هكذا تكلم إلياس..الفاشية والوعي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

من الإشكاليات التى قد تواجه قراءة رواية "إلياس"، للروائى والمترجم والصحفى أحمد عبداللطيف، الإذعان للمقولات التى يمكن دمغ هذا النص بها، أو اللافتات التى تم رفعها عليه، لتصبح غاية فى ذاتها. وتصير " مجرد إشهار بسيط لرؤية شكلانية" بتعبير تودروف.

رواية "إلياس"، خلافا لكثير من أعمال كتاب الألفية الجديدة، لا تحاول استعادة حالة "براءة" اللغة قبل "السقوط" و"تعسفية الدلالة" ، فكما يقول ستلمان، إحدى شخصيات رواية مدينة الزجاج، للروائى الأمريكى بول أوستر: كانت إحدى مهام آدم فى الجنة خلق اللغة، وإعطاء كل خلق وشئ اسمه. كلماته تكشف جوهر الأشياء وتبعثها إلى الحياة. يخلص ستلمان إلى أن قصة سقوط آدم من الجنة لا تسجل سقوط الإنسان وحسب، بل سقوط اللغة كذلك، حيث انفصلت الأسماء عن مسمياتها، وتحولت الكلمات إلى مجموعة من العلامات التعسفية

فى أعمال مثل “إنجيل آدم ” و ” قبل أن يعرف البحر اسمه”، نجد عالما قابلا للمعرفة، و ذاتا انسانية، رغم هشاشتها، تحاول أن تظل المركز الخلاق للعالم، هى التى تأتي بهذا العالم إلى الوجود، أو تعيد خلقه.

لسان إلياس، فى الرواية، ليس كلسان آدم، لا ينطلق مثله مباشرة إلى قلب العالم، تواقا للعدم، متشككا فى قدرة اللغة على التعبير، يتحدث عن نفسه ويستنسخ أفكاره. والعالم يقع خارج يقين الادراك.

تطرح الرواية رؤيتها عن لغة لوثها العالم ولا تقبع فى حضانة منعزلة، وموقفها تجاهها ليس تأمليا فحسب، وإنما تاريخيا فى المقام الأول. فاللغة تنتج المعنى فعلا وليست مجرد نسقا لتثبيت المعانى التى تشكلت مستقلة عنها. وتتجلى “الكتابة”، من خلال النص الروائى، بوصفها انحراف عن أساس و قواعد وتقاليد اللغة: “الالتزام بقواعد اللغة مثل الالتزام بقواعد الحياة… لكن قواعد الحياة تخترق. لكن قواعد اللغة تخترق”.

تتسم لغة “إلياس” بالتكرار والتردد، والذى وظفه النص الروائى ضد بلاغة الإنشاء التقليدية، لا بوصفه سمة للكتابات الدينية والصوفية. تكرار عصابى يمثل هذيان الراوى. غياب الضمائر عن إلياس وتكرار ذكره فى النص محاولة لتأكيد وجوده المتحلل، ومحاولة لخلق مركزية وهمية بعدما تقوضت ذاته وانسحقت عبر التاريخ.

يعتمد السرد على التردد Aporia، وتشير الكلمة إلى شك حقيقى أو مزعوم فيما يتعلق بطبيعة العمل فى خطاب ما، وهو وسيلة مجازية تمثل الطريقة التى يعمل بها النص على تقويض ادعاءه هو ذاته بأنه يقدم معنى محددا.

يصف إلياس نفسه بأنه سطحى ولا يحب العمق. يتكرر سرده لمشاهداته على مدارالتاريخ، والتى تلوح بشكل وصفىو”محايد”، وبعضها يبدو خاضعا لسياق مايحكيه :

القباطنة أول الناجين على عكس المتوقع… القباطنة يتخلون عن الجميع. القباطنة يدّعون إنقاذ الجميع من الموت. من الموت المحقق. القباطنة لا يمنحون حرية الاختيار”.

“لكن الشارع كان لا يزال مزدحما. مزدحما بجثث مسجاة. مسجاة على الأرض وفوق الجثث صلبان”…. ” صلبان لا تحمل وجه المسيح. صلبان تحمل وجه الملك”.

” قالوا يا إلياس دافع عن الحق. دافع عن القوميين. دافع عن العسكر. دافع عن الوطن. قالوا يا إلياس لا تتردد. اقتل يا إلياس. فقتلت لوركا”.

لكن خلف هذا السرد يكمن البُعد المجازى لكلماته، حيث الفاشية وقد حفرت نقوشها فى ذهنه، أوصارت المادة الخام التى يتشكل منها وعيه. لذلك يجد التردد طريقه إلى لغةإلياس، لأن الذات تسعى إلى التخلص من إهاب الفاشية، أو تشعر بقبح ثقلهالكنها لا تعرف سبيل الخلاص. فإلياس يتحدث وكأنه الناطق الغفل بلسانه، لايرتد إلى حالة من البراءة الأولى، وإنما يعكس من خلال خطابه ما يعتمل فىوعيه من قلق.

ورغم دمغ إلياس بالإنسان “المطلق”، إلا أن وعيه ليس وعيا متعاليا “ترنسندتاليا”، بل هو وعى تاريخى، مشتبك مع المواقف والأحداث التى وجد فيها والتى يحاول فهمها أو تجاوزها. ففى مشهد يبدو هامشيا أو مقصودا لذاته، يتحدث إلياس عنظفر إصبع إبهام قدمه اليسرى الذى ينشق عنه، ثم يتحدث عن موت الظفر الذى سينصهر مع التراب، و يختتم كلامه قائلا: ” بينما أنا من علاى المزيف أتابع حركة الموت”. يصف إلياس تعاليه عن الحدث بالزيف من خلال لغة مواربة ترسخ لمعنى ضمنى آخر.

لهذا تعامل النص مع مفهوم “التاريخ” لا “الزمان”. فالزمان مفهوم أكثر تجريدا، يوحى بمرور الفصول و تبدل الهيئة والأحوال. أما التاريخ فهو صراعات الأمم أو ذبح السكان أو تكوين وإسقاط الدول، بتعبير تيرى إيجلتون. فانتقاء سنوات توتر ودماء فى تاريخ القاهرة وغرناطة (كما يظهر فى التواريخ المختلفة) يمثل رغبة النص فى كسر التجريد، واستجابته لظروف تشكله التاريخية والاجتماعية الدامية، رزوحه تحت وطأة السنوات الأخيرة و جدله معها. والرواية لا تطرح انكار عبودى للذات كمقابل لمركزية خلاقة، أو تاريخ داخلى وجودى، بالمعنى الهايدجرى، كتاريخ حقيقى مقابل تاريخ العالم. إنكار قد يخلق سكونا أمام الفاشية والظلم (وقد تكون تاريخية هايدجر هى ما قادته إلى تأييد هتلر والنازية)..

تتجلى راديكالية “إلياس” فى غياب للتناقض الأدائى بين ما تقوله والطريقة التى اعتمدتها لذلك. كما تتجلى دلالة اسم إلياس المعرفية رغم مرواغة النص لجعل اسم إلياس بلا معنى بوصفه متاحا تفسيرا عبر تفكيكه: ” اسم إلياس يمكن أن يكون فعلا بلخبطة الحروف”. الاشتباك مع دلالته فى النصوص المقدسة والموروث الدينى، بما تحمله من طبيعة ميتافيزيقية، وجدلية ثبوته التاريخى. فهو الخالد الحى، الأسطورى، لكنه ما إن يحضر لهذا العالم، حتى ينسحق أمام الرعب النهائى للحياة، ويمسخ التاريخ الدموى لعالمنا كل صفاته المتعالية.

يتشكل سؤال الكتابة داخل “إلياس” من خلال المتكلم فى الرواية بوصفهمنتجا للأفكار. يقول إلياس (الراوى): “الرواية تقرأ الواقع.. تفكك مفاصلالواقع”، ويتحدث عن الكليشيهات المطرودة من كتابته والموجودة فيها. ثمةاحتمالية أن يكون النص الروائى عبارة عن قصص كتبها إلياس نفسه، كمؤلف ضمنىللعمل.كإنسان يعيش داخل الأرشيف، ككاتب قصة.

لذلك لا يمكن فصل مضمون الرواية عن شكلها، أو التعامل مع أحدهما بمعزل عن الآخر، فالمضمون صار شكلا. يتم تجاوز التعارض القديم بين المضمون المضطرب الجدلى والشكل المتناغم. يصبح التجريب، فى النهاية، وبعيدا عن القراءة السلبية، نوعا من النهج الراديكالى الذى يخلق جمالية تدين السلطة بمعانيها وقيمها وتبدياتها المختلفة عبر التاريخ.  

مقالات من نفس القسم