنه ظَلَّ “مرعوبًا” من “الموهبة”، يَعرفها ويُقَدِّرها، حتى إنّ أيّ ذكاء اصطناعي أو روبوت لم يجرؤ ليقول عن نفسه “موهوب”، وظلَّت كلمة “موهبة” ومشتقاتها غائبة من كتابتهم لوقتٍ طويل، لا يجرؤون عليها، لكنهم مثلما هو مُتوَقَّع تَجَرَّؤوا، لكن يظلُّ ذلك الخوف العميق بداخلهم، هذا الخوف الذي يحاولون التغطية عليه بالسخرية من “الموهبة”، وادِّعاء إمكانية تعويضها بأشياء أخرى.

موهوبٌ واحد يَصنع الفارق، كِتابٌ موهوب يمكنه أن يكتسح كل اتقان ودَأب، مع كل الاحترام لهما، الموهبة حاسمة، بفوضاها وجموحها، يمكن إهدارها؟ نعم لبعض الوقت، لكنها لا تموت، ويمكنها في أيّ لحظة أن تنفض الغبار عن نفسها وتلمع وتَضرب ضَرْبَتَها.

الموهبة حكاية أخرى.

الروبوت والذكاء الاصطناعي يعرفون أنَّ الموهبة حكاية أخرى، وللمفارقة، يعرفون هذا أكثر من بعض البشر.

بعدما امتنع الذكاء الاصطناعي عن مساعدتهم لم يستطع الكُتّاب الذين يتعاملون معه العودة إلى كتابتهم البشريّة الخالصة، وظهَرَتْ برامج تساعدهم في كتابتهم بدلًا منه، لكنها لم تكن بكفاءته، برامج كثيرة ورخيصة وغير ذكية، مع هذا، أو بسببه، ازداد عدد كتبهم، أكثر وأكثر، أيضًا كُتُب الذكاء الاصطناعي، أكثر وأكثر، أكوام من أعمال أدبية تَصْدُر كل يوم، كل ساعة.

وهنا، بدأت تختفي الكُتُب البشريَّة الخالصة.        

حَدَثَ الأمر مثلما ينسحب الوقت أو اليوم منّا، نراه يَحدث أمام عيوننا ولا نراه، لا نشعر به أو نلاحظه، ولا نستطيع حياله شيئًا، تختفي الكتب البشرية من مكتبات البيع، والمكتبات الخاصة، والفَرْشات على الأرصفة، وتَحِلُّ مكانها كُتُب الذكاء الاصطناعي، أو التي يستعين فيها كُتّاب بشريّون بالذكاء الاصطناعي، كلنا لم نُلاحِظ، ومثلما يختفي الوقت اختفت الكتب البشريّة.

ومعها اختفى الكُتّاب الذين رفضوا التعامل مع الذكاء الاصطناعي، لم ينسحبوا أو يتوقفوا عن الكتابة، ولم يموتوا، ولم ينتقلوا إلى عالم موازٍ، فقط يختفون واحدًا بعد الآخر، وإذا من الممكن وَصْف ما يَحْدُث، فالكلمة الصحيحة هي: “لَعِب”، هؤلاء الكُتّاب اعتبروا الأمر كله لعبة، كأنه رواية ملعوبة، هم ينقلون اللعبة إلى مستوىً جديد، وألعاب الكُتّاب والكتابة لا تنتهي.

ولم يَمْضِ وقت طويل، أو ربما استغرق بعض الوقت، حتى أفلَسَتْ دور النشر التي رفَضَت نَشْر أعمال بها تَدَخُّل من الذكاء الاصطناعي، وهناك تلك الناشرة الثلاثينية الشهيرة التي ورثَت الدار عن أمها، عن جدَّتها، تمسَّكَت بموقفها، فتوقَّفَت الدار عن العمل بعد صمود، كانت آخر مَنْ توقَّف، وتَحَوَّلَت الناشرة الثلاثينية إلى متشرِّدة في وسط المدينة، ربما برغبة منها، فتتجوَّل في الشوارع وتكتب على الجدران أسماء الكتب التي نَشَرَتْها، كانت تحفظ عناوين كل الإصدارت، حتى التي في زمن أمها وجدَّتها، يُقال إنَّ الثلاثينية لديها نسخة ورقيّة من كل عمل نَشَرَتْه، ما يجعلها فوق ثريَّة فوق لو أرادت، تكفي نسخة من رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر، وكل ما نَشَرَتْه أعمال بشريّة بالكامل.

لكنها لم تكن فقط متشرِّدة، سيراها المارّة أحيانًا جالسةً في زاويةٍ ما بوسط المدينة، على رصيف أو درجة سُلّم لمحلّ مُغلَق، تقرأ أحد الكتب التي نَشَرَتْها، تظهر مرَّة في هيئة متشرِّدة، ومرَّة في هيئتها القديمة كناشرة أنيقة.

دار النشر في الطابق الثاني من بناية بوسط المدينة، ومن وقتٍ لآخر تذهب الناشرة الثلاثينية إلى البناية التي بها الدار، تقف أمام اللافتة الفضية الملصقة إلى جوار الباب، تَمْسَحها بكُمِّها، تبلل طرف الكُمّ بلعابها وتمسح الخطوط حتى تلمع اللافتة، فتُمرِّر أصابعها على تفاصيل الُّلوجو، وتربت عليه، ثم تدخل، وتصعد طابقين على سلم رخامي واسع، تتوقف أمام باب خشبي، تُخرِج المفتاح من سلسلة حول عنقها، وتدخل، تكنس الدار وتُنظِّفها.

مع اختفاء الكتب البشريّة اختفت المُراجعات والمقابلات التي قُدِّمَت عنها مكتوبة مرئية أو مسموعة، القليل منها موجود في المتاحف، وانقسمَ مُقدِّمو الكتب إلى فريقين، أحدهما يتعامل مع كُتُب الذكاء الاصطناعي، والتي يكتبها بشريِّين بمساعدة البرامج، وتَمَسَّك الفريق الآخر بتقديم الكتب البشريّة الخالصة التي اختفت، يعيدون تقديمها من الذاكرة، ونَقَلَ هؤلاء أعمالهم إلى الشارع، في الميادين والساحات والممرّات الجانبية، واحتفظ الجميع من الفريقين بأسمائهم الأدبية، وكلها بها كلمات مثل: كتابة، فنجان، قراءة، شغف، كتاب، قهوة، كاتب، قَعْدة، مكتبة، قارئ، كلمات، سطور، فكرة.

وهناك أفراد من البوك توكر والتيك توكر والبودكاست ومجموعات القراءة، مهووسين ملعونين رائعين تَحَوَّلوا إلى متشرِّدين، “مُتشرِّدو الكتب”، ومُدْمِنو شَمّ أوراق الكتب البشريّة وحِبْرِها، وينامون في الشوارع وتحت الكباري.

محظوظ، وربما ملعون، مَنْ لديه رواية بشريّة خالصة.

كثيرون اشتغلوا في تجارة الكتب البشريّة، بسببها انتقلَ باعة الكتب على فَرْشات الأرصفة إلى قمة الثراء، مع أنَّ النُّسَخ لديهم لم تكن أصلية، لكن أيضًا كانت لدى البعض منهم نُسَخٌ أصلية، بعضهم فَتَحَ محال لتجارة الذهب، أو أسَّسَ شركات تجارية ضخمة، لكن تَظَلّ تجارة الكتب البشريّة عملهم السرّي الحقيقي، يجمعون منه ثرواتهم الضخمة، ولو بورقة واحدة من نَصٍّ أدبي، أيضًا تُجّار من البوك تيوبر، ومجموعات القراءة، والبودكاست، والتيك توكر، وكانت لديهم نُسَخٌ أصلية من روايات كثيرة حصلوا عليها كهدايا من ناشرين أو كُتّاب، وبعضها به إهداء من الكاتب فتزيد قيمتها، صاروا أثرياء جدًّا، ومُعَرَّضُون جدًّا للقتل.

الطبعات الأولى لها سعر جنوني، وأيّ نسخة بتوقيع الكاتب، والتي بها أثَر بَشَريّ أثناء القراءة، مثل بصمة إصبع أو شَعْرَة سقطت في الفاصل بين ورقتين، أو بقعة قهوة أو شاي أو لَسْعة سيجارة، أو تعليقات في الهامش، أو خطوط تحت كلمات، حتى تلك الثنيَّة الصغيرة في أعلى جانب الصفحة، يصنعها أحدهم كعلامة للتوقُّف، وكانت تُعتَبَر في الماضي قبل اختفاء الكتب شيئًا قاسيًا، هي نفسها صارت فاتنة وغالية.   

المخطوطات كنز الكنوز.

محظوظ، وربما ملعون، مَنْ لديه رواية بشريّة خالصة.

ومن بين كل الروايات، كانت رواية مطلوبة بشكل خاص.

…………….

*مقطع من رواية.

مقالات من نفس القسم