طارق إمام
في الحكاية الشعبية، يكفي أن يولد “البطل” ليولد العالم؛ لتتحول ذاته نفسها إلى قصةٍ لا تُنسى.
يمكن القول إن الحدث السردي الأهم يكون مجئ هذا البطل للدنيا، ليتغير على الفور عددٌ من القوانين الحاكمة، وليخلق وجودُه المحكية المنتظرة، التي ستستمد استثنائيتها تلقائياً من اتصالها بذاتٍ استثنائية، حتى لو لم تتوفر عناصرُ المحكية الذاتية نفسها على ما هو مفارق؛ إذ ينبغي أن نعترف أن الحيوات جميعها تظل عادية وقابلة للتكرار، إذا ما انتُزعت منها الذواتُ الخارقة التي تمنح معاني الجوع والحرب والشقاء والحب وحتى الموت، معانيها الفارقة.
في رواية “أميرة البحار السبعة” لمحمد عبد الجواد، الصادرة عن “دار المرايا” بالقاهرة، تولد “أميرة الزفرة”، من رحم أمٍ غجرية، بعد مضاجعةٍ حرام مع عابر في مركب بالبحر. ما تلبث الأسطورة أن تحل محل الواقع، ليصبح البحر هو من ضاجع الأم، فتصير ابنةُ الزنا المحتقرة ابنةَ البحر المُهابة، كأنها مسيحٌ مؤنث، أبوه هو الطاقة الميتافيزيقية المفارقة، فالبحر أيضاً إله.
الأسطورة هنا ذات مقصدٍ غائي وجوهرٍ نفعي، فبميلاد البطلة يتبدل قانونٌ في الطبيعة: إذ يعود البحر الذي اختفت أسماكه، بردةٍ عنيفة تخلق وفراً إعجازياً غير مسبوق. الأسطورة تعمل إذن كمبرر أخلاقي، يعجز الواقع الفيزيقي والدينُ (الميتافيزيقي) عن خلقه، وبالتالي فالأسطورة تنزاح عن بُعدها التخييلي في تفسير العالم لصالح بعدٍ غائي في “تبريره”، لتصبح أداةً إيديولوجية. والأسطورة هنا تقيم تصالحاً يستحيل أن يقع في العادة بين جناحي السلطة: السلطة الدنيوية، ممثلةً في “جابر الحرارة”، شيخ الصيادين، غير المؤمن بالخرافات ولا بالدين نفسه، والسلطة الدينية، ممثلةً في الشيخ “علي عبد الوهاب”، والتي لا تؤمن بدورها بمعجزات خارج الكتاب السماوي. تُوحِّد الأسطورة “البشرية”، النابعة من المعتقد الجمعي، السلطتين، في القبض على الهدف النفعي، فيحل تفسيرٌ ثالث للعالم، تستغله كلا السلطتين في تدعيم أوتادها، وتنتفع كلتاهما من ريعه.
هذا هو الملمح الأول، أما الملمح الثاني، فأن “أميرة” تولد برائحة زفارة نفاذة، حد أنها تخترق جدران البيوت وتأتي بالقطط إلى حيث توجد. البطلة إذن تولد بسمتين استثنائتين: هي على يسار المنظومة الأخلاقية من ناحية، وعلى يسار المألوف البشري من ناحيةٍ أخرى.
التموضع على يسار العرف والأخلاق الإنسانية تنظف سمعته الأسطورة، كما تنظف يدٌ مدربة أحشاء سمكة فينسىَ وسخُ الطبيعة، فما الذي سينظف سمعة الرائحة التي لا تطاق، المتموضعة على يسار الرائحة الإنسانية؟ الإجابة: أسطورةٌ أخرى، اسمها الحُب.
فجوات الزمن/ تغريب المكان
بمولد البطلة، غير المرحب بوجودها، تنبعث الرواية، كأنها تُبعث من رماد مقبرة، مستدركةً ما فات باسترجاعٍ طويل يكاد يبتلع ثلثها. الحدث المركزي الحقيقي هو ميلاد البطلة نفسه، الذي تستهل به الرواية، والذي يكفي، ليس فقط كمفجر لكل ما سيليه، بل وكمفسر لكل ما سبقه. كأن ميلاد البطل هو فعل تفسيرٍ ليس فقط للحاضر، لكن، وبالأساس، للماضي، الذي ظل غافياً فوق الأرض وتحت التراب، قبل أن يُعاد النظر إليه. إن الميلاد هنا ليس فعل وجود، بل فعل مراجعة، تعمقه فرادة الماهية. فعل المراجعة يحتاج إلى موضوعٍ يتسم بالثبوتية والغموض معاً، تجسده روائياً رقائق الولي “محمد العوام” الذي منح قرية “سيدي العوام” اسمها، إذ يعاد تفسير رقائق القدر هذه على ضوء ظهور الطفلة، وبالتالي يجري عبور الحاضر والماضي معاً، ليصير وجود البطل كشفاً لغيب المستقبل، كأنه تفسير الطالع، وهنا بالضبط تقع السمة المميزة لأي بطل شعبي: أنه، بالضرورة، كشفٌ لنبوءة.
كروايةٍ تتبنى مناخ الحكاية الشعبية، فإنها تحوم حول البطل بنفس قوة غورها في خصوصيته. لذا، فحتى لو اعتبرنا قصة الحب التي ستجمع لاحقاً أميرة بـ”يحيى” العازف، هي الحبكة المركزية لسيرتها الروائية، فإن الحقيقة أن هذه الحبكة، التي تبرق وتتوارى، ويُرجأ تقديمها إلى ما بعد ثلث الرواية “التمهيدي”، لن تسيطر أبداً وحدها على مقدرات السردية فوق الواقعية، القائمة على “استعراض” العالم، بالتجول في عشرات المحكيات التي تخص شخوصه، والتي لا تقل إحداها غرابةً عن الآخرى، بل وتفوق جميعاً في غرابتها وسحريتها الحبكة المركزية (علاقة الحب)، وبحيث يغدو البطل في هذه الرواية هو العالم الروائي بمحكياته الصغرى، وحبكاته الفرعية، بنفس قدر حبكته المركزية.
من السمات المركزية للحكاية الشعبية خطيتها الزمنية، فهي نصٌ أفقي يتقدم للأمام، مع عنصر آخر شديد الأهمية: أنها تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، فلا تنتقي لحظة ذروة، كالرواية المعاصرة، لتنطلق منها. وكحكايةٍ شعبية تستغرق بالضرورة زمناً ليس بالقليل بين الميلاد والموت، فإن زمن الحكاية يستغرق عقوداً، بالتالي يكون على زمن الخطاب أن يُعمل معول القفزات الزمنية بلا هوادة.
بعد تمهيدٍ طويلٍ نسبياً (ربما حتى صفحة 90) لا تظهر فيه أميرة إلا كمولودة شاذة، تأتي قفزة زمنية تقدم أميرة في واجهة الحدث، طفلةً مشرفةً على الإدراك، ثم قفزة أخرى، أطول وأعنف، تُجسد أميرة الشابة العاشقة، في سنى المراهقة، تحيل إلى النهاية القيامية، بغرق العشيقة والعشيق في البحر. هكذا تتحقق “أميرة البحار السبعة” كخطابٍ روائي لروايةٍ حديثة، عبر اعتمادٍ عميق على القفزات الزمنية الواسعة.
هذا ما تحفل به الرواية في تعاملها الفني مع الزمن. فبقدر ما تتمهل مفصلةً زمناً بعينه، قد لا يستغرق أياماً أو شهوراً، بأكبر تأنٍ ممكن، فإنها بالمقابل قد تقفز فجأة سنوات بحالها، أو حتى عقوداً، لنجد أطفال الصفحة السابقة وقد صاروا شباباً مع الصفحة التالية، وشبابها وقد استحاولوا شيوخاً على أعتاب التراب. إنها تقنية تشبه تقلب البحر نفسه الذي يمسك بمقدرات هذه الرواية، بين تهادٍ بطئ للموج ينقلب إلى موجات فجائية تبتلع الموجودات لتأتي بواقعٍ جديد.
من هنا تكتسب الرواية بنيتها في تحقيق المروية عبر عنصرين أساسيين: دمج المشهدي بالاستعادي، والمزج الدائب بين العرض والتلخيص، بحيث يحيل كل موقف درامي في الحاضر لإحالةٍ تاريخية في الماضي تجعل الرواية تسير طيلة الوقت على خطين زمنيين متوازيين/ متقاطعين، تدعمهما قطعات زمنية واسعة وجريئة، حد تلخيص سنوات، بل وعقوداً، بجرات قلم، مثل: “تحدثا عشر مرات خلال خمسة عشر عاماً”، أو “الحقيقة أن الأمور ظلت مستقرة طوال عقدين ونصف تقريباً، من التسعينيات وحتى العشرية الثانية في الألفية”. لكم أن تتخيلوا معي قفزة زمنية جامحة مثل هذه، بعدد سنواتها الذي يكفي لميلاد وموت شخصيات مكتملة، والأدهى، أن فترة بمثل هذا الحيز تشهد استقراراً لا يستحق أن يتوقف السردُ أمامه.
يُستعان على تحقيق هذه البنية براوٍ إله، كلي المعرفة، كثيراً ما قفز للمستقبل القريب والبعيد ليُخبر بمصيرشخصية ولدت للتو أو بطريقة الموت المقبلة لشخصية أثناء تقديمها في قمة الحياة. ولن يستطيع هذا الراوي مقاومة إغراء تقديم نفسه بضمير المتكلم، مرة قرب أواسط الرواية: “استماعي إلى القصة أول مرة جعلني أفكر بجدية…. وهو ما جعلني أهتم كثيراً..”، ومرة مع سطورها الأخيرة: “كما قيل لي عندما استمعتُ للقصة أول مرة”. بهذه التدخلات، التي تشهد تحولاً ثورياً في الضمير _ وبخاصة حين يكون الراوي عليماً كُلّي المعرفة _ فإنما يؤكد على كونه واحداً من الشهود، لكن شاهد إعجازي، إذ ينبغي أن يتجاوز عمره مئات السنوات، ما قد يبدو مقبولاً في قرية يتجاوز عددٌ غير قليل من قاطنيها عُمر المائة وخمسين عاماً ببساطة.
×××
ينهض المكان الفني كقريةٍ صيادين مصرية تطل على البحر، واقعها اليومي يطفو فوق قوانين الواقع، فالموتى ينهضون ويعودون للموت، والدمى تملك أرواحاً خفية، والمعجزات كافة هي وقائع يومية يتعامل معها القاطنون ببساطة. ليس هذا المنطق فوق الواقعي ما يحقق تغريب المكان، إنما الحرص على إبقاء الإشارات على “مصريته” في حدود لا تتجاوزها، بغية تعميم شرطه الإنساني ليصبح مكاناً كونياً يطفو فوق الواقع الجغرافي وما يتصل به، إجبارياً، من إحالات تاريخية وسياسية، وبخاصة أن زمن الخطاب واضحٌ، بوقوعه بين عقد التسعينات من القرن الماضي والعقد الثاني من الألفية الثالثة. لن نعرف حتى أي بحرٍ هو المقصود، أهو المتوسط أم الأحمر؟ فالبحر هو البحر فقط، كموجودٍ يعلو على الصفات.
لن يُذكر اسم القاهرة إلا باعتبارها “العاصمة البعيدة”، ولا يذكر أي اسم لواحدة من “المحافظات” القريبة، التي قد تقرب موضع قرية سيدي العوام من وعي المتلقي. ربما فقط تذكر “المحلة” كمسقط رأس لـ”مصطفى أحمد شعبان”، الذي مارس الحب مع الأم أسماء، في لفتةٍ لن تتكرر. حتى الشهور، تعمل على مضاعفة التغريب، فيذكر “أغسطس” باعتباره “آب”، وهو ما لايمكن تخيله في واقعٍ مصري يتحدث أبطاله بمزيج من الفصحى والعامية، في لغة حوار “بيضاء”، شاء الراوي ألا تغوص بدورها بالكامل في هوية اللسان المصري، ليكون قوامها الإجمالي فصيحاً.
ربما هي أيضاً إشارة إجمالية لعزلة هذه الجماعة البشرية عما يدور خارجها، فهي مقتلعة من العالم لحساب قانونها الخاص، وربما هو سؤال العزلة الكبير، إذ يجعل من مكانٍ غاصٍ بالبشر والوقائع، محض تلويحةٍ للنسيان على هامش جسدٍ جغرافي لا يلتفت لأطرافه، إلا بحثاً عن وجبة سمك في مطهم “اللول”.
أرض التناص
من اللحظة الأولى، تضع “أميرة البحار السبعة” قدميها مباشرةً في غابةٍ من التناصات، لتؤسس وجودها في تربة الأدب أكثر مما تؤسسه في تربة الواقع. الفضاءُ الأساسي هو، دون مواربة، الواقعية السحرية، “الماركيزية” على وجه التحديد، إذ تبدو الروايةُ بكلِّيتها محاورةً للنص الماركيزي، ليس فقط على مستوى نمط الخيال، لكن الأسلوبية، انطلاقاً من مفردات لصيقة بالمعجم الماركيزي، وصولاً إلى المنطق البلاغي في تكوين الصور الجزئية، وتركيب الجملة _ على الأقل كما وصلتنا في الترجمة _ وبخاصة في أعمال مثل “مائة عام من العزلة”، و”عن الحب وشياطين أخرى” و”خريف البطريرك”. من الواضح أن محمد يدرك ذلك جيداً، بدليل أنه أهدى روايته بوضوح لماركيز، وبدا من تعقيبه “المعلم الذي لم يمت بعد”، أنه يحيلنا لعملية الإحياء التي تمارسها هذه الرواية، والتي هي، بالمناسبة، إحدى أدوار الأدب.
الكتابة من داخل مؤسسة الكتابة، طريقة أدبية متنامية في رؤية العالم، تكاد تشكل تياراً أدبياً قائماً بذاته، وتشمل طرقاً متباينة من المقاربة، من المحاكاة إلى المعارضة، والمرجعية الأساسية فيها تكون النص _ أو النصوص السالفة، وقد فعلها ماركيز نفسه في “ذكريات عاهراتي الحزينات”.
ونموذج هذه الرواية نفسه له أقرانه في تدشين عمل يرسل تلويحاته لعمل آخر، ربما أقربها للذاكرة رواية “الجمال جرح”، الرواية التي نبتت أيضاً من التربة الماركيزية نفسها، وأسست محاكاةً خاصة في تربةٍ جغرافيةٍ آسيوية مسلمة، حتى أنها تجرأت على جعل فتاة تطير، وخروج امرأة من القبر بشعرٍ متطاول، لتؤكد عمدية اتصالها بالنص الماركيزي. (طبعاً في العالم الأدبي المتحضر لا وجود لمهرجين يتهمون طرائق التصادي الأدبي بالسرقة كما هو الحال لدى بعض الذوات المحتقنة الجاهلة في عالمنا العربي السعيد).
ترسل “أميرة البحار السبعة” بتلويحاتها أيضاً، لتُرسخ الوشائج مع الأفق الذي تموضعت فيه. فثمة تأكيد “أن نسياناً محضاً سيصيب القرية في زمنٍ تالٍ”، ما يُرجِّع بنصوع صدى زمن النسيان الشهير في “مائة عام من العزلة”. أيضاً، فإن “أميرة”، البطلة الغريبة، كانت “تلعب في خرائها بأصابعها، تخلق أشكالاً وهمية”، في إحالةٍ أخرى لا لبس فيها، إلى “ريميديوس الجميلة” في الرواية نفسها. هناك الطائر ذو الوجه البشري الذي يسقط فجأة من السماء على بيت “نور العبد”، ثم ما يلبث أن يتحول إلى فرجة كرنفالية من الفقراء، في إحالةٍ ثالثة لإحدى أشهر قصص ماركيز القصيرة: “رجل عجوز جداً بجناحين كبيرين”.
سمات أميرة نفسها مع ملابسات ما صحب مولدها من قرف ونفور، يحيل بدوره لميلاد البطل “جرينوي” في رواية “العطر” لباتريك زوسكند، فالشخص الذي بلا رائحة لدى زوسكيند ينهض في مواجهة الشخصية استثنائية الرائحة لدى عبد الجواد، (والتي ترى نفسها بلا رائحة أيضاً إذ تعجز عن شم رائحتها) وكلاهما يتيم الأب، كلاهما منبوذ من محيطه. وعلينا ألا ننسى أن “العطر” نفسها هي ابنة الواقعية السحرية.
“سحرية” سيدي العوام تحاور بدورها ماكوندو، ومثلها، فيها ألواح للقدر تنتظر من يفك طلاسمها، لكن عالم محمد عبد الجواد، إذ يذهب إلى هذه الإحالات، فإنما يجرها إلى أرضٍ هزلية، فنبدو كما لو أننا أمام “بارودي” أو “محاكاة ساخرة” تقوِّض من جهامة ترجيع أصداء العالم الأصلي الغارق في الثقل، بالاتكاء على قيمة “الخفة”. إذ بدلاً من أن تقترن لحظة إعجازية بدخول الحرب لدى ماركيز، تقترن هنا بظهور أول بائع للزبادي، وعوض “ملكياديس” الذي يبيع اكتشافات علمية كالعدسة والمغناطيس، يأتي “حاتم الأحرف” باكتشاف الجيلاتي بالمانجو.
إذاً، لا يمنع هذا التناص السادر على العمل، من أن يظل عملاً يخص “محمد عبد الجواد”، ويحمل طموحه البازغ من رواياته الثلاث السابقة التي صدرت بالتزامن، في صنع ملحمة شعبية، يتحول فيها أكثر الشخصيات ابتذالاً إلى أبطال ملحميين يستحيل نسيانهم، مع حس ساخر شديد العمق، يندر العثور عليه في الرواية العربية الآن. يؤسس عبد الجواد عالمه من أشخاصٍ جعلهم الظرف آلهة قدريين، رغم أن واقعهم لا يؤهلهم لذلك، هزلية تبدأ من أسمائهم الكاريكاتورية نفسها مثل “جابر الحرارة” و”رشدان اللول”، و”فتحي دوبارة”.. ما يمنح عالمه هذا الطابع المتفرد لرفعة أشخاصٍ هزليين، وكأننا أمام بارودي متعمد لجهامة الواقع وجديته الزائفة، وبالذات لسؤال السلطة، وهو سؤال حارق في هذه الرواية.
الطبيعة والنظام
توقظ “أميرة” قوة الطبيعة، ممثلةً في البحر الذي كانت شحت أسماكه بعد أن لوثته أمها بمضاجعة محرمة. الخطأ إذن يُغضب الطبيعة، وثمرة الخطأ تعيد الطبيعة للتصالح. لكن، هل كان تصالحاً حقاً؟ لقد أيقظت أميرة في واقع الأمر مؤسسة “الثقافة” التي ظلت غائبة، لمئات السنوات، عن عالم فطري يديره الحدس والاتفاقات الشفهية.
لقد أسس مجئ أميرة لأول نمط رأسمالي حقيقي، بظهور “سفينة اللول” أو “سفينة نوح الجديدة”. والتفاوت الطبقي “الطبيعي” اتخذ أخيراً شكله الممنهج والمدروس، فقبالة السفينة ستظهر عربة السمك الفقيرة.. لنجد أنفسنا أمام تمثلين “ماديين” للتفاوت الطبقي تجسده قطبيةٌ متجسدة.
السفينة ستنتج ثنائية أخرى: الغريب/ المقيم. فالزبائن أغلبهم غرباء، يأتون من العاصمة البعيدة، ومن يعملون في السفينة غرباء أيضاً، والمواطنون لا يملكون ثمن الطعام ولا فرصة العمل. السفينة إذن بؤرة ثقافية كاملة لا تنتمي للقرية إلا بالموقع، كاستعمارٍ ثقافي. المفارقة أن الوحيد الذي يحق له التمتع بوجبة أسبوعية مجانية هو الشيخ “علي عبد الوهاب”، ممثل السلطة الدينية، والوجه الآخر لجابر الحرارة، ممثل السلطة الدنيوية.
هكذا يؤشر ميلاد أميرة لما يتجاوز غرابة الرائحة، إذ يمثل تحويلاً للقرية من قانون العرف إلى قانون “الحضارة”، وعالم “الثقافة” بمعناه العميق، والقاسي. السفينة مثلاً هي أول بناء “معماري” بالمعنى الحقيقي، يشرف على بيوت مصنوعة من ملح البحر، ومقام مقدس من هياكل الأسماك. إنه فعل “التشييد” كجوهر عمل الثقافة قبالة فعل التكوين الطبيعي للموجودات بما فيها البيوت. لنلحظ أن أميرة نفسها، وفي مشهد فادح الرمزية بعد رحيل أمها، تضع قانوناً “ثقافياً” لم يكن له وجود من قبل، إذ تضع حائلاً خشبياً بينها وبين الزبائن الذين تنظف لهم الأسماك: “أقامت نظاماً جديداً… في محاولة منها لاستعادة مكانتها المفقودة، وإعفائهم من أثر الرائحة”. لنلحظ أن “النظام” وحده، ابن الثقافة، ينجح في إخفاء “الرائحة”، قرينة الطبيعة الحية، حيث تنجح الثقافة الاصطناعية دائماً في وأد الطبيعي بآلتها النظامية.
بظهور أميرة تخفت “الحواس”، لدى “جابر الحرارة” و”فاطمة الصالحين”. إنها أيضاً ملحوظة لا يمكن أن تمر مرور الكرام، فجابر ممثل السلطة العرفية يصاب بالصمم، وفاطمة، صاحبة “البصيرة”، وزرقاء يمامة هذه الرواية، تتعطل حواسها لائذة بالمقابر، ميتة قبل الأوان.
يفقد “الحرارة” حاسة السمع، يفقد بدوره جانبه الحسي الذي ظل يغذي سلطته كعارف بالعالم عبر التلصص عليه، بالتزامن مع توطيد “النظام”، والوصول لمنهجية تخص “التوريث”، أداته فيها أداة من فعل “الثقافة” مجدداً، هي “الكاميرا”، التي جاءت مع تدشين السفينة بالذات، والتي سيوثق بها صورة جماعية لنسل الحكام القادمين.
أميرة تقطع “إخوتها”، بعملها اليدوي في تنظيف السمك، وهو فعل ثقافي لم يُعرف قبل ظهور الأم وطورته الابنة، فيما يعشقها “يحيى الكومي”، عازف الأكورديون، الذي ينتمي كليةً لعالم الثقافة، حتى أنه يمارس، مرة ومرة وبلا هوادة، انزياحاً دلالياً عما تمثله رائحتها من أفق واحد هو القرف والنفور، فيجعل من هذه الرائحة _ بمعالجة عرية _ قريناً للحب. “يحيى” أيضاً، بظهور أميرة يخطو خطوة مهمة، فبدلاً من محاكاة ألحان قديمة، يبدأ بتأليف مقطوعات خاصة، ليضع نفسه في قلب فعل التشييد والصنع.
لكن، ومع اكتمال “النسق” المعارض للنسق “الطبيعي” سيغضب البحر مرة أخرى، ستغضب الطبيعة، أو الغريزة ، أو الفطرة، غضبتها الثانية، ليصبح القربان هو أميرة بالذات، وليغدو المَخرج هو ممارسة الفعل الغريزي _ الجنس _ في فراش هو البحر بالذات.
سيحدث ذلك أمام عيون المراقبين، إذ يتحول الفعل الجنسي إلى صفقة من صنيع السلطة.
“أميرة”، المسيح المؤنث، لن تعدم إذن “يهوذا” من حوارييها، هو هنا راغبها الوحيد والمتصالح الأوحد مع معجزة رائحتها، والذي سيمنحها عشاءً أخيراً، يختفي بعده جثمانُها للأبد.
ترتد ابنة الطبيعة إلى الطبيعة مع نهاية المروية، بعد أن قاومتها دون جدوى، ربما لتقاوم رائحتها نفسها، وتنقلب مؤسسة الثقافة من جديد مرتدة إلى بدائية أسبق، مشفوعةً هذه المرة ببربرية “مجتمع الطبيعة” بتعريف كارل بوبر، فيخرج الناس (لأول مرة) على السلطة (السفينة) ويتجرأون على دخولها ونهبها، ويهاجر “اللول” (المستعمر المحلي إن شئنا التأويل)، مع حلول المستعمر “الخارجي”، (غزو السفن الأجنبية).
تنتهي الرواية باحتلال كامل من قبل مؤسسة الثقافة للعالم الطبيعي، الذي كان آخر ثأره ابتلاع “أميرة”، حيث “الشيء” أو “الآلة” أو “الجماد” يحل للأبد محل الموجودات الطبيعية، ما سيفسر ظهور دمية الرجل “ليبينو”، يتحرك في الشوارع، ليقلب مع السطر الأخير، السرد رأساً على عقب، حين يؤكد أن تلك التي ابتلعها البحر كانت ابنةً له.
جاءت أميرة إذن من صلب الجماد، وليس الإنسان، جاءت ومضت لتوقظ قريةً نائمة من رقدتها، قبل أن تذهب ضحيةً لها.. ففي عالمٍ يتنفس فيه الموتى أكثر مما يفعل البشر، لا سبيل أمام المختلف، أو المخلِّص، أو الراغب في تأكيد فرديته، إلا أن يتبخر سريعاً، دون أملٍ حتى في العثور على جثمانه.