هشام عبد العزيز يعثر فى “فلكلور النيل” على نهر مسحور تسكنه الجنيات

هشام عبد العزيز يعثر فى "فلكلور النيل" على نهر مسحور تسكنه الجنيات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

جمال فتحى

علاقة المصريين بالنيل علاقة عجيبة ؛ فهو خالق حياتهم وصانع حضارتهم فإذا غاب أو انقطع  زحف الموت نحو البشر والشجر ولذا قال هيرودت : إن مصر " هبة النيل " ؛ فهى عطيته إلى شعبها وإلى العالم وإلى التاريخ والنيل ليس نهرا  ضخ بماءه الحياة فى الأرض وسقى الإنسان والحيوان والنبات ، ولكنه صنع حضارة المصريين وصاغ ثقافتهم أيضا ، فثقافة المصريين لاسيما الثقافة الشعبية هى ثقافة نيلية بامتياز، أو إذا شئت قل: " ثقافة النيل " بالضبط كما يصفها الباحث والمحقق التراثى النابه هشام عبد العزيز فى كتابه " فولكلور النيل " الصادر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب وفيه يقدم هشام بحثا رائعا تزيح نتائجه الستار عن جانب هام من جوانب علاقة المصريين بالنيل وهو جانب ثقافتهم الشعبية التى توصل الباحث إلى نتيجة هامة مفادها أن نهر النيل هو الإطار الحاكم لتلك الثقافة وهو مركز علاماتها.

ولما لا وهو اللحن الأساسى أو التيمة الأساسية فى معزوفة الحضارة المصرية منذ فجر التاريخ وإلى الآن ، وهو المتن وكل نشاط إنسانى وبشرى حدث ويحدث فى مصر بجواره مجرد هامش له.. فالمصرى إذا حزن وكما يقول هشام فى مقدمته:

” شرب من البحر ،وإذا فرح فإن سعادته ” 24 قيراط ” … وإن رزق بمولود رمى خلاصه فى مائه الجارى … فيه تسجن الجنيات ،وإليه ينجذب المساحير بالأعمال السفلية ، وفى مائه العذب لحم طرى من البلطى والبنى والقراميط ، وعلى شطآنه يحتفلون بالوفاء ، وشم النسيم ،والنيروز ….. لزيادته يلقون بالعرائس البكر “

وهو ما دفع هشام إلى  “التعاطى مع ظاهرة النيل باعتبارها الظاهرة الإطار الحاكمة لطبيعة وشكل الثقافة الشعبية المصرية ”  كما جاء فى مقدمته أيضا ، ليس هذا فقط بل إنه رأى أن محاولة فهمنا للشخصية المصرية لا تجدى دون فهم تلك الظاهرة  ” وإنه من دون فهم عميق لهذه الظاهرة المركزية فإن فهمنا لطبيعة الشخصية المصرية يكون ناقصا من الأساس”.

 قضيبان حملا قطار البحث  الذى قاده هشام بدربة وإخلاص شديدين تمثلا فى : العمل الميدانى من خلال جمع النصوص والمرويات من أفواه الإخباريين والرواة، والثانى : العمل على النصوص المدونة والتى اختار منها هشام ثلاث مخطوطات رأى أن ما تحمله من مادة يفى تماما بغرض البحث ويتسق مع المادة المجموعة من العمل الميدانى حيث تقدم كل مخطوطة  عملا متمايزا فى التعامل مع المعرفة النيلية 

وقد حدد الباحث محافظة الجيزة كعينة للبحث وذلك لأسباب شرحها بوضوح ، حيث التقى فيها بعدد من الرواة والإخباريين سمع منهم وسجل الكثير من مادة البحث ؛ فتعرف منهم على عادات وتقاليد ومعتقدات وحرف شعبية مرتبطة جميعها بالنيل ، وقد وضع إحصائيات وجداول سجل فيها كل ما يخص هؤلاء الرواة من معلومات تشير إلى نوعهم ودرجة تعليمهم وأعمارهم وديانتهم وانتمائهم للريف أو الحضر

وقد انطلق الباحث فى تعاطيه لظاهرة النيل ومحاولته لفهم الثقافة الشعبية المصرية الذى يظهر فيها النيل كـ ” بطل ” هذه الثقافة ومركز علاماتها بلا منازع محددا إطارا مرجعيا يستند على توضيح وتأصيل مجموعة من المفاهيم رآها كاشفة لـ تلك الظاهرة وهى مفاهيم : البحر والنهر والنيل والترعة والقناية والفحل والفيضان .. وبناء على دلالات تلك المفاهيم كما سجلها الباحث من أفواه الإخباريين والرواة الذين جمع منهم حاول جاهدا بطول البحث فك شفرة تلك العلامة الأم 

فيما خصص الفصل الأول لرصد الحرف المرتبطة بالنيل ومنها : صناعة الطوب والمعداوى والسقاية ..ومنها أيضا: المعمارجية وهى حرفة صناعة السواقى وإصلاحها وهى – كما أكد الباحث – حرفة انقرضت ولم يعد لها وجود

أما فى الفصل الثانى فتعرض هشام لما أسماه معارف ومعتقدات النيل ،فذكر مثلا معتقد “رش المية “وارتباطه بالسحر والأذى فى المخيلة والمرويات الشعبية ، وكذلك عرج إلى علاقة النيل بأنبياء الله ومنهم  : عيسى ويوسف وموسى وجميعهم تربطهم بالنيل الحكايات والمرويات الشعبية، كما تطرق إلى التفسير الأسطورى لمنابع النيل وكذلك المرويات التى تحكى عن التحكم فيه بالسحر والأضاحى وكرامات الأولياء ومنها مثلا : أمر الخليفة عمر بن الخطاب له بالجريان وخضوعه للأمر.

” سرد النيل ” هو العنوان الذى وضع تحته عبد العزيز فصله الثالث ، و مقصود السرد هنا كما جاء فى الكتاب نصا ” ليس هو السرد الأدبى بمعناه الضيق المحدود ولكن قصد به المعنى الواسع لمفهوم السرد الذى يتسع للتعامل مع كل المرويات التى وردت عن النيل فى كتب التراث ومن ميدان البحث باعتبارها نصوصا أو خطابات بالمعنى الواسع لمصطلح الخطاب ”

وقد رأى وتوصل إلى أن كل تغير أصاب النيل باعتباره مركز علامات الثقافة الشعبية المصرية نتج عنه تغير فى المرويات المرتبطة بالنيل وهى النتيجة التى فسر بها الباحث اختفاء وتلاشى سيرة سيف بن ذى يزن رغم كون النيل مركز الحكاية فيها مقابل بقاء السيرة الهلالية فى الذاكرة الشعبية إلى الآن وذلك أن السيرة الأولى بنيت على أساس البحث عن منابع النيل واكتشافها ، ولما أن اكتشفت منابعه وصارت معلومة بالضرورة فقدت السيرة مضمونها والهدف منها

وكذلك صنف المرويات إلى مرويات عقائدية منها ما يتصل بقصص الأنبياء والأولياء والقديسين ، ومرويات خرافية ، ومرويات عن السحر منها مثلا : حكاية الجنية والمسحور، وحكايات عن نوم النيل كالإنسان لثوان أو دقائق ، وكذلك مرويات تاريخية مثل تلك المرويات التى تفسر سر تسمية بعض البلاد كالبدرشين ومنيل شيحة وغيرهما 

وقد خلص إلى أن الهدف من كل تلك المرويات بأنواعها وتنوعها هو تفسير مجموعة الظواهر المحيطة بالجماعة الشعبية عن طريق النيل  أو استخدام وتوظيف النيل نفسه باعتباره العلامة المنبع كما يقول فى عملية التفسير

فى حين خصص الفصل الرابع لتعبيرات وأمثال النيل فحصد الكثير منها وصنفها إلى : أمثال وتعبيرات مرتبطة بالماء عامة كـ قولنا ” يغرق فى شبر مية “، وتعبيرات وأمثال مرتبطة بمفردة البحر مثل : فلان يوعى على فحت البح ”  ، ثم أقوال وأمثال متعلقة بمفردة المراكب ومرادفاتها ” المركب اللى تودى ” مثلا ،  ومرويات تدور حول مفردة السمكة ” قطع السمكة وديلها ” وأخرى تتعلق بالحرف الشعبية المرتبطة بالنيل مثل : ” إن سبقك جارك بالحرت ،اسبقه بالمحاياة ”

هشام عبد العزيز قدم لنا وجبة علمية وثقافية دسمة تفتح أمام قارئها نافذة جديدة ينظر من خلالها إلى نهر النيل ليس باعتباره ”  مشروع تجارى ” على حد تعبيره فى الخاتمة ولكن باعتباره جنسية أو هوية ثقافية إذا جاز التعبير

والبحث لا تنقصه دقة العرض العلمى وسلاسته و التسلسل والترتيب المنهجى منذ كانت فكرة البحث  نطفة فى خيال الباحث إلى أن أخرجه فى ” أحسن تقويم ”

وهو ليس بغريب على باحث ومحقق مثل هشام عبد العزيز أنجز فى سنوات قليلة ما يزيد عن عشرة أعمال مختلفة معظمها يعد اكتشافات بل فتوحات تحسب له فى مجال التحقيق التراثى .

ــــــــــــــــــــــــــ

الصورة للباحث: هشام عبد العزيز

ـــــــــــــــــــــــــ

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم