نهى محمود
وصلت سيارة النقل الجماعي لميدان ما، بعد نصف ساعة من المضي في طريق سريع متسع أحبّه.
صوت “مدحت صالح” يغني في أذني أغنية قديمة أحبها منذ طفولتي لأنها تذكرني بأيام انتظاري عودة أبي من السفر. أتفرج على البشر من النافذة بينما لا أتذكر شكل سائق السيارة جواري.
رجل يميل للكبر ينطلق فجأة عندما ينفتح الباب الخلفي، يشبه الذين يهرولون من عربة للحاق بأخرى ستوصله تمامًا للمكان الذي يقصده.
لكن الرجل انطلق نحو سيارة ملاكي توزع صاحبتها “أكياساً”. وقف أمامها وابتسم ومدّ يده.. شعرت بغصة شديدة في قلبي.
ركبتُ الطائرة هذا الشهر، فلم يكن لزامًا عليّ أن ألوّح لها من سطح بيتنا القديم، لأن أبي ربما سيعود في إحداها.
نمتُ في فراش واسع ومريح وأغطيته بيضاء. لحظة أن لمسه جسدي، تدحرجت كرة حزن قديم كنت قد وعدته عندما تسمح الفرصة أن أسمح له بالظهور، قلتها هكذا: “سأصحبك أيها الوحش البني الصغير الذي يأكل في أحشائي راغبًا في الظهور، وأنا أمنعه لأني أذاكر للصغيرة ساينس، وأعد صفحات للجريدة، وأشتري طلبات البيت من الهايبر، يومًا ما سأصطحبك لفراش واسع كبير أبيض وأتركك تفعل ما تريد”.
ظهر الوحش البني الصغير وطالبني بالوفاء بوعدي، ابتسمت في وجهه وأخبرته بحسم أننا معًا نعرف أن صلاحية هذا الوعد قد انتهت. حرّك رأسه بالموافقة، لكنه طلب أن يجرّب الفراش، فسمحت له أن يصعد جواري حيث تدحرج قليلًا وابتسم بصوت عالٍ لا يليق بحزن.
طبع قبلة على شفتي وغادر بينما كنت أتظاهر بالنوم.
تمشّيت كثيرًا هذه الأيام في أماكن أحبها، وشاهدت أرنبًا ضخمًا بائسًا يغني على أغنية شعبية، وزحامًا كبيرًا يحوطه إعلان عن محل جديد سيبيع شيئًا ما.
وقفت أمام رف بيع مستحضرات التجميل تائهة وخائبة، حتى مدت الصغيرة التي تكبر قليلًا يدها نحو رف وقالت بحسم: هذا ما نبحث عنه. أكد لي أن نوع مزيل المكياج رائع، ثم غابت خلف رف آخر وأحضرت مناديل مدوّرة وقالت: نحتاج لها أيضًا.
في البيت رجّت الزجاجة وقالت لي: يجب أن نرجّها قبل الاستخدام، وسألتني بطفولة: ممكن أمسح لك وشّك؟
في مشهد أبدو فيه مثل لعبتها، سمحت لها أن تفعل، وشعرت بإحساس غامض ومفرح في الوقت نفسه.
في “كوستا” نجلس معًا، أشرب أنا شايًا عاديًا، وتحمل هي كوبًا كبيرًا ممتلئًا بالثلج والرغوة والويب كريم واسمه طويل وغريب.
اخترنا مكانًا يطل على ميدان ممتلئ عن آخره بشمس شتوية. كانت تبتسم في سعادة، وكنت أفكر في دموعها التي سكبتها وهي تنام في حضني الليلة الفائتة، وهي تخبرني عن كرة حزن بنية صغيرة وتشير إلى قلبها. وعندما سألتها عن السبب قالت بوهن وألم: مش عارفة.
جلسنا في صمت، وعندما رأيتها تشرق سألتها مرة أخرى عن حزنها، قالت ببساطة: مشي.
أفكر في بساطة اقتحام الحزن لنا، وسهولة مغادرته؟
وفي قسوته وثقله داخل القلوب، والمعاناة الطويلة والوقت الذي يقضيه البشر في معاركهم معه، بينما كل ما يتطلبه أن نسمح له أحيانًا أن يجرّب فراشنا ويتدحرج قليلًا قبل أن يلملم حاجاته ويغادر.
أفكر في الصغيرة، التي أخبرتها أن عليها أن تجرب من حين لآخر أن تجلس في مكان هادئ ومشمس.
الروح والوسادات تحتاج للشمس. تهز رأسها بالموافقة وتكمل رشف ذلك المشروب الذي يحوي مكعبات ثلج وكراميل وويب كريم واسمه طويل وغريب.






