إنتروبي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 55
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عزة عبد المنعم

أنا أكثر إرهاقا  ومللا من أن أكتب.

 آخر مرة كتبت، غيرت عادتي من الكتابة على أوراق، الي الكتابة على  التابلت. الآن شاشة التابلت مشروخة في أكثر من موضع، استجابتها للمساتي بطيئة أو معدومة، كاستجابة الإله لصلواتي،  تنتقي حروفا غير ما أريد، ربما لديها هي الاخرى خطة لا أعلمها لحياتي.

قال لي صديقي الذي أسميه (البومة الحكيمة الجالسة على نبتة عش الغراب في الغابة العتيقة يدخن غليوناً ويفيض بالحكمة) : “كفاية تضييع لوقتك، ركزي على حاجة واحدة، انتي كبرتي خلاص ع التجريب والتشتيت ده، كفاية ورش وركزي في حاجة تجيب فلوس وتبني بيها مستقبلك”.    واستجبت له.

كنت في مرحلة هشة للغاية، أشكك في كل شيء، حتى حواسي و مشاعري. بعدها بعامين عندما أخبرتني الطبيبة النفسية بتشخيصها، بعد عشرات التشخيصات الخاطئة، انتباني الشك في كل شيء؛ أعراض مرضي هي سماتي الشخصية نفسها، هي ما يجعلني أنا، هي صفاتي التي تجذب بعض الناس لي وتنفر البعض. كان مرضي – أو أمراضي – تقع في وسط كل ما أكونه. مشاعري وحدسي هما دليلي لفهم نفسي و ما حولي. شعرت بالارتباك والغضب النابع من الخوف، وكأنني اكتشفت فجأة أن هذا الفيلم الذي شاهدته و تأثرت به كان باللغة الاسبانية التي لا افقه منها حرفا. تلا الغضب شعور باالراحة و الاستسلام، “على الأقل عرفت أنا عندي ايه “… و بكيت قليلا حتى نمت، لكني لم اكتب.

في المرحلة التالية، لم أكن أكتب إلا لأسجل ما أريد أن أقوله لطبيبتي لضعف ذاكرتي، وما أريد أن أجلبه من السوبر ماركت من احتياجات المنزل، وبعد التوقيعات على بعض الاوراق الرسمية. بدت لي الكتابة في ذلك الوقت نوع امن الشكوى الأنيقة، ولم أكن أقوى على الشكوي ولا أؤمن بجدواها.. أيضا لم يكن لدي وقت للانهيار على السطور، لا اريد ان  أعي كل ما حدث وأتواصل مع مشاعري التي أمضيت وقتا كبيرا في دفنها.

عقلي تحول لموتور سريع له صوت معدني مزعج لا يتوقف، أحيانا مثل صوت المروحة الملاصقة لرأسي لتساعدني على تحمل هجمات الحر والرطوبة، أحيانا أخرى كصوت اهتزازات سماعات التوكتوك بايقاعات المهرجانات، ودائما مثل صوت ماكينة الكاشير.. كل ما أراه الآن أصبح يظهر عليه رقم افتراضي لسعره، فيتكون داخل رأسي قرار بشرائه من عدمه، بعد عملية حسابية معقدة، تشمل المتبقي من دخلي و المدة المتبقية من الشهر. و بناءا على كل ما سبق فأقراص مسكن الصداع والمنوم و باسط العضلات أصبحوا أصدقائي المقربون.

لم أستطرد؟ ربما لأنني لا أستطيع التركيز، ربما لأنني أخاف من الصمت بشدة، وربما رغبة في تسلية نفسي حتى أصل إلي ( ليان ).

لا أعرف إن كنت أريد لقاءها أم لا، لا أعرف إن كنت أريد أن أكتب مجددا، إن كانت الكتابة ستنقذني هذه المرة أم لا.. في الواقع لا أدري حقا إن كنت أريد أن أنقذ. الحياة مرهقة للغاية، كل هذا الإرهاق والألم لا يوازيه قدر ملائم من الراحة أوالسعادة. هي صفقة غير عادلة، كل ما أريده هو الانزلاق لنوم عميق والعودة إلي العدم، لا جحيم ولا نعيم، فقط العدم دون أية إضافات، وسأكون شاكرة للغاية، وأنسى وأصفح عن كل ما حدث.

******

(ليان)

انه الاحتياج الملح لشم جلد معين.. جلد اعتدت رائحته حتى أصبح تذكرها أورجازم صغير يحتفى به جسدك.. نفس الاحتياج المرتبك الذى يجعلك تسقط طبق المانجو الشهي على الأرض لأن فكرة التهامه خدرت أعصابك تماما..

تأتينى بليل.. لا تترك إلا ابتسامة عابثة مسترخية، والكثير من زهر العناب متناثرا على جسدى.. وأنام.

********

في طريقي إلي المنزل الذي قابلت فيه (ليان) لقاء مباشرالأول مرة، المنزل الذي أطعم كل مخاوفي وأدين له بالمحاولات الدائمة للبحث عن مهرب. دفعت الباب بيدي ودخلت إلي البيت، توجهت مباشرة نحو غرفتي، خطواتي على الأرض الخشبية ترسم بقعا عشوائية وسط طبقات التراب المتراكمة. لم يتغير شيء، ستائر خفيفة وردية، إضاءة خفيفة، فيلم رمادي يكسو كل شيء. لم أكتب ليان منذ سنوات لا أذكر عددها، فقط تطل برأسها من حين لآخر، تعبث بأصابع قدمها في التراب وتنظر لي، تقول: “مفيش لعب جديد النهارده.. أنا زهقت “، ثم تذهب.

(من غيرها بأحس إني بطة بلدي مستكينة، قطة أليفة اتخلت عن دورها كصيادة وبقت فرخة )

    -“مش وقتك يا ليان.. لا أملك كلفة ظهورك الآن”.

    -“طيب”.

استكمل المسير في الغرفة، صديقي الثعبان توقف عن التهام ذيله، يزحف غير مهتم على الأرض الخشبية، مر بجواري دون أن يحاول مهاجمتي. وجدت قلادتي النحاسية، التي تتوسطها دلاية بشكل حبة فراولة ملونة بطلاء زجاجي أحمر، معلقة على طرف دولابي القديم، كإشارة واضحة تركتها لي (ليان).

(ليان) أنا متعبة بشدة ولن احتمل المزيد من ألعابك، في جلستي الماضية مع الطبيبة النفسية سألتني: “إنتي مين يا عزة؟.. لو هتوصفي نفسك هتقولي إيه؟”، تذكرتك، كم أفتقدك وأتمنى أن تظهري بي الآن،.. لا ألعاب من فضلك، فقط حوار بين صديقين قديمين.

حياتي أصبحت رتيبة للغاية، طردتك منها أو أصابك الملل ورحلتِ. خرجتُ من هذا المنزل وظننت أنني لم أعد أحتاجك، فتركتك مثلما تركت ملابسي القديمة، قلادتي، ودرافتات كتاباتي. في الواقع عرفت أنني لن أستطيع غفران الذنوب، التي تقترفينها بالنيابة عني.

-“انتي مدمنة أدرنالين عشان تغطي على النفتالين اللي انتي عايشة فيه”.

حياتي دلوقتي حرة ظاهريا، مقبولة أجتماعيا، ومليانة شغل وتاسكات، بس أنا مش فيها.

أسفل الشباك الكبير، رأيت (ليان) جالسة على الأرض، وجهها مظلل، ترتدي غلالتها الأثيرة فوق بدلة حديدية غريبة الشكل كدروع الفرسان القدامى، بدت كأنها نكتة، (ليان) تكره الملابس وتحتفي بجسدها في كل المناسبات، كنت أجبرها على ارتداء الغلالة في وجودي.

رفعَت رأسها ونظرت لي وأشارت إلي كتلة مبهمة بجوارها، ثم وضعت يدها على الارض، فاقتربت. وجدت جثة فرائية لقطتي الصغيرة (نيرا )، القطة الماو الوحشية التي فقدتها منذ ما يقرب من عام. جلست بجوار (ليان) على الارض، تتوسطنا القطة، داعبت فراءها وتشممته، وقلت: “أنا عندي دلوقتي قطتين رومي بعلمهم القلق”.

*****
  تحركت الجثة العزيزة استجابة لمداعبتي لها، أطراف كل شعرة من فرائها مثل قرن استشعار، يتموج سطح فرائها وترفع رأسها لي. تقفز على حجري وتموء. تدفن رأسها الصغير تحت إبطي كما كانت تفعل وهي حية. جسدها دافئ كالعادة، تقرقر مطمئنة  وتنظر لي بعيون واسعة. بخلفية عقلي تطوف صور مبتورة ملتبسة عن القطة ذاتها، عمرها شهر تنام بداخل كفي وتصحو فجأة لمرور خاطر مقلق في عقلي، فتخمش يدي و تهرب.

عندما يحين وقت وضع القطة لصغارها تكون في أوهن حالاتها، تخاف البشر وتعتزلهم لمكان قصي أعدته بنفسها خفية. (نيرا) كانت تمزق أوراق الجرائد، وتخبئها تحت فراشي بمنتهى الدأب، كنا قد أعددنا لها صندوقا كرتونيا لتضع صغارها به، لكنها لم تحبه، فخمنت أنها ستلد وتخبئ أطفالها تحت فراشي.. كان هذا متوافقا مع الطبيعة، الغريب كل الغرابة هو ما حدث لحظة الوضع، صغيرتي تنظر لي، تريد أن تقفز لتجلس في حجري كعادتها ولا تستطيع.. مركز الثقل في جسدها يجعلها مثل بطريق مرقط جميل.. فأحملها.. تنام على صدري و تئن ألما، وأنا أفرد ساقيّ على المنضدة الصغيرة أمامي؛ لأوسع لها مساحة كافية لتخرج صغارها للعالم، على منضدة تكونت من فخذاي و بطني.. (نيرا بقت ماما).

المشهد قبل الأخير.. تموء مواءً طويلا غير معتاد وتنظر إليَ كأنها استغاثة.. أفتح عيناي لأجدها ممددة عند باب غرفة نومي المفتوح.. عيناها تتسعان لآخرهما وكأن شيئا محشورا في حلقها.. أجري نحو الحمام لأغسل وجهي، لأخرج بها لأي طبيب بيطري.. يناديني زوجي.. (خلاص يا عزة). المسافة بين حمام بيتنا وباب غرفة النوم سبعة أمتار.. تمنيت بكل قوتي أن يكون مخطئا..  وأنا أقطعها جريا.. وأنا أرتمي على الأرض بجوارها.. وأنا أعتذر لها مرارا وأرجوها أن تعود وأنتحب كطفلة صغيرة لا تفهم ما هو الموت.. “سامحيني، ما تسيبنيش أرجوكي،أنا هبقى أم أحسن”

تيبس جسد صغيرتي، حملتها ووضعتها على حجري، أعدت لسانها الصغير داخل فمها وهدهدتها. صامتة بحثت عن (كيف تدفن حيوانك الأليف في المنزل؟) أفكر، هل لدي إناء عميق بقدر كافٍ.. من أين ممكن أن أحضر ترابا كافيا؟ لا.. لن أحتمل الاحتفاظ بجسدها محنطا.. سأجن حتما من فكرة رؤيتها ميتة كل يوم.. طبقا للمقال الذي أقرأه، لابد أن يدفن الجسد على عمق لا يقل عن متر ونصف المتر؛ حتى لا يهاجم الجسد حيوان من آكلي الجيف وحتى لا يعكر تحلل جسد العزيز صفو من لازال حيا.

أتأمل الموجودات حولي، يبدو أنها زحفت من بقعة نومها المفضلة مؤخرا.. المزهرية سقطت..أثر قطع صغير بقماش كرسي الصالون من مخالبها الصغيرة.. أنا تأخرت كثيرا.. كانت منعزلة في الأيام الاخيرة.. كان لابد أن أفهم.. انشغلت عنها.. صغيرتي تألمت وأنا نائمة.. ماتت وحيدة وأنا أغسل وجهي.. كان يجب أن أفعل شيئا.. أن أكون بجوارها مثلما كنت بجوارها سبع سنوات هي سنوات حياتها القصيرة، وكانت بجواري.

لففتها في شالي المفضل ودخلت لأرتدي ملابسي.

الصورة الأخيرة.. أنا وزوجي وصديقي (البومة الحكيمة الجالسة على نبتة عش الغراب في الغابة العتيقة يدخن غليونا ويفيض بالحكمة) نفكر في بقعة مناسبة.

– “نيرا كانت بتحبك وبتقعد جنبك وانتي بتشتغلي، ممكن تكون بتحب التماثيل”.

هززت رأسي.

نحفر حفرة صغيرة في حديقة عامة – لم أزرها مرة ثانية – تحت تمثال (كاتمة الأسرار). أقبلها وأهدهدها مرة أخيرة، وأعتذر لها وأرفق معها رسالة لا جدوى منها.

*****

قضيت الأيام التالية بين هلاوس أسمعها وأراها. خصلات قصصتها من شعر نيرا بعد موتها، و وضعتها في صندوق صغير لا يفارقني، لأتشمم رائحتها المميزة – أخفيته فيما بعدها – و الكثير من أقراص المنوم لأستطيع غلق عيناي دون أن أسمع صوتها أو أراها في أنحاء البيت أو أشعر بها تمر فوق وجهي.

طبيبي النفسي مازال يبحث عن حكمة لموت (نيرا) فيقول: “نيرا كانت أقرب شكل للعيلة بالنسبالك، يمكن قررت تمشي عشان اطمنت عليكي بعد ما اتجوزتي.. جوزك بقى عيلتك الجديدة”

أرقبه وهو يكتب لي دواءا يجعلني أغيب عن الوعي رغما عني، بعد شهر كامل بدون نوم.. يستكمل كلامه عن القبول و شاعرية موت ابنتي الوحيدة. ينصحني بقراءة كتاب (الإنسان يبحث عن معنى) ويخبرني أنني قوية بما يكفي لأتجاوز كل هذا.

لم أقلق يوما من قدرتي على تجاوز بحيرات الخراء الصغيرة التي تتكون منها حياتي، إن كنت أتقن شيئا فأنا أتقن التجاوز، الابتلاع، ملايين من ميكانزمات الدفاع أخترعها لأغرق مشاعري بمشاعر آخرى اكثر حدة..
جروح صغيرة في جسدي وذاتي  وروحي وكل ما تطوله يداي.. لا أشعر بألمها أبدا.. الكثير من الأكل.. جرعات من الشراب.. الدخان.. الجنس.. لا شيئ.. تبلد كامل. أحتفظ بوعيي كاملا في كل لحظة، فلا أشعر بألم ولا متعة. كل هذا مكسو بطبقة رقيقة من السركزة.

*****

بعد أن نمى ل (ليان) إرادة مستقلة، كانت تجرني من يدي، من بين الجثث المرصوصة بغرفتي في منزل عائلتي، تنتقي لي ملابس أنثوية فرحة، تحرر خصلات شعري و تسوقني لغواية جديدة ومغامرة جديدة.. تخبط جسدي في كل سطح تجده لتجرب، تتذوق، تلعب وتراقب تأثيرها على الآخرين.

*****

(ليان)

تزينت الليلة كامل الزينة

لا أجمل من منتصرة مزيانة

لعقت دمائى حتى خضبت شفاهى خضاب برجندى محبب لايقطعه سوى بياض أسنانى

لابد للبسمة المنتصرة من أسنان.. قتال قذر هو

لكن دعك من هذا ودعينى أريك طقوس صناعة الكحل

لا يلزمك سوى قنينة قديمة

وبعض من دموعك فيها تعتق

قنينة صغيرة لأن لدمعك حد.. زجاجية كى تتذكرى دمعاتك دوما

ثم توسمى عيناكى

ولا تبالى بمن يقول لك: “ثمة شيئا متغيرا بك”

-ليان.. أنا جريحة بشدة.. غاضبة بشدة.. لكنى لن أتداعى إلا بين يديكى.

 

(ليان)

تشبه قطة شيرازية عسلية اللون مكتنزة ناعمة

لكنها لسبب ما تصر على التصرف كقطة وحشية..

ــ ليان أنتِ لا تملكين جسد قطة برية محاربة

أشهد أن روحك برية

لكننا لا نقاتل بالأرواح فقط يا حبيبة

دعينى أطهر جراحك بماء الورد وبعض الكحول 

 

– لا.. تعالى أعلمك وصفتى السحرية

أبكى الجروح هكذا.. أبكيها بجنون.. أبكيها بضرواة

لا يخيفنى صوت بكائى إن على كعويل القطط.. ثم ألثمها وألعقها

مع كل لعقة يسقط جرح.. يسقط غضب.. يسقط عتاب و ضعف

لن تحظى بروح محاربة إلا إن تذوقتى دمائك مرارا.

******

أذكر يوما كانت (ليان) غاضبة فيه بشدة، أرادات أن تؤذي من خدعها.. ليان تمتلك روح قطة وحشية مقاتلة، والقدرات الجسدية لقطة الشيرازية.. لابد أن هذا يعطي فكرة واضحة عن نتيجة هذه المعركة إذن. لكنها قررت أن تجعلني أتجرع عددا لا أذكره من كئوس الفودكا، وأصرح بكل ما أعرفه عن خصمي وأقوم بلطمه على وجهه مرارا.

لا أعرف حقا ما الذي أنقذني تلك الليلة.. كل ما أذكره أن وعيي كان مكتملا على الرغم من كل ما شربته، رفعني هو كدمية بذراعين قويتين، الأدرنالين جعلني أدرك أنني الآن قاب قوسن أو أدني من أن يتم اغتصابي، الادرنالين جعلني أضم ساقاي المرفوعاتان، وأنزل بهما على رأسه ووجهه بكل ما تبقى من قوتي، وأغادر قبل أن يلحق بي. لم يصبني أي ضرر.. أنا سليمة تماما يا (ليان).. أنا بخير وقوية يا دكتور، فقط  يزورني بطريق شائه عملاق في أحلامي.. يحمل ملامحه.. يحاصرني في بيت جدرانه قرمزية، ويسقيني جرعات من السم دون أن يتكلم.. ولا أموت.. فقط أشرب وأنا محتفظة بكامل وعيي.

أخذت الدواء بعد موت (نيرا)، لكني حتى الآن لا أستطيع ان أطأ مكان موتها ولا أستطيع أن أنام في سريري.

*******

“ليان.. انتي لقيتي نيرا فين ؟ نيرا ماتت في البيت الجديد مش في بيت بابا!”

ألتفت لموضع جلوس ليان، أجده خاويا!..

أتنهد وأضم نيرا أكثر وأبكي كثيرا جدا.. أبكي كأن ليس هناك يوم آخر.. أبكي كأن الساعات كلها توقفت وليس لدي شيء أفضل لأفعله.

                                                     *****

مراحل الحزن عندي ملتبسة دائما.. لم أبكي أمي مثلا إلا بعد 18 عاما من وفاتها. لم أستوعب موتها. بكيت كل ليلة نتائج اختفائها، لكن لم أتوقف عن انتظار عودتها ولم استطع بكائها. مرحلة الإنكار طالت معي لرقم قياسي جعلني أتشكك في قدراتي العقلية.

ليان كانت الحياة بداخلي.. تشرخ التمثال الزجاجي للفتاة المثالية، الذي حُبست روحي بداخله طيلة عمري.. كانت تنتشلني من بين جدران هذه الجبانة (غرفتي) لعالم حر صاخب. كان خطأ فادح مني أن تركتها هنا بين كل هذه الجثث، وهربت لابدأ حياة جديدة بدونها.. أعدتها للشرنقة الميتة.. للتمثال الزجاجي.. كسرت أجنحتها الملونة القوية حتى تتضاءل للتخزين.. بعد أن وثقت في بالكامل.

اقول لفراغ الغرفة حولي بصوت عالي:
“ما هو ما كانش ينفع اخدك معايا يا ليان.. أنا بخاف من جنانك، المفروض اني كنت اخف منك و ابطل اللي كنتي بتخليني اعمله عشانك.. أنا افتكرت انك اختفيتي كسنة من سنن الحياة والتغيير.. تكسير التابوهات كان بيكسر أجزاء مني.. بصي يا ليان.. في الواقع أنا منافقة.. أنا كنت بحكم عليكي كل أنواع الأحكام الأخلاقية الممكنة.. كنت معجبة بقوتك وقدرتك الرهيبة على تنفيذ كل اللي بتفكري فيه، بس كنت خايفة من شغفك وكل الحياة اللي جواكي.. إنتي ما كنتيش مؤدبة كفاية للحياة الجديدة.. ما هو ما ينفعش مثلا اروح اقول لواحد ولا واحدة؛ ليان عايزة تكتبك في قصة. جربي تدوقي عصير التين الشوكي مثلا وتكتبي عنه.. جربي تحلمي.. إنتي بتحبي الأحلام.. أي طريقة آمنة وغير مستهجنة اجتماعيا يعني.. دلوقتي أنا مرهقة أكتر من إني أتخيل حتى ممكن تعملي ايه لو دخلتك حياتي الجديدة”

فرغت من مما أود قوله لليان ومن البكاء.. أشعر مثل بقرة خوى ضرعها تماما.. رفعت رأس القطة المرتخي أمام وجهي، تأملت عياها الشاخصتان وفمها الموارب. أفتح فمي عن أخره، ألتقم رأس نيرا، أحشره داخل فمي، أبتلع جثة قطتي بالكامل

*****

أنا كوندا سيندروم

ررررررررررررررررررر

88

96

74

109

96

109

رررررررررررررررررررر

 

الأرقام تطاردنى.. معلقة حول رأسى

ولا أرى وجهى واضحاً جلياً أبداً

 

3/4/1995

8/10/2013

0/0/2010

أنا نتيجة حائط.. أتماهى مع الأيام.. لا يقتطع منى أحد.. ولا ألفظ الأوراق

الأوراق تغطينى.. الأوراق تملأ ثقوب جسدى.. يرتسم الحبر على جلدى وشماً

والأوراق تعود لكونها نباتات وتستكمل نموها..

دافئة أنا فى الشرنقة الوردية

التهمت جسد أمى لأطمئن أنها لن تغادر مجددا

لم تعبر إلى معدتى

بقيت ف مكان ما بين حنجرتى والبقية تتدلى حول حجابى الحاجز

لا أستطيع التنفس بعمق من يومها

لكنى رأيت أن بقائها في حلقى أكثر أحتراما من بقائها فى معدتى

لففت طبقات كثيفة من الشاش حول فمى لأتاكد أنها لن تقفز منه

ربما لو كنت مثل تلك الأفعى التى تستطيع تحرير قصبتها الهوائية

لاستطعت التنفس أفضل أثناء بقاء أمى ف حلقى.. حتى لا أزعجها بنوبات سعالى المتكررة

(أناكوندا)

لا يطلب منها أحدا أن تكون أخرى

تكون في أوهن حالاتها عند الابتلاع.. ربما تحميها هيبة أنها تبتلع أنسانا كاملا من محاولة أي كائن حي أن يؤذيها..

لا يلومها أحد.. لا أرقام معلقة تدور حول رأسها

(أناكوندا)

تنجذب للدفء.. مثلى

أناكوندا

أناكون..

أناكو….

أنا……

أ… 

 

*****

تلحفت (هيا) بالسواد وبما ورثته عن أسلافها الضباع من خفة، وتسللت خفية في الليل إلي معبد سخمت. كانت تقودها ذكرى شائهة عن مشهد رأته لرجل يقبل امرأة في شارع جانبي مظلم. تلكأت واختبأت خلف صندوق قمامة كبير لتروي فضولها. راقبت يداه تعبثان بجسدها الممتلئ البض، وشفتاه تلتهمان كل ما تطوله.. صدرها.. رقبتها.. حلمتي أذنهيا، ثم شفتيها. يد المرأة تنزلق نحو عضو الرجل، تدلكه ثم تعالج السوستة وتخرجه، كلما ينتصب في يدها كلما يزيد حماسها، حتى نزلت على ركبتيها ووضعته بفمها. وضعت (هيا) يدها بين فخذيها لتحاول إيصال نفسها للمتعة، ظلت تعتصر عضو أنوثتها بلا جدوى، يصدر عن (هيا) تأوه جائع لم يشبع، سمعتها المرأة فتوقفت فزعة وهي تنهج باحثة عن مصدر الصوت وقبل حتى أن تغلق فمها و تستعيد لسانها، أدرات وجهها نحو مكان (هيا). توقف الزمن تماما عند ملامح الشبق على وجه المرأة ولسانها المنتصب. قد يكون حسن حظ (هيا) أعمى المرأة عنها، وإن كانت بعدما رقدت وحيدة على فراشها البارد في الليل، تعتصر فرجها محاولة الوصول لنشوة، تتخيل عضو الرجل ولسان المرأة يعبثان بفرجها.  تمنت كثيرا لو كانت المرأة رأتها، وضمتها إلى حفلهما الصغير، ربما نجحا فيما لم تنجح فيه وحدها قط.*****

ذات ليلة وقفت (هيا) أمام المرآة وقالت: “طيلة الوقت أحسبني شفافة مثل الزجاج، بلا لون واضح أو نكهة.. مثل الماء المقطر.. مثل سطح لجة مياه نقية مملة، لا يقطع سطحها أسماك أو بط. أسماني أبي (هيا) لا أعرف له معنى.. موسيقاه ضعيفة، حروفه تختنق ولا تكاد تغادر حلقي وأنا أنطقه.. هـ يـ ا.. يذكرني بلفظة (هوا)، هاء وألف يتوسطهما حرف علة.. خفيف أكثر من اللازم. ربما يكون دوري في الحياة..مرآة.. ربما أكون مجرد سطح نحاسي مصقول بعناية.. زجاج مغلف بنترات الفضة، يحدق به الناس طويلا ولا يرونه أبدا.. يحبس بداخله صورا باهتة لهم، فيدعي حياة لا يملكها.

*******

وصلت (هيا) معبد الإلهة سخمت.. تشممت الهواء.. جرت نحو قطة طفلة، التقطها من على الأرض وقربتها من فمها ونهشت رقبتها الهشة وانتزعت حنجرتها وأخذت تلوكها باستمتاع، ثم رمت باقي جسد القطة على الأرض الترابية، ورفعت طرف ثوبها وجلست في وضع الاحتباء. على الارض تكونت بقعة صفراء لسائل نفاذ الرائحة خرج من فرج (هيا).. تنقلت لأكثر من بقعة في المكان وقامت بنفس الفعلة. كانت مطمئنة أن كل ما هضمته معدتها من أطعمة دهنية ثقيلة سيحقق هدفها، ويجعل بولها ذا رائحة يستحيل إخفائها.

******

لا تعرف (هيا) متى علمت بوجود (ليان)، فقط هي تذكر النداء.. نداء غريزي أولي.. ثأر لجريمة لم ترتكب قط.. رغبة عارمة لتشويه ما لا تستطيع إدراكه.. ربما كان الإنسان فعلا عدو ما يجهل. صم النداء أذنيها عن أي وعي، فقط هي تريد أن تذهب لمعبد (سخمت) وتنتزع الربة عن عرشها، وتتماهي مع كل ما تكونه (ليان).. ستلتهم كل القطط واللبؤات والأفاعي.. كان يغضبها بشدة ما يقولونه عن تحريم دخول الضباع معبد (سخمت)، عن أن من يدخل هذا العالم لابد أن يكون محتفظا ببعض من طهارة روحه..

الآن (هيا) -الضبعونة- بداخل المعبد المقدس.. وقريبا ستحل مكان (ليان/ سخمت) اللبؤة المقدسة.

 

“دائما ما كان يشغلني ما أسمعه عن (ليان)، عاهرة الغواية المقدسة المتلاعبة بالحياة، تتناسخ من صورة إلي أخرى ومن زمن إلي آخر، تحب وتنتشي وترقص وتتكسر وتحترق، ثم تبعث من رمادها كعنقاء أبدية لا تهزم ابدا”

 
“انتي فاكرة نفسك احسن من باقي الناس؟ عاملة زي الحصان الجامح اللي محدش عارف يلجمه؟ إنتي عندك خطايا تتفضحي بيها.. زينا كلنا”

 

*******

الغطاء الإنساني الذي تختبئ وارئه (هيا) تتساقط أجزائه، جسد عضلي لضبعونة خيط إلي جلد صدره ثديان بشريان ميتان. بيدها مغرفة حديدية مسننة، تنتحي جانبا.. تفتح ساقيها عن آخرهما، تجذب عضو تناسلها الطويل وتقطعه.. تتألم وتستكمل القطع، لتحوله إلي ما يشبه فرج أنثى بشرية. بقي الآن الجزء الأصعب.. حفر مهبل كبئر لا قاع له يروي شبقها المزمن.. تحفر، وتراقب الدماء السوداء تسيل على باطن فخذيها، وتحلم باقتراب نشوتها واكتمالها.

استكملت حفرمهبلها المفتعل حتى حلقها.. فرغت أحشائها تماما استعدادا لاستقبال النشوة. فزعت (هيا) من الصوت الذي يتردد حولها.. صوت كالخوار. ثم ادركت انه ينبعث من داخل التجويف العملاق التي حفرته بجسدها. طفقت تحاول ملأه بالتراب وبأوراق الشجر الجافة حولها، بلا فائدة.. هذه فجوه فشلت دوما في إشباعها.. قطعت شرائط قماشية من ردائها ولفت بها النصف الأسفل من جسدها محاولة إخفاء ذلك العار. لاهثة أسندت راسها على الجدار لتستريح.

 في السماء بومة بيضاء تدور، توجه جسدها نحو موضع جلوس (هيا)، وتهبط بجوارها.. قبل أن تلامس الأرض تتحول إلي رجل له جناحي بومة تبدو على ملامحه الحكمة، يدخن الغليون ويجلس على نبتة عش غراب كبيرة ظهرت فجأة.  يشعل غليونه و يأخذ منه نفسا عميقا، يحدق بوجه (هيا) لعدة دقائق، يأخذ نفسا آخر ويقول: “يا سارق بيجامة أخوك” ويحرك كفه متسائلا: “هتلبسها فين؟” ثم صمت وسط نظرات الضبعونة غير الفاهمة.. نفس أخير من الغليون، خلق سحابة رمادية صغيرة أرتفعت للسماء، حلقت فيها البومة واختفت، بينما غابت هي عن الوعي.

استعادت وعيها بالتدريج وسط ضجيج أصوات بشرية. أدركت أنهم يتحدثون عنها.. “هي اتسخمطت كده ليه ؟” فتحت عينيها فرأت أربع قطط سوداء لامعة، ذوات فراء طويل ناعم منتفش وديعات المظهر.. اقتربت إحداهن من وجهها تتشممها.. من ذقنها حتى عينيها.. عيون القطة كأنها عيون بشرية.. واسعة للغاية ومستديرة.. لامعة بشدة.. تتفحصها ككشاف نور قوي.. ابتسمت القطة وأخرجت لسانها ولعقت أنف (هيا).. “مياو”.. ماءت بغنج وتمطعت، ثم قفزت عنها ومضت مع رفيقاتها القطط يتهادين، ذيولهن مرفوعة تتلاعب بالهواء.

______________________________________________________
مارس2019
تنويه: مجتزأ من نص طويل يصدر قريبا
.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون