إفلات مبتكر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سوسن علي*

لا أدري إن كانت المشاهدة تصنف على أنها من الأفعال. إن كانت فعلا؛ فمن المؤكد إنها أكثر فعل أمارسه. إني أُبقىْ عينيّ مفتوحتين، وأتطلع إلى هذا العالم. أتطلع من كل زاوية تتاح لي. أشاهده بمختلف الوسائل. أشاهد السماء والناس، وأشاهد الأفلام كما شاهدت فيديو لطفلة تقصب.

أشاهد كل شيء، كل ما يطرح أمامي واختزنه. 

أحياناً استلقي وأحاول مشاهدة السماء كما أفعل الآن، إلا إني لا أراها. لا أرى سماءً، ولا غيوماً، كل ما أراه هو مشاهدات قديمة تقفز إلى ذاكرتي وتعرض نفسها كما لو أنها شريط فيديو.

“دجاجةٌ، حاولتُ أنا وأمي الإمساك بها، وكانت في كل مرة نحاصرها، تفلت، تجد لنفسها فسحة صغيرة، أو تفتح لنفسها هذه الفسحة؛ بأن تخفق بجناحيها وتخيفني، فتهرب”.

يقال إن الهرب فعل غريزي يحدث عند الشعور بالخطر أو الخوف، وأنا كنت قد شاهدت حالات هروب عديدة. “رجل يهرب من سجنه، وفتاة تهرب من أهلها”.

لكن الهرب لا يشبه الإفلات.

الهرب يحدث عندما يكون لديك مجالات عدة للإفلات وتختار واحدة بطريقة عشوائية، أما الإفلات يحدث عندما تكون محاصراً تماماً، عندما لا يبقى مجال للهرب، فتصنع لنفسك مجالاً كما فعلت الدجاجة عندما حاصرتها أنا وأمي.

هذا ‘‘الإفلات المبتكر’’ يشبه كثيراً ما أقوم به؛ فأنا بعد أن كنت أهرب من الواقع إلى الخيال، ومن العنف إلى الوداعة، من الموت إلى الحياة؛ أهرب من الحرب ومن كل مشاهدها، أهرب من المصير الذي تعد به الجميع، المصير الجمعي لأبناء الحرب، إلى تفاصيل صغيرة لا تهم أحداً غيري، وفي كل مرة كانت تحاصرني أكثر. كنت ابتكر طرقاً للإفلات. أفلت منها وأفر هاربة. وأجد نفسي محاصرة مرة أخرى.

كنت أعتقد أن الحرب لن تنقضّ عليّ، وإني سأقوى في كل مرة على الهرب. كان هذا ممكناً لو أن الحرب اكتفت بمحاصرتي من الخارج. كنت سأفلت بالتأكيد. الآن أنا منهكة من محاولات الإفلات، كيف أفلت وأنا أشعر في كل لحظة إني طفلة تقصّب، حتى عندما أحاول ترتيب شعري، أشعر أني أمسح على رأسها. شعرها لم يكن مرتباً. أنا أغرق باليأس، وأذكر أننا أمسكنا بالدجاجة. أمسكنا بها، وكنا أكثر إصراراً منها.

أذكر أن ‘‘آلبير كامو’’ قال بما يعني “أنه من الأفضل أن نقاوم الموت بالحياة واليأس بالتفاؤل”، ولكن هل فكر بقدرتنا على المقاومة. كم نقدر! إلى متى!..

………………….

* كاتبة وقاصة من سورية

 

 

مقالات من نفس القسم