أسامة عفيفي.. أن تعيش الحياة قصيدة والقصيدة حياة

سداسية الرمل والملح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعد القرش

    لم أبكِ أسامة عفيفي؛ فلا أستوعب عبثية المغادرة، الأحد 16 يوليو 2017. أبكيه الآن وأفتقده، وأريد تهنئته على أنه ربح الرهان، بصدور ديوانه «أشياء تُرى.. وأشياء لا تُرى»، ويليه ديوان «دفتر الشذرات». كلاهما عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، وتصدر الهيئة العامة لقصور الثقافة ديوان «سداسية الرمل والملح» الذي عثرت عليه في أوراقه، كاملا بعنوانه وترتيبه، مكتوبا بخطه الجميل، وتنتهي قصائده بإثبات تاريخ كتابتها في نحو ثلاثة أسابيع، في مايو 1992، بين مدينتيْ جدة والقاهرة.

    إنتاج شعري غزير سيفاجئ أسامة نفسه، وهو الذي راهن على أن تكون الحياة والشعر نسغا واحدا. عاش الحياة قصيدة والقصيدة حياة، ولم يهمه هذا الترتيب، ولم يستهدف إلا الاتساق مع ذاته، بألا تتخلى القصيدة المكتوبة عن جماليات الشعر، وألا تكون المواقف والرهانات والخيارات والانحيازات أقلّ شرفا وإبداعا من قصيدة.

    ربما لهذا السبب فضّل الحياة على «الشعر»، بصيغته التي يخلو فيها الشاعر لكتابة قصيدة. وعلى سبيل الدعابة، عرّف نفسه في صفحته على الفيسبوك «صحفي… وشاعر أحيانا»، ويتأكد لي أنه شاعر دائما، ومفهومه للشعر أكثر اتساعا من نشر قصيدة هنا، وديوان هناك، فأسامة يرى الشعر في كل شيء: مشهد هامشي عابر ينبض بالدراما، موقف يجب اتخاذه في الوقت الصحيح إزاء قضية مصيرية، شغف بمعرفة يسعى إلى التثبت منها وتحقيقها، حكايات شفاهية لم يكفّ عن روايتها باعتباره آخر الحكائين الكبار الآسرين.

    ما تجنّب حكايته أن كثرة الانشغالات والانكسارات والهموم تمكّنت منه، وصرفته عن التفكير في جمع قصائد منشورة يضمها ديوان، أو تنسيق دراسات أنجزها ونشرها في مجلات وصحف، لكي يضمها كتاب، وهو ما انتبهتُ إليه مبكرا، في «حالة أسامة»، وكتبت عنه مقالا عنوانه «أسامة عفيفي» في مجلة «سطور» القاهرية، عدد أكتوبر 2000:

    «في حياتك تعبر الكثيرين من الأصدقاء، ويعبرونك. وتتوقف أمام بعض من تظنهم أصدقاء، إلى أن تتاج فرصة سفر، للتعرف إلى الإنسان، بعيدا عن المجاملات المحسوبة، والعواطف المجانية. في مثل هذه الحالة فقط يمكن أن تكتشف أسامة عفيفي، أو تعيد اكتشافه.

    في مرسى مطروح، وعلى هامش مؤتمر الأدباء الأخير (الدورة الخامسة عشرة بعنوان «قضايا العمل الثقافي في أقاليم مصر»، في سبتمبر 2000، برئاسة بهاء طاهر)، بل في متن  المؤتمر، جذب أسامة الانتباه ببحثه الجاد «الحياة الثقافية في أقاليم مصر في الصحافة اليومية والأسبوعية»، عن الصحافة الأدبية التي تؤكد أننا، بعد مئة عام، لم نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة.

    في كل الأماكن كان أسامة يتحدث: في القهوة، وفي المطعم، وفي السيارة، وعلى هامش الجلسات، وفي الشارع، وهو يجيد الاستماع أيضا، تمهيدا لمواصلة الكلام عن قضية مثارة، كما يجيد إثارة قضية وبعثها من الموت، ويدفعك إلى متابعته، وهو يتحدث بصوت هامس، لكن الجدية ذات سحر خاص يعجز عن بلوغه الانفعال.

    في حياة أسامة كثير من المشاريع المؤجلة: ديوان شعر، وكتاب عن آباء الفن التشكيلي، وكتاب عن الرواد المتاجرين بالفن، وآخر عن رموز في السياسة والاقتصاد والثقافة اكتسبت ـ بالتقادم ـ قدرا هائلا من اليقين، رغم زيفها، وتنتظر شجاعة نادرة لإعادة النظر، ووضعها في حجمها الطبيعي.. كارثة! ولديه مشروع لا يريد إتمامه ـ باختياره هذه المرة ـ عن تاريخ ما تجاهله المؤرخون المحترفون أو الهواة، وما لم تقله أروى صالح عن جيل الغضب المتاجرين بالنضال.

    هناك وقائع مخزية، وتاريخ أسود من شعر رؤوس شابت، أو صارت بيضاء رغم السوء. وهناك كثيرون قدمهم إلى الحياة الثقافية من خلال جريدة «صوت العرب» ومجلة «الموقف العربي» يتحدّون ذاكرته وذاكرتنا!

    في كل هذه المشاريع طموح كبير، وأمل في يوم يهدأ فيه اللسان، ويتحرك القلم، وهذا يحتاج إلى شجاعة يملكها أسامة عفيفي، وإلى وقت لا يتاح له، لأسباب متعددة، أولها عدم قدرة المثقف على أن يستقل اقتصاديا، بعيدا عن امتهان عمل يعيش منه، واضطراره تحت وطأة لقمة العيش إلى تأجيل مشاريعه، وهي الأبقى.

    في جميع الأحوال، يجسد أسامة عفيفي الحالة المصرية بامتياز؛ دلّني على مشروع قومي اكتمل. كل شيء يبدأ بحماس شديد ثم يتوقف، أو يتحول إلى كلام جميل، مجرد كلام «عن» الموضوع، وليس «فيه».

    هل أصارح هذا الصديق «الشاهد» بأنني أخشى أن يغنيه الكلام عن الكتابة، والمشاهدة عن الشهادة.. إذا كان تأجيل الأحلام أقسى من الاستشهاد، فأنا أريده شاهدا لا شهيدا».

    انتهى مقالي المنشور عام 2000. فرح به أسامة، وضحك وتحداني بأنه سيحبط قريبا نبوءتي، بكتاب أو ديوان أو كليهما. وظلت كلمة «قريبا» معادلا زمنيا لكلمة «بكرة»، ذلك الغد لا يأتي أبدا، ففي كل شروق للشمس ميلاد جديد لغد قريب مستحيل. بعد ثورة 25 يناير 2011 بدأ مشروعا عن الشهداء، ووضع خطة كتاب لم يكتمل، وربما شغلته تطورات تراجيدية للمشهد العام، فاكتفى بقصائد أطلق عليها ديوان «دفتر الشذرات»، منها قصيدة «شهادة» من أوراق شهيد:

سيروي لك

ميدانُ التحرير

يوما

أنني رددت

اسمك ثلاث مرات

قبل أن يكفّ

القلبُ عن النبض

بعد أن أطلق

القناص الملثم

طلقتة المميتة

يوم موقعة الجمل.

    هل صرفه عن إنهاء كتاب الشهداء جلالُ المشهد الأكثر صدقا مما التصق به من كذب؟ يجيب بشذرة «كذب»:

هل استشهد النبلاء

في ميدان التحرير

كي يكتب الشعراء الآفلون

قصائد آسنة جديدة

ويصدرون دواوين

بلاستيكيةً جديدة

ويصنعون لوجوههم المتشققة

أقنعة كاذبة جديدة؟؟

    ربما خشي أن يحشر أحد حسني النية اسمه مع زمرة المتربحين من ثمار ميدان التحرير، ولو بالتقاط صورة يتباهون بها، فكتب شذرة عنوانها «بلا صاحبة»:

كل من التقطت له صاحبته

صورة بجوار دبابة أو مجنزرة

في ميدان التحرير

أصبح بالوثائق ثائرا

إلا أنا

فقط…

لأنني بلا صاحبة.

    على هامش معرض للفنانة التشكيلية المصرية سماء يحيى، في ديسمبر 2014، قرأ أسامة عددا من قصائد «دفتر الشذرات»، بحضور تشكيليين وأدباء ونقاد، وقدم الأمسية الشاعر جمال القصاص الذي عقّب على القصائد بقراءة نقدية. وقال أسامة إنها من ديوان يصدر «قريبا». عادت إليّ شكوك لا أعرف لها تفسيرا، وقلت له: لا أطمئن إلا بتسلم القصائد منك، وتسليمها إلى ناشر، فيحدد موعدا لطبع الديوان. ضحك وقال: سأبْطل نبوءتك، بكرة تشوف الديوان. وقلت: أتمنى. وتعطل نشر الديوان لأسباب لا أعرفها.

    في أول يوليو 2014، توليت رئاسة تحرير مجلة «الهلال»، وطلبت عملا للنشر في سلسلة «كتاب الهلال» الشهرية. استحسن الفكرة، وقال إن لديه مشروعا جاهزا عنوانه «أربعون اقتراحا للفن»، انتهى تقريبا منه، وبقيت المقدمة وترتيب الفصول، عن أربعين عملا في النحت والرسم والتصوير الزيتي والجداري لأربعين فنانا، منذ نحت فنان مصري مجهول تمثال الرأس المهيب للملك خفرع صاحب الهرم الثاني، ويحتضنه في حنوّ صقر بجناحيه. ويلي هذا التمثال زمنيا تمثال المهندس سننموت مصمم وباني معبد حتشبسوت بالأقصر وصاحب معظم تماثيل الملكة الجميلة. هذا التمثال النادر من البازلت الأسود هو أول تمثال شخصي لفنان في التاريخ، «أول بورتريه سيلفي حجري»، ونحته سننموت لنفسه محتضنا ابنة حتشبسوت «نفرو رع» التي كان مسؤولا عن تعليمها.

    وذات مساء قابلت أسامة في قهوة بشارع الأهرام، لأستعجل الكتاب، ورأيت معه نسخة مخطوطة من كتابه «محمد رزق شاعر اللوحات النحاسية»، عن المثّال المصري محمد رزق (1937 ـ 2008). قال إن صديقه الفنان والناقد في المجلس الأعلى للثقافة طلب اختصار الكتاب، «أختصر الآن كما ترى، لأعيده بعد يومين». ولم يصدر كتابه محمد رزق إلى الآن، ولا أدرى أين تناثرت الفصول الأربعون لمشروع كتابه «أربعون اقتراحا للفن»، وينطلق من مفهوم التجاوز، فكل عمل فني أصيل مشروع للإضافة، اقتراح جديد يسهم به الفنان في مسار الفن.

    لم يتخلّ أسامة عفيفي عن فضيلتيْ الاستغناء والعناد المميز لرعايا برج الثور، ولكنه أحيانا يقول لي «تثبت لي أن برج الجدي أصعب وأكثر عنادا من الثور». ومع العناد لا يحمل لأحد ضغينة، ويعتز بآبائه، وتحلو له رواية قصته مع الشاعرين محمود حسن إسماعيل (1910 ـ 1977) ونجيب سرور (1932 ، 1978). الأول غنى قصائده كل من أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وغيرهم، وكان يشرف على نشاط ثقافي في بيت ثقافي لعله كرمة ابن هانئ. وحشد أسامة زملاءه في المدرسة، لتشجيع شاعرهم وهو يلقي قصيدة، للمرة الأولى، في محفل يقدمه شاعر غنى له عبدالوهاب قصيدة «دعاء الشرق» المقررة عليهم في المنهج الدراسي. ألقى أسامة ما ألقى، واشتعلت القاعة بتصفيق زملائه وصفيرهم، وبهدوء قال محمود حسن إسماعيل: «ما سمعناه لا هو شعر ولا هو نثر، والشاعر التالي هو….».

    يستعيد  أسامة تلك الذكرى ويترحم على محمود حسن إسماعيل، ويذكر أن نجيب سرور رمى مجلة من رصيف شارع طلعت حرب فاصطدمت بالرصيف المقابل لمقهى ريش، واستعادها أسامة؛ لأن له فيها قصيدة لم تعجب نجيب سرور الذي قال له في اليوم التالي: «القصيدة حلوة، ومن واجبي أعصُرك، لأختبر صلابتك. الشعر يحتاج إلى صلابة وجسارة، وصاحب الموهبة غير الأصيلة ينهار ولا يكمل». وسأله «أنا عازمك، تشرب ايه؟».

    قراءة بعض من الأوراق الشخصية لأسامة وضعتني أمام جانب من ضعف شخصي أخفاه بالإفراط في إيثار أصدقائه، وخوض معارك ثقافية بشرف، وناله منها ما ناله، من دون ادعاء بطولة أو إبداء امتنان، وكان يتفادى الإشارة، وإذا بادر أحدهم وذكّر أسامة بفضل ودعم في البدايات، تجاهل ذلك الفضل، وقال «هذا حقك، وعلى من يتصدى للعمل العام أن يتمتع بالنزاهة، وألا يحتكم إلى هواه».

    في ديوانه «أشياء تُرى.. وأشياء لا تُرى» قصيدة قصيرة عنوانها «أجنحة»، كتبها عام 2015، قد تلخص جانبا من شخصيته:

كعباس بن فرناس

المفتون بالطيران

كنت أصنع أجنحة

تُذيبها  الشمس

فأسقط مرتطما

بقوانين الجاذبية العتيدة

وكابن فرناس دائما

كنت أنهضُ

لأصنع أجنحة جديدة.

    ولد أسامة في 22 أبريل 1954 وتخرج في قسم الفسلفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة 1976. وبعد تعرّضه لتجربة اعتقال، سافر عام 1979 إلى العراق الجاذب لمثقفين وفنانين مصريين من القوميين واليسار. في البداية، وبحماسة الشباب، ظن بغداد مهيأة لما ترفضه القاهرة، فنبهه محمود السعدني: «مصر مختلفة. ليس في عقيدة مصر وجهاز مخابراتها تصفية معارض في الخارج. تركنا مصر للسادات الذي لا يقارن بصدام حسين. إذا غضب السادات على معارض فصله من عمله أو نقله إلى الصعيد، ثم يعود بحكم قضائي. صدام يذيب المعارض في الأسيد. في مصر اشتغل سياسة، وفي العراق اشتغل صحافة بمعايير مهنية»، فابتعد عن أي لغط سياسي وثقافي يتبع مؤسسات سياسية، وعمل في مجلة ثقافية تتبع وزارة الصحة.

    ولكنه لم يسلم، وظل يؤجل مشروعا كتابة عنوانها «كنت صديقا لصدام». ففي جلسة بين أصدقاء شكا أحدهم من جهاز الإسعاف، فعلق أسامة ببراءة «صدام حسين لا يمكن أن يوافق على هذا التهاون»، واتصل بصديق في الإسعاف أنهى المشكلة، فتوهموا علاقة شخصية للرئيس بأسامة الذي ذكر اسم صدام مجردا. وتكررت مصادفة ثانية، فترسخ في أنفسهم اعتقاد لم ينسفه إلا تسفير أسامة، مع ختم جواز سفره بالمنع من دخول العراق. يضحك أسامة على تلك المفارقة، ويتذكرها كدراما، ويظل العراق يحتل في قلبه مكانة لا يشاركه فيها بلد آخر، وكم احتفى بالعراقيين في منابر ترأس تحريرها، وآخرها مجلة «المجلة» في بعثها الأخير، بداية من أبريل 2012، إلى أن أمر بإيقافها زميله حلمي النمنم وزير الثقافة في أغسطس 2016.

    آمل أن نتمكن من جمع دراسات ومقالات أخرى في النقد التشكيلي والثقافي، وبإتاحة هذا المنجز مكتملا سيجد القارئ منهجا جماليا في قراءة وقائع من تاريخنا الثقافي، أدلل عليه بمقدمة ما كتبه عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، في مجلة «المصور»، في 11 يناير 2017، بعنوان «الشيخ علي عبدالرازق وأقنعة السياسة المراوغة»:

    «في بدايات مسرحيات الكوميديا دي لارتي الهزلية التي انتشرت في أوروبا زمنا طويلا، وبسبب عدم إقبال النساء على التمثيل، اضطر المخرجون للعودة لاستخدام الأقنعة التي كانت سائدة في المسرح الإغريقي القديم واختفت بعد التزام المسرح اليوناني بنظرية المحاكاة الأرسطية، وكانت تصنع أقنعة وباروكات نسائية يضعها الممثلون الرجال على وجوههم، ويقلدون أصوات النساء بإتقان للقيام بالأدوار النسائية، لدرجة أن الجمهور كان يعتقد أن الممثل ما هو إلا امرأة حقيقية تستر وجهها كي لا تعرف. ولقد استخدم بريخت هذه الأقنعة في أغلب مسرحياته مستوحيا الفن الآسيوي والإغريقي وميراث الكوميديا دي لارتي؛ ليكسر الإيهام في مسرحة الملحمي، ليؤكد للجمهور أن ما يشاهده هو تمثيل في تمثيل، لينتبه المشاهدون للرسالة التعليمية التي يستهدفها بمسرحياته.

    وقد يسألني سائل ما علاقة الشيخ علي عبدالرازق وكتابه بهذه المقدمة؟ الحقيقة أنني وجدت بعد قراءتي لأغلب ما كتب عن معركة علي عبدالرازق، وأغلب وثائقها أن ما وصلنا نحن جمهور القرن الحادي والعشرين من آراء وتأويلات وأصداء تنطبق عليها أقنعة الكوميديا دي لارتي أكثر مما تنطبق عليها الأقنعة البريختية. فلقد أتقن أطراف المعركة جميعا ومؤرخوهم أدوارهم، وصدقنا أنها كانت معركة دينية بين الرجعيين والتقدميين، بينما كان الفكر والدين مجرد قناعين للسياسة المراوغة وتلك هي تراجيديا القضية».

    بعد هذه المقدمة وجب عليّ التوقف، والترحّم على خسارة عقل جميل.

  ……………………

    *مقدمة ديوان «سداسية الرمل والملح»، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2021

مقالات من نفس القسم