سارة عبد النبي
وجدت الدماء، في المنديل الأبيض، المُزَيًن بزهور ذهبية مشغولة على حوافه بخيوط لامعة، كانت أمي تعلقه على صدري بدبوس صغير في الزي المدرسي، وأعود به في أحد جيوب حقيبتي، المحشوة بالكتب وأغراض المدرسة، أخرجه لها لكي تزيل ما علق به من أوساخ، أحيانا أنساه لفترة في الحقيبة حتى أجده صدفة.
هذه المرة رأيت الدماء، بقعة كبيرة في منتصفه، لونها الأحمر القاني، تضادها مع الأبيض الناصع، أفزعني، ملأ الرعب قلبي الطفل وانتفض، لمستها، شممتها، رائحتها علقت بأصابعي، أصابني القيء لأيام، ودوار كلما هممت برفع رأسي لأعلى، كلما نظرت للضوء، للأشياء اللامعة، جلست وحدي في الظلام، عزلتي جعلتني أكثر تعلقا بالتفكير، بالأسرار التي يكتوي بها صدري، تسألت لما الدماء في منديلي، لما كانت طازجة وحارة، بكيت دموعا كثيرة، أنهكت بصري في البكاء، ازدات حالتي سوء، تحول الظلام الأسود لبقع كبيرة حمراء، تتجول في فضاء الغرفة، حاولت ابعاد الوساوس عن رأسي حتى يستقيم أمري، لكنها ظلت تعاودني مرة بعد مرة، ليلة بعد أخرى، لم تفارقني سيرة الدماء وصورتها في المنديل، عرفت الحقيقة منذ اللحظة الأولى وأنكرتها في نفسي، بالتأكيد هى دماء رانيا، سالت دماؤها بين أقدام المارة، بين أكوام القمامة، منذ أسبوع ماتت، منذ أسبوع نزلت للقبر، أهالوا على جسدها ووجهها الشاحب التراب، منذ أسبوع تخلت عن حياة لم تكن تعشها بالفعل، كأنها روح غريبة هائمة، هبطت بالخطأ على هذه الأرض لتعاني، ولكن كيف أتت لمنديلي دمائها، قتلتها في نفسي مرات كلما حاولت أن تحيا، ولكنه كان قتلا رمزيا، لم أكن أتصور أن يتحول لحقيقة واقعة يوما ما..
أخفيته عن عين أمي، في الحمام أغلقت الباب ورائي بالترباس، تحت الصنبور وضعته، راقبت قطرات الماء المحملة بالدماء، تذوقتها، مرة كالعلقم، آخر شيء من رانيا هنا، يذوب الآن في حلقي، مع كل ثانية تمر تزداد شفافية المياة، كل آثر لها عن الوجود يغيب، يغمرني الآسى والحنين لرؤيتها، وشعور ثقيل بالذنب.
رانيا فتاة تشبه الفقر في مجمله، بل تجسده بذاتها على الأرض، خفيفة كريشة بيضاء مغبرة بالأتربة، ومع ذلك تمشي بكل ثقل، تجر خطواتها بمعاناة شديدة، كأن أكياس من رمال معلقة في أقدامها، شيء ما يجذبها لمكانها ولا تقاوم.
جلدها أصفر باهت مريض، تذوب حدودها مع حدود الكون، فلا تستطيع أن تميزها أو تستخلصها من صورة مرتعشة، فضاء أبيض خالي، درجة من درجات الأصفر القميء.
شعرها خفيف، لن تدرك لونه من خفته، خصلة رفيعة مربوطة تلتصق برقبة تغوض في كتفين عريضين، عيون مفتوحة تبلع كل من ينظر إليها، واسعة جدا كأن وجهها كله عيون، قلا تنصرف عنهما لتنظرلملامح أخرى، تمتد خارج جفونها كأنها جزعة من شيء ما، عيون ممتلئة بالجوع للحياة، ممتلئة بحقيقة الموت المؤلمة.
ملابسها، حذاؤها، حقيبتها، كل شيء تمتلكه فقير، فقر مزرٍ معدٍ، تبدو شديدة النظافة، مرتبة لدرجة كبيرة، ولكن كل هذا الاعتناء لم يحقق غرضه المطلوب بأن يخفي الفقر، بل على العكس تماما، أظهر مأساتها أكثر مما ينبغي.
رانيا فتاة يتيمة تجلس في آخر الصف، حضورها كغيابها تماما، لا أحد يفتقدها، لا تنقص أي حكاية بدونها، لا ترافق أحد، لا تتكلم لأحد، كأنها خرساء، لم أسمع صوتها يوما، ولكني تخيلته كفحيح الثعابين، لا تجيب على الأسئلة أبدا، لا تستطيع حفظ حروف الإنجليزية، نصف كلماتها في حصة الإملاء خاطئة، لا تعرف الضرب أو القسمة، تضرب كل يوم بالعصاة، مغمضة العينين تفتح يداها بلا حراك، تتلقى العقاب كأنه جزء لا يغيب من وجودها في المكان، لا ترى في عينيها أي تعبير بالغضب، رانيا فتاة يثير هدوئها وبلادة ذهنها الأساتذة حتى وإن لم تخطيء في شيء.
هربت منها، من المسافة القصيرة بيني وبينها، من الأشياء التي تجمعني بها في نفس الخانة، من عينيها التي تدعوني للرفقة، للمساندة، للألتصاق بالجدار بجانبها لساعات، للصف الأخير، أمنيتها معلقة فقط ببضع خطوات مني للوراء.
توددت للأذكياء، حفظت أسمائهم، تملقتهم، جلست بمقاعدهم في الصفوف الأمامية، تبعتهم في خطواتهم كالظل، كالخادم المنسحق، اندمجت في تلك الدوائر، أحاديثهم، ألعابهم، نكاتهم سخيفة الظل، التي لا أفهمها أبدا، ضحكت كثيرا، ضحكات مخزية ثقيلة، ضحكت كثيرا حتى أثارت ضحكاتي أحزان وشجون بداخلي، حاولت أن أدرس ليلا نهارا، حتى أشبههم، حتى تنضم يدي لمجموعة الأيادي المرفوعة عاليا مع كل سؤال يطرح، حتى تكن لي دائرة خاصة، أنا مركزها، حتى يدللني الأساتذة دللا مبتذلا بلا معنى.
حفظت جدول الضرب، تدربت على المسائل الحسابية المعقدة، حفظت القصائد ومعانيها، كلمات الإنجليزية، أسماء الدول وعواصمها وخرائطها، لا شيء سوى القراءة باستمرار حتى تعب مني رأسي، وأصبح ثقيلا منهمكا.
لكن رانيا ظلت تطل بعينيها داخلي، بكل ضعفها البشري المستكين تغلبني، تقهرني، صوتها يقهقه كلما خطوت بعيدا عنها، عن صورتي الأصلية التي تتلاشى أمام مخاوفي الكثيرة،
تشبه الأرنب الماكر الرابض في حديقة مظلمة، مكانه بلا حراك، وجسده كله ينتفض، يترصد خطواتي، ومكان اختبائي بعيدا عنه، مستعد للأنقضاض علي، للفتك بي في أي لحظة، يحبس أنفاسه، ودماءه الحمراء الساخنة خلف جلده الأبيض السميك، الأملس الكريه، إذا نشبت أضافري فيه دفاعا عن نفسي، أطلق صرخة مكتومة تتردد في صدري بلا توقف، تتناثر الدماء في كل مكان حولي، على الأرض التي أقف عليها، على أقدامي، على وجهي ويدي، على منديل أبيض في جيب حقيبتي،
حاولت تجاهل دعوتها المستمرة وإغرائها لي باقتحام عزلتها، هربت من الشبه الكبير بيننا كلما نظرت في المرآة، أخفيت عن الجميع موت أبي، حتى لا أكون يتيمة مثلها، فيجلسونني بجانبها في الصف الأخير، رأيتهم يدفعوني بالفعل، بأيديهم الغليظة التي تنشب أضافرها في جلدي، بأصواتهم المنفعلة لأشياء لا تخصهم، بل تخصني وحدي، بمشاعرهم الباردة كالثلج الذي يلهب الجروح الطفيفة، اجلسي هنا، في هذا المكان الخالي، في هذا المكان المنفصل عن عالمنا، جعلوني أضحوكة في أفواههم، حديث من أحاديث الاستهزاء والشفقة،
عاش أبي في كذبة أخترعتها، ورددتها حتى صدقتها، مسافرا لبلد بعيد، ولهذا حرمت من قبلاته لي، أحضانه الدافئة، حنانه، يده التي تتشابك مع يدي في طريقي للمدرسة، واحتفظت فقط بمكاني وسطهم.
في يوم أذكره جيدا، برغم أنه من الماضي البعيد، في طابور الصباح كنا نستعد ليوم جديد، غابت صورتها عنا، بحثت عنها بعيني، حتى لا تنتهز الفرصة وتتلبسني كالعفريت، لم أجدها، الطبول كانت تدق بلا توقف، وكل شيء ساكن، وكل شيء ينذر بحدث ما، حتى سمعنا الصراخ، صوته كان فظيعا، ملء الفضاء، ملء الصباح كأبة وألم، لم يفارق أذني يومها، لم يفارق رأسي ممتزجا بدق الطبول المستمر، كأني مخبوطة بألة حادة، أنظر ولكني لا أرى، أمشي ولكني لا أتحرك، أنطق الكلمات بلا صوت مسموع، أبكي فينهمر البكاء بداخلي، بلا دموع، صورة رانيا ملقاة وسط الدماء، كانت تمشي على الرصيف، لم تكن تعبر طريق السيارات، ومع ذلك صدمتها دراجة بخارية، رغم ضعفها وموتها الأكيد، قاومت، مدت يدها له لينقذها، لكنه داس عليها مرة أخرى وهرب، هذه المرة صمت كل شيء، لم تكن قادرة على الصراخ، لم تكن قادرة على الألم، بصورة أو بأخرى كنت أشبهها تماما، ولكني على قيد الحياة.
ماتت رانيا ولم تكن حتى تعبرالطريق بل كانت تمشي على الرصيف، جملة ظلت تتردد بداخلي، أقاوم استرجاع التفاصيل، أحاول نسيانها، وصف المدرسون الذي تجمعوا بالخارج أمام المدرسة الحادث، دمائها، جسدها المتفسخ، عيونها المفتوحة، يدها المضمومة على صدرها عندما سقطت بعد الرجاء الأخير، يتحدثون في الأمر كأنه شيئا عاديا، غطوها بالجرائد مكانها، لم يحملوها للمدرسة ولا أعرف ما السبب، ظلت على الرصيف، جثة منبوذة تثير الشفقة للمارة، والرعب للصغار، أخبروا أهلها، ولكن رانيا فتاة يتيمة، ليس لها أب، يبكي لفراقها، يلملم جثتها المتناثرة بين أحضانه، يضمها للمرة الأخيرة، يبحث عن الجاني، ينتقم منه، ولكن قبل كل شيء يسأله لماذا، وهي فقط كانت تمشي على الرصيف، لم تكن حتى تعبر الطريق؟
في المنديل رأيتها، شممتها، عاتبتني عينيها كثيرا على الفرص الضائعة للقاء، وما زلت أهرب من قدرها الذي يلاحقني، على طلاء غرفتي في الليل، وسط رسوم سريالية بفعل الزمن، تبتسم لي فتاة بحزن، تضيعها عيني في الظلام، ثم تجد هى سبيلا لي مرة أخرى، طلبت من أمي إعادة طلاء الغرفة حتى أمحوها تماما، حتى أستطيع أن أنام.
أصابتني الحمى لأيام، قال الطبيب أغمروها بالماء البارد، في أحلامي كانت تأتيني متخفية في صورة ملامح أخرى، أجلس معها، أحدثها، ألعب معها ألعاب كثيرة، بالدمى التي تملأ غرفتي، في منتصف اللعب تنزع القناع فجأة، أبكي من خديعتها لي وانتصارها علي، تأتيني مرة أخرى على أرجوحة كبيرة جالسة، من مسافة بعيدة أراقب أراقب أطرافها الطائرة في الهواء، ثم أنتبه لها خلفي، تتسلق شجرة كبيرة تنبت من عنقي، لكنها متجه لأسفل، للأرض التي أخطو عليها، تحتضنها كالزواحف ملتصقة بها، إن سقطت مرة حاولت مرات، لا تيأس أبدا من مهمتها.
بعد أسبوع عدت للمدرسة، لوني أصفر، شعري خفيف يلتصق بعنقي، نحيلة، أمشي ببطء، لم يفتقدني أحد، أو يشعر بغيابي أحد، عندما دخلت الفصل أتجهت للصف الأخير، لأول مرة تدركني الراحة، راحة جواد من ركضه المستمر بلا هدف، جلست صامتة، كأني نسيت كل ما تعلمت، كل ما حفظت في السنوات الماضية، نظرت من الشباك للخارخ، للطريق المزدحم بالسيارات، والناس التي تعبره بسلاسة وأحيانا بتهور، للرصيف الفارغ، في نقطة معينة استقر فيها بصري تماما، وانتظرت مبتسمة،
في حصة الرسم، قال المدرس المرة القادمة احضروا الألوان، سنرسم الربيع، الشمس المشرقة، الأشجار، ملابس النساء الزاهية، الزهور في أغصانها، حبات التوت المتناثرة على رصيف فضي، كل هذا أحمر، بحثت عن لوني لم أجده وسط باقي الألوان، وجدت وعائه فارغا من الفرشاة، وضعت يدي في جيب الحقيبة، وجدتها، لكنها كانت فارغة جافة، خالية تماما من لونها الأحمر كلون الربيع، كلون الدماء.