أناتولي كودريافيتسكي.. ذوو الرداء الأحمر

أناتولي كودريافيتسكي.. ذوو الرداء الأحمر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولد الشاعر والروائي الروسي الأيرلندي "أناتولي كودريافيتسكي" في موسكو سنة 1954 لأب بولندي وأم نصف أيرلندية. عاش في روسيا وفي ألمانيا ويعيش حاليا في دابلن.

وضع سنة 1979 على القائمة السوداء للكتّاب المعروفين بالـ ساميزدات Samizdat  وهم الكتاب الممنوعة أعمالهم في الاتحاد السوفييتي السابق، فلم ير أعماله منشورة إلا في عام 1989 حيث توالى ظهور أعماله في أهم المجلات الأدبية الروسية. أسس جمعية الشعر الروسي وكان أول رؤسائها، وفي الفترة من 1999 إلى 2004 كان ضمن أعضاء مجلس إدارة الاتحاد الدولي للاتحادات الشعرية التابع اليونسكو.

يترجم شعره بنفسه إلى الإنجليزية، والقصيدة التي نقدمها له هنا منشورة في موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت.

***

أغرب شيء

أغرب شيء رأيته في حياتي

كان ملصقا ضخما

يحاذي طريقا سريعا في بيلا روسيا:

“قف! أطلق النار على الذئب”

 

في الجوار

لا وجود لأي ذئب

وأنا لا أحمل مسدسا

ولا يمكنني حتى أن أطلق النار

ولست الوحيد الذي على هذه الحال.

 

ولكنه أمر مثير للفضول

أمر يدفع المرء دفعا

إلى التفكير في حل عملي

للمهمة التي يواجهها.

***

وفي وسط مدينة القاهرة مقهى أغلب رواده من المثقفين والأجانب المقيمين في المدينة، مقهى لعله من عمر البناية التي تعلوه، والتي لعلها من عمر الحي كله، الذي يرجع تاريخه ربما إلى نحو مائتي عام. فليس عجيبا أن يصادفك في المقهى إعلان قديم، قوامه رَسْمٌ على ورق مصفر لفتاة تحمل في يدها زجاجة لم تعد متداولة في الأسواق، وعبارة ترويجية مكتوبة بلغة لا تتبينها، فلعلها لغة رحل أهلها ولم تبق متداولة إلا وراء أسوار سفارة، أو في ناد لفلول جالية أجنبية قديمة تتناقص، أو ربما لم يبق منها في المدينة إلا هذه العبارة، على هذه الورقة التي تصفرُّ باطراد. ملصق كهذا المعلق أمامك منذ دخولك المقهى، وحتى مجيء النادل إليك ليسألك بعامية لا تشوبها أي لكنة أجنبية عما تريد أن تشربه، ملصق كهذا قد يثير لعابك إلى زمن كامل بات في ذمة الماضي، ولكنه لا ينبغي أن يثير لعابك إلى المنتج الذي لم يعد له وجود. وهكذا ستجد نفسك تطلب من النادل منتجا آخر تعرف أنت ويعرف هو أنه متاح، ولو إلى حين.

ولعلك في شارع ترى ملصق فيلم قديم، مرت السنوات ولم يزل في مكانه، حائلا مهترئا كأنه جزء من الجدار نفسه. قد تعرف اسم الفيلم، وأسماء ممثليه وفريق العمل كله، ولكنك لن تبحث عنه في دور العرض.

فلماذا، إذن، يقف شخص أمام إعلان عبثي على الطريق يقول “توقف! أطلق النار على الذئب”؟ لماذا لم يفترض أنه إعلان انتهى الغرض منه دون أن ينتهي وجوده؟ لماذا لم يتصور مثل عابرين كثيرين غيره لا بد أن تكون أعينهم وقعت على الإعلان فاعتبرته مثلا جزءا من حملة دعائية ما؟ وكم من حملات دعائية بدأت هذه البدايات الغامضة ليتبيَّن بعد حين أن كل ذلك الغموض لم يكن أكثر من وسيلة خبيثة لاجتذابك إلى مزيد من الاستهلاك.

ولكن أحدهم توقَّف. نظر حوله فلم يجد غابة ولا برية، إنما هو طريق سريع في بيلا روسيا. نظر فلم يجد معه بندقية، وعلم أنه لا يجيد من الأصل إطلاق النار. ومع ذلك توقف. كان ينبغي أن يبتسم للملصق ابتسامة من لا يعنيه الأمر. وربما يحدث نفسه قائلا “هذا الإعلان ليس موجها لي أنا، إنه موجه لمن يمكنه أن يطلق النار، ولمن لديه سلاح، ولمن هو قادر أن يبحث عن ذئب”.

لماذا يمكن أن يتوقف أحد أمام إعلان كهذا، ويسمح للفضول أن يدفعه دفعا إلى التفكير في أن هناك مهمة، ثم التفكير في حل للمهمة التي يرى أنها تواجهه؟

ربما لأن هذا الشخص بالذات يعرف أن هناك ذئبا حقا، وأن العثور على هذا الذئب لا يقتضي منه الدخول إلى غابة. ربما كل ما تحتاجه لكي ترى الذئب رأي العين لا يعدو أن تنظر في مرآة عند غضبك.

ربما لا يريد “أناتولي كودريافيتسكي” أكثر من كتابة قصيدة عبثية أو عابثة. ولكن بوسعنا أيضا أن نقرأها هذه القراءة. سأقر من جانبي بأن هذا الذئب موجود فينا، ولكم أنتم أن تنفوا ذلك عن أنفسكم. نحن نعرف، ونقبل تماما، أن يكون من الناس من يستذئب فعليا، دفاعا عن أبنائها، أو دفاعا عن ماله، أو دفاعا عن وطنهم، أو لمجرد الغصب والعدوان. نعرف هذا ونقبله في أنفسنا. ولعلنا نتفق مع الإعلان في ضرورة قتل ذلك الذئب. فلو أننا قتلناه جميعا لما استذأبت أم خوفا على أطفالها، ولا رجل خوفا على ماله، ولا شعب خوفا على الوطن.

والسؤال البسيط، أخيرا: من الذي يمكن أن يطلق الرصاص على ذئب؟

ذئب مثله. هذا إجابتي.

مقالات من نفس القسم