سعيد نصر
ينتمي أبطال مجموعة عمار علي حسن القصصية الأخيرة “أخت روحى” إلى المهمشين، والفقراء الطامحين في تغيير أوضاعهم الاجتماعية إلى الأفضل، والمطاردين بسبب عادة الثأر فى الصعيد، والشاربين لكأس الظلم والقهر بسبب مقاومتهم للفساد فى بعض المؤسسات الحكومية،والمشردين والمعذبين بسبب لوثات دماغية وأشياء أخرى ، والهاربين من عالم الماديات إلى عالم الروحانيات، ومعظمهم يغلب على قلوبهم طابع الخير والطيبة والثبات على المبدأ، بما فيه الثبات على المبدأ فى تربية البنات فى الصعيد، والناجم عن موروث ثقافى خاطىء، ومعظم شخصيات المجموعة يجمع بينها طابع الرومانسية، حتى القطط فيها ، ذكور وإناث، تتسم بذات الطابع الرومانسى، وكذلك الحمير، ونهايات بعض القصص مفتوحة ونصوصها قابل للتأويل، وبعضها الأخر نهاياته مؤلمة ، وكل ذلك يضفى على المجموعة القصصية طابع الإثارة والتشويق، و الذى تزيد الحبكة من تأثيره فى نفسية المتلقى، فى معظم قصص المجموعة، وبالأخص الحبكة الموجودة فى القصة الأخيرة”الممنوع”، حيث تفاعل السردية مع الأحداث يجعل القارىء متعاطفا مع “رضية” ومتعايشا مع فلسفتها البسيطة، والمتمثلة فى أن حبها لابن الجيران الراغب فى الزواج منها،هو المفتاح السحرى للخروج من سجن أبيها، حتى ولو دفعت حياتها ثمنا لهذا الحب.
قصص المجموعة متباينة من حيث الحجم، وعنوان المجموعة القصصية هو عنوان إحدى قصصها. وتشتمل المجموعة على 12 قصة، هى: “الجميزة، أخت روحى، مواء البنات، صورتها فى الماء، إشارات النهاية، مقهى علاء الدين، سباق خاسر، مكان آخر، جمرة تخرج من الماء، ليل وجوع، ضحكنا فى جنازته، شىء فى البحر، مدير عام”، وتدور القصص حول علاقة الإنسان بالإنسان والحيوان والنبات، ويظهر فيها بقوة تأثيرات البيئة على سلوكيات الناس، حتى بعد انتقالهم للعيش فى القاهرة، خاصة حياة الريف البسيطة، حيث الزرع والخضرة والنخيل، وحياة المدينة المعقدة والمتوحشة، حيث الحجر والأسمنت والبنايات الخرسانية الشاهقة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، اختار الراوى مقهى علاء الدين بشارع الشيخ علي يوسف بالقاهرة، و المحاط بأشجار من إحدى الجهات والمطل على حديقة دار العلوم لتشابهه مع مقاه ريفية جلس عليها فى صغره وشبابه، بصفت اللبن والمنصورة، وكانت محاطة بالماء والنخيل والخضرة.
قصة “أخت روحى” تعتبر من وجهة نظرى “أيقونة” المجموعة القصصية كلها، لهذا تستحق أن تكون عنوانها، فهى تحمل فى السرد والأحداث شحنة عاطفية شجية جياشة ومؤثرة فى نفسية المتلقى، وذلك من خلال فضح قسوة “امرأة الأب” على الطفلة “وداد”، وتعذيبها لها يوميا وتلذذها بما تفعله بسبب شعورها بالنقص، وانكسار الأب أمام زوجته القاسية بسبب فقدانه لأعز ما لديه “رجولته وفحولته”، واقتياد وداد رغم أنفها إلى زيجة أشبه بالاغتصاب الجسدى والروحى، من قريب لـ “امرأة الأب” فيعاملها المعاملة القاسية نفسها، ونمو شخصية الأخ من الجبان المتفرج إلى الشجاع المدافع عن أخته، ونمو شخصية وداد من الخوف إلى الشجاعة، ومن الرضا إلى الرفض ، ومن الخضوع للواقع المذرى إلى التمرد عليه، وربطها كل ذلك، بلحظة فض بكارتها على غير رضاها، حيث يحكى الراوى عن الزوج القاسى: ” حين عاد ولم يجدها جلس صامتًا، يتنفس فى ارتياح، ثم سأل “وداد” فى اليوم التالى: كيف جرى هذا؟، ابتسمت فى مرارة وقالت له: راح خوفى مع بكارتى.”
تصرفات وردود أفعال الشخصيات فى كل القصص متماشية تماما مع طبيعتها ودوافع سلوكياتها، وهذا يحسب للكاتب، ويعكس معايشته الصادقة لها، وإدراكه التام لعوالم الشخصيات التى يتحدث عنها، وكأنه يتحدث عن شخصيات بداخله أو شخصيات تعايش معها أو عرفها عن قرب، ففى قصة “مدير عام”، يتماشى كلام ومواقف الزوجة مع اقتناعها بسلامة موقف زوجها من الفاسدين، وفى قصة “مواء البنات” يتماشى كلام ومواقف الزوج من القطط وحبه الشديد لها مع كلام الزوجة عنه، ففى قصة مدير عام، يقول الزوج: ” زوجتى كانت بارعة فى ردى إلى صوابى، وتخفيف حيرتى وكمدى. كانت تأخذ رأسى على صدرها الحنون، وتقول لى: يكفيك أنك تضع رأسك على المخدة وأنت راض عن نفسك”.
ويقول فى مقام أخر: “حاولت هذه المرة أن أصلب ظهرى فى وجوههم، لكن الغضاريف كانت تخوننى، ولما قلت لزوجتى هذا شاكيًا فى لحظة يأس، طالما كانت تأتينى وأطردها، ابتسمت وقالت: المهم أن تبقى نفسك صامدة.”، ويقول فى نهاية القصة للدلالة على موافقة زوجته على تصرفاته وتأييدها لكل مواقفه: “واندلع ألم شديد فى بطنى، وشعرت بصداع يكاد رأسى له أن ينفجر، وهجم على حلقى ظمأ شديد، وراح جسدى يهتز له، وتراءت لى وجوه كل الأطباء، فحجبت عنى كل شىء، بما فى ذلك وجه زوجتى التى كانت واقفة هناك تبتسم تحت بوابة المطحن العالية”.
وفى قصة مواء البنات يحكى الراوى عن الزوجة: “لم تكن تسخر من مشاعره، بل كانت تحب فيه هذا، وتقول لنفسها: مثل هذا لا يمكنه أن يفرط فينا مهما جرى، وكانت تحب أن تسمع منه وهو يقول عن أهله “لحمى”، وحين قال عن القطة التى غابت “لحمنا ضاع”، اندهشت لما قال فى أول الأمر، لكنها سرعان ما ابتسمت فى امتنان لقلبه الرحيم”، ويحكى أيضا: “وتنظر فى عينيه وتقول له فى شفقة: أهى القطط أيضًا؟، يرد وهو يجفف عرقه براحتى يديه:بناتى اللاتى تركتهن للغرباء.”
يستخدم الكاتب تقنيات الواقعية السحرية فى الحكى والسرد، فى قصص كثيرة بالمجموعة، وذلك بالخيال والتخييل، ولكنه استخدمها بطريقة هادئة وناعمة ، بحيث لا تخل بالطابع الواقعى للقصص، وبحيث تعكس دلالات ومعانى عميقة تزيد من دهشة المتلقى، وتجذبه أكثر لمواصلة قراءة القصص ومعايشة الشخصيات والأحداث، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يرسم الكاتب للحمار، فى قصة “صورتها فى الماء” صورة إنسان يحب الجمال ويحس ويشعر بالجمال الأنثوى البشرى ، حيث يحكى الراوى عنه”ويلمح بطرف عينيه وجه صاحبه يضحك، فيظن أنه يسخر من طريقته فى الشرب، فيتململ تحته، ويهم أن يتفافز ويرفس، ليرميه فى الماء، لكنه حين رأى وجه سيدة جميلة منسكبًا من عينى صاحبه على صفحة الماء، يتراجع سعيدًا، ويحملق أكثر فى الماء، ولا يريد أن يبرحه”، ويحكى أيضا للدلالة على توحد الشعور بين الشاب والحمار أمام الجمال الأنثوى الفتان: “الآن لا توجد حروف لا يفهمها الحمار، ولا تضنيه، إنما صورة فائقة الحسن على الماء تزغلل عينيه، فتقدم نحوها محاولًا أن يلثمها بشفتورتيه السمينتين، لكنها تتباعد فيغوص وراءها بينما صاحبه فوقه شاردًا فى الوجه الحسن، الذى تبتلعه خيوط الماء الرقيقة، لا يدرى شيئًا عن البلل الذى زحف إلى فخذيه النحيلين.”
وتظهر سردية الواقعية السحرية عن طريق الحلم والتخيل بوضوح فى قصة “شىء من البحر”، حيث استخدم الكاتب الحلم للدلالة على مصداقية رؤية البطل للشىء الغريب والمخيف الذى رآه فى الواقع، حيث يحكى الراوى: “كان يرفرف كدجاجة مذبوحة، والموج يتخبطه، وشعرت أن يده تصفعنى، فانتفضت مذعورًا، لأجد رأسى مبللًا. جلست فى مخدعى أحملق فى السقف، محاولًا أن أمسح من رأسى الأسى، بلا جدوى”، ويحكى أيضا: “حين قمت وخرجت إلى البحر، كان لا يزال يرفرف فى مخيلتى، وإن كنت لم أعد أشعر بصفعاته، وربما حين رأيت هذا الشىء في الماء، ظننته ذلك الذى كان يستغيث بى فى المنام، وعجزت عن أن أفعل له شىء”. وفى قصة “مدير عام”، يستخدم الكاتب التخيل للدلالة على مدى القهر الذى يتعرض له المعارضون للفساد فى مطحن تابع لوزارة التموين، حيث يحكى الراوى: “تخيلت المدير العام مثل هذا العنكبوت الكبير، الذى نسج حوله خيوطًا لا تزال تمسك ببقايا ضحاياه. ورأيت نفسى واحدة من فرائسه، لكننى سرعان ما طردت هذا الخاطر من رأسى، وقلت بصوت عال:لن أكون فريسة أبدًا”. وفى قصة مواء البنات يظهر الكاتب القطط كما لو كانت ناطقة بلسان البشر، حيث يقول الراوى: “حين فتح الباب وجد القطة الأم فى انتظاره. رفعت عيناها إليه وكفت عن المواء، وكأنها تعطيه فرصة ليرد على سؤالها: لماذا ضيعت بناتك؟”، وفى قصة “مكان آخر”، يستخدم الكاتب سردية سحرية عميقة المعنى للدلالة على الحسرة التى تنتاب نفسية طالب تعرض للظلم والرفت من الكلية وأصبح يعمل “فواعلى” ، حيث يحكى الراوى: “ها هو الدم الذى انفجر من الأنف المعقوفة يتناثر على الرمل فيصير أحمر، ثم أسود، مثل حاله التعيسة. يمد يده ويجرف البقع السوداء التى كانت حمراء، ويفتح فجاجًا فى قلب الكومة الكبيرة، يصير أكبرها ردهة طويلة مؤدية إلى المكتبة، التى كان يقضى فيها ساعات كل يوم، وأصغرها ردهة قصيرة إلى البوفيه، حيث يطيب له احتساء الشاى وحيدًا، مستمتعًا بالبخار الذي يتصاعد ويملأ أنفه، لاسيما فى الصباحات الباردة.”
ويستخدم الكاتب السرديات الدالة على مكنون الشخصيات ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فى قصة “الجميزة” يستخدم سردية دالة على سيطرة الطابع المادى على الحياة من خلال طمس الخضرة بالأسمنت والبلاط ، حيث يقول الراوى: “سألته بصوت غارق فى الأسى: ألم يبق منها شىء؟، فأجاب فى توجع: حفرة ردموها على عجل، ثم رصوا فوقها بلاط يلمع”. وفى قصة “الممنوع” يستخدم سردية دالة على رغبة جارفة فى الحرية، أشبه برغبة المشرفين على الموت فى الحياة، حيث يحكى الكاتب :كانت “علية” تقول لـ “رضية” عن القطار: “ادفع عمرى كله، وأركبه مرة، لأرى الناس والبلاد”، وتلتفت إليها لتجدها غارقة فى دموعها وهى تقول: يبدو أننا سندفن هنا، لن يرانا أحد، ولن نرى أحدًا”، وفى القصة ذاتها يستخدم الكاتب سردية دالة على الشعور بالنقص المؤثر بالسلب الشديد على السلوك الإنسانى، حيث يحكى عن زوجة الأب : “أما هى فصرخت ذات مرة فى “وداد”: أبوك يكون فى حضنى وينادينى باسم المجحومة أمك.”
وفى القصة ذاتها يستخدم الكاتب سردية دالة على الثقافة الموروثة فى الريف عن مفهوم الرجولة وارتباطها وجودا وعدما بالفحولة، حيث يقول الأب لابنه فى قصة أخت روحى: “لم يعد أبوك كما كان، وأخشى أن تفضحنى”، ويستخدم سردية أخرى دالة على قسوة انكسار الزوج أمام زوجته بسبب ضعفه الجنسى، يحكى الراوى فى القصة نفسها: “وفى ليلة صارحت أختى “وداد” بكل شىء، فابتسمت وقالت: طلاقها شهادة بعدم صلاحية أبيك زوجًا، لهذا هو يبقيها معه، غير عابئ بما تفعله معنا، ولديه أمل أن يثبت لها ذات ليلة أنه عاد كما كان”، وفى قصة “مقهى علاء الدين” يستخدم الكاتب سردية دالة على مدى ارتباط الإنسان الريفى ببيئته الريفية مهما طال به الزمن فى المدينة المتوحشة، حيث يقول البطل: ” تخنقنى المقاهى التى لا تعانق الشجر. أجلس عليها مغمض العينين باحثًا عن الخضرة النابتة فى ذاكرتى”.
وإضافة لما سبق،يستخدم الكاتب سرديات دالة ترسم صور تعبيرية تعكس المشاعر النفسية للشخصيات، منها سردية دالة على حزن الأخ الشديد والعميق على أخته فى قصة أخت روحى، حيث يقول الراوى: “وأسبوع واحد وغادرتنى “وداد”، ودموعها على أصابعى، تركتها تجف على مهل، وفى الليل شعرت بألم في يدي اليمني، نظرت إليها فوجدتها حمراء، ظننت أنها مجروحة، وجريت إلى الحمام، لكنني تراجعت عن غسلها، وتركت عليها الدم، وعدت إلى مخدعي باكيًا، ووضعت يدى الدامية أمام عينيَّ، وأنا أقول لنفسى: هذا دم وداد”، ومنها أيضا سردية دالة على انكسار الأب بسبب خوفه من فضح زوجته له بعد فقدانه لرمز رجولته وفحولته، حيث يحكى الراوى فى نفس القصة على لسان الابن: “وأدركت بعدها أن الأيام المقبلة ستصير أصعب على “وداد”. فأبى ازداد انكساره، حتى أننى كنت أراه طيلة الوقت يمشى منحنيًا أمامى، ويجلس مطأطأ الرأس، وأراه أحيانًا يزحف على بطنه، رغم أنه فى الحقيقة لم يغير وقوفه ولا قعوده ولا نومه. كنت أرى داخله، وكان يدرك، على ما يبدو أننى أرى”، ومنها كذلك سردية تكشف عن الحجم الضئيل للمرأة الريفية فى عيون الرجل الريفى، خاصة ريف الصعيد، حيث يقول الكاتب فى قصة الممنوع: “طوحت رضية يدها فى الهواء، وقالت: أمى ست شريفة، وما فيها من الله. نظر الأب إلى يدها وهى عائدة إلى جانبها، وقال: تكلمى من غير ما ترفعى يدك.”
الرمزية عميقة الدلالة والمعنى أحد أهم مميزات هذه المجموعة، فرمزية أن الحرية قبل الخبز وأن العيش بالتعب أفضل من العيش عالة على الآخرين تظهر بوضوح فى مشهد لعصفورة بقصة “الجميزة”، حيث يحكى الكاتب: “وبدأت تضرب منقارها فت ثمرة جميز، حمراء طرية، لكنها سقطت منها فوق رأسى. التقطها من على الأرض، ووضعتها على كفى، ورفعتها نحو العصفورة، التي رمت عينيها نحوى، لكنها لم تأت. استدارت، وأعطتنى ذيلها، وانهمكت فى نقر ثمرة أخرى”.
وفى قصة “شىء من البحر” يرمز الشىء المحير للكاتب والغارق فى الماء إلى الناس الفقراء والبسطاء الغارقين فى هموم الحياة ومشاكلها القاسية، حيث يقول الكاتب: “لكننى لمحت ذلك الشىء فعلًا فى قلب الماء، وكان مصلوبًا كــ “خيال المآتة”، وفى قصة جمرة من تحت الماء، ترمز تلك الجمرة إلى القضاء والقدر فى الموت، والذى إذا جاء لايمكن للإنسان أن يهرب منه ، ولو كان فى برج مشيد، حيث يحكى الكاتب عن الرجل المطارد:” ورفع باطن يده فرأيت إحمرارًا شديدًا فيها، لكننى سألته بسرعة:إذا كانت نهايتك فى الصيد فلماذا لم تقلع عنه؟، تنهد بحرقة وأجاب: حاولت غير مرة، وأفشلتنى قوة جبارة لا أعرفها، فكنت أذهب وأمنى نفسى ألا تخرج الجمرة أبدًا”. وفى قصة مواء البنات، ترمز القطط السمان، بالإيحاء والتورية وبتقنية الصورة العاكسة، إلى المحتكرين للأغذية ولغيرها من السلع ، حيث يحكى الكاتب:”وفى عيونها غلب الإجهاد الخوف، وهى ترقب قطع السمك النيئة تندفع فى أفواه قطط سمان، بدت متفاهمة على تقسيم الطعام كله فيما بينها”. ، وإن كنت أنا أرى بخيالى ، مدفوعا فى ذلك بالنظرية السيميائية فى تناول النص الأدبى، أن القصة كلها ترمز لأطفال الشوارع من خلال قطط الشوارع .
ولم تخل قصص “أخت روحى” من النزعة الصوفية، وهذه سمة يتسم بها الكاتب فى معظم رواياته ومجموعاته القصصية، فقصة “سباق خاسر تحكى عن شخص غرق فى الماديات وأهلك نفسه فى سبيل جمع المال والتلذذ بالنساء، فكانت نهايته بائسة وتعيسة ، والكاتب هنا لا يحاكم الرجل وإنما يحاكم كتبة التاريخ الذين يحصرونه فى قصص الملوك والرؤساء وقصورهم الفخمة فقط، ويلفت الانتباه إلى أهمية الجانب الاجتماعى والدينى للتاريخ، وكأنه يريد أن يقول أن هناك بسطاء تأثيرهم أقوى بكثير من تأثير الملوك والرؤساء، منهم بالطبع الولى الصوفى، وهذا كله يظهر بوضوح فى هذه السردية المثيرة والشيقة، حيث يحكى الكاتب:”وظهر هناك شيخ يرتدى جلبابًا ناصع البياض، وفى يده عصا يتوكأ عليها، راح يتقدم في هدوء نحوي، حتى وصل عندي، ثم جثا على ركبتيه، ورفع رأسى، ونظر فى عينى وقال:
ـ نفد عمرك فيما لا طائل منه، ولم تتعلم منى شيئًا.
جمعت ما تبقى من قوتى وصرخت فيه:
ـ أنا لم أرك من قبل.
ضحك وقال:
ـ لم تر غيري، لكن خانتك البصيرة.
فتحت عينيَّ بصعوبة شديدة فرأيت على وجهه تعاريج متشابكة، وسألته:
ـ من أنت يا عم؟
ابتسم وقال:
ـ أنا التاريخ الذى شغلك منى أتفه صناعتى.”
ومجموعة “أخت روحى” تتميز أيضا بأن بها ثنائيات مرتبطة ببعضها البعض، ولا يمكن للحياة أن تكون جميلة إلا بها، منها على سبيل المثال لا الحصر، ثنائية الحب والحياة، فى قصة “الممنوع”، وثنائية الفقر والحلم العريض فى قصة مكان أخر، وثنائية الروح والجسد فى قصة الجميزة، وثنائية الإخلاص والتضحية فى قصة ضحكنا فى جنازته، وتظهر ثنائية الحب والحياة فى سردية قصة الممنوع، حيث يحكى الكاتب عن الأب وابنته علية: “وكان هو يحسبها قد أصيبت بالتبلد، فيستمر فى سبها، وحتى حين كان يصفعها، تضحك فى داخلها ساخرة منه، وهى تقول فى نفسها: متى يعلم أبى أن قوة الرجل فى حنانه وطيبته؟ ، ويحكى عن رضية : “وذات ليلة قالت لأختها “علية” وهى تحضن وسادتها الخشنة: الحياة بلا حب لا تطاق”، وتظهر ثنائية الجسد والروح فى قصة “الجميزة” ، حيث يرتبط الراوى بها ارتباط الروح بالجسد، ويظهر ذلك فى قوله: “أمد رأسى من نافذة القطار فتبدو لى أجمة داكن خضارها، تحط فى الفضاء الرحب على مرمى البصر. لا أرى البيوت الخفيضة، التى تدلنى على بلدى لكن أراها هى، فأقول: لا تزال بلدى على قيد الحياة”، وتظهر ثنائية الفقر والحلم العريض بوضوح فى قصة “مكان أخر”، حيث يحكى الكاتب عن الطالب المرفوت من كليته: “أما الردهة المتوسطة فتؤدي إلى الباحة المستديرة التى تزدان جدرانها بمجلات حائط، بعضها يحوى مقالات كتبها هو وبث فيه رؤيته التي توهم أنها ستغير العالم.”
أما ثنائية الإخلاص والتضحية، فهى ثنائية عميقة الدلالة، حيث يمكن الاستدلال بها، من خلال الإيحاء القائم على النظرة السيميائية للنص، على قيمة التضحية فى سبيل الوطن، فالرجل الغريب هو المواطن، وبيت الرجل الذى يأويه هو الوطن، وصاحب البيت لم يبخل على الغريب ووفره له احتياجاته واعتبره من أقربائه، وهذا أشبه بالعقد الاجتماعى بين المواطن وحكومته، فكانت النتيجة أن ضحى الغريب بنفسه فى سبيل الحفاظ على مواشى سيده، أى ضحى المواطن فى سبيل ممتلكات الوطن،حيث يحكى الكاتب فى قصة ضحكنا فى جنازته: “وشق الرجل الذي يأويه الحشد، ووقف عند رأسه يعاتبه:لماذا خرجت في الليل، وأنت تعلم أنك لن تعود؟، ونظر إلي رؤوسنا المنحنية في أسى وقال: ضحى بروحه من أجل بهيمتى التى شردت من الحظيرة إلى الزراعات. عادت هى، ورحل هو.”
في النهاية يمكن القول إن الكاتب تناول فى قصصه قضايا مجتمعية حساسة للغاية، منها قضية الثأر، وذلك فى قصتى “ضحكنا فى جنازته”، و”جمرة تخرج من الماء”، وقضية التربية الخاطئة للبنات والتفرقة فى المعاملة بين الذكر والأنثى فى قصة “الممنوع”، وقضية الفقر المدقع والمشردين بسببه تحت الكبارى وساحات المحطات فى قصة “ليل وجوع”،وقضية العنف ضد الزوجات فى قصة”أخت روحى”، وقضية الهلع من مرض السرطان، بسبب عدم وجود علاج ناجع له حتى الآن، فى قصة “إشارات النهاية”، وقضية ساقطى القيد فى مصر، حيث يقول الراوى فى قصة “ضحكنا فى جنازته”: “كانت فرصة لأسأله، وكان مهيئًا للإجابة فى هذه اللحظة. تحدث وهو شارد بعيدًا، فقال:أنا أضحك فيكم .. وليس لى اسم لأنى “ساقط قيد”، وقضية عدم انشغال الناس البسطاء بالسياسة وخوفهم من الحديث عنها، حيث يحكى الراوى عن النادل فى قصة “مقهى علاء الدين”: “هو مثلى جاء يسعى وراء رزقه، ولا يشغله شىء في هذه الدنيا سوى الله وعياله. هكذا سمعته يقول ذات ليلة لرجل كان يريد أن يدحرجه لحديث فى السياسة:لا أعرف سوى الله في السماء، وأولادى على الأرض”.
بالإضافة إلى قضية الرشوة ومخاطرها الاجتماعية، حيث يحكى الكاتب على لسان البطل: “وقلت أبدأ بطبيب المصلحة، وكعادته لم يقطع بشىء، يقول آراء عامة فى الطب، ثم يحيلنا إلى زملائه المختصين، وفى آخر الشهر يجول على عياداتهم ليحصل على رشوته المنتظمة. فى مستهل حياته الوظيفية كان جارى فى السكن، يقطن مثلى شقة بسيطة فى ساقية مكى، قريبة من المطحن. اليوم انتقل هو إلى حى المهندسين، وبقيت أنا مكانى، يتقدم بى العمر، ويتقادم العقار، ولا يلوح أى أمل فى الانتقال إلى مكان أفضل”.