“نصف حالة”.. سؤال المجاز في قصص ابتهال الشايب

"نصف حالة".. سؤال المجاز في قصص ابتهال الشايب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في مجموعتها القصصية الأولى الصادرة مؤخرا عن دار النسيم بالقاهرة، لا تقص ابتهال الشايب قصصًا تحاكي الحياة مُزيّنة بحيل بلاغية وفنية، بل إنها  تقص الحياة باعتبارها مجازًا.وإذا كان العرب قد قالوا قديمًا إن المجاز خلاف الأصل، وأرادوا بالأصل الحقيقة، فإن مجموعة ابتهال الشايب القصصية المعنونة بـ"نصف حالة" لا تجعلنا نتساءل أيهما أبلغ؛ الحقيقة أم المجاز؟ بل  نتساءل هل يمكن أن نعيش الحياة إلا باعتبارها مجازًا عقليًا؟!

إننا لا نطرح هذه الأسئلة لنقصرها على علاقة اللفظ والمعنى التي شغلت البلاغيين القدماء، بل لنوسّع الدائرة لتشمل علاقة الإنسان باعتباره لفظًا دالاً على الوجود باعتباره معنى، لنواكب العالم القصصي الثري لابتهال الشايب. فالوجود في جسد غير ملائم للروح يعصف بالروح والجسد في آن، مما يجعل من الإنسان لفظًا لا يدل على معناه بل يصبح علامة على أي شئ خلاف معناه، فضلاً عن حالة الشك في وجود المعنى أصلاً. ففي قصة “نصف حالة” نجد العمل الذي هو جوهر الوجود الإنساني وخاصيته التي تميزه عن بقية الكائنات يكرّس لانفصام الجسد عن الروح، حيث تتولد المفارقة من قيام حلاق يعاني من وهن في الرجولة بتزيين الرجال عبر تخليصهم من علامات الرجولة الزائدة والممثلة في الشارب والذقن!!

“عن غير قصد يجمع أكوام الشعر الصغيرة الملقاة والناتجة عن الحلاقة لكي يضعها على أذقانهم مرة أخرى، يسعده كثيرًا وجود شعر الذقن والشارب في زبائنه، وكم يريد أن يقنعهم بضرورة وجوده على وجوههم، يستصرخهم لا تمحونه، فكم يثير هذا أنوثته المخبأة!” (نصف حالة،ص8)

إن الحقيقة التي لا تتولد عنها مجازات محكومٌ عليها بالموت، فالمجاز ليس محض كذب أو تشويه للحقائق، بل حياة أخرى للحقائق تكون فيه أكثر قدرة على التأثير في البشر.

 ففي قصص “البوصلة” و”الأخرى” و”الكلمات المتقاطعة” و”بندول الساعة” و”احتضار محتمل”، لا نجد سوى مجازا تتصنع الحياة. إن الحياة /الأصل استطاعت أن تولد مجازات عديدة لها، لكن ابتهال الشايب لا تخلق الحياة مجازًا إلا لتكشف عن مرارة الحقيقة وقسوة الأصل، وهنا تصبح الحياة في “نصف حالة” لعبة مكعبات يتفنن الراوي في إعادة بنائها على نحو يخالف الأصل دون شعور بالذنب.

 “يدي اليمنى شخص ما مرتبط بي، بها أسرة صغيرة متمثلة في خمسة أصابع،ترافقني أصابعي أينما أكون” (الأخرى، ص45)

إن علاقة الانفصال بين الراوي وأجزائه ناتجة عن قدرة على تأملٍ لأجزائه لا يمكن أن توفرها له سوى عين الخيال، فتغدو أظافر اليد وجوهًا تظهر حالة الإرهاق التي تعاني منها اليد اليمنى نتيجة رتابة الحياة المكلّفة بالتورط فيها.فهل ثمة قيد أكثر قسوة وإيلامًا من قيد الإنسان في أجزائه؟ هل هذا هو الأسر في الأصل؟ إن تاريخ الأسْر باعتباره حقيقة هو تاريخ الفصل بين لفظه ومعناه وما تقوم به هذه المجموعة القصصية هو إعادة لفظ الأسر لمعناه في الأصل لتكشف لنا عن علاقة مركبة بين الأسير وقيده، فالأسير قيدٌ والقيد أسيرٌ في آن، فالإنسان أسير أجزائه، وأجزاؤنا أسرى لنا.وحين يكون القيد قيد الإنسان في أجزائه، فليس ثمة أفق للتمرد.

إذن ثمة طريق محدد للحركة تسلب من سالكيه أي معنى من معاني الإرادة في الحركة أو السكون، إنه طريق اللاإرادة العظيم، والذي يتحول الإنسان فيه إلى بندول ساعة متورط في حركة رتيبة للأمام وللخلف دون قدرة على الخروج من إطار ساعة الحائط؛ ذلك أن ليس ثمة راحة يمكن أن تُمنح للبندول ما دام الإنسان في الزمن، وليس ثمة حركة غير رتيبة يمكن أن يجرؤ عليها الإنسان /البندول مادام أسير أجزائه ومادامت أجزاؤه لا تشكل سوى جسد مهلهل لا يمكن لأي لاصق أن يعيد إليه قوامه الكلي المتماسك. وهو ما نجده في قصة “بندول الساعة”.

إن نمط المجاز الذي تصوغ به ابتهال الشايب الحياة وإن كان قد جعلها تركز على جسد الإنسان باعتباره مركز الكون مجازيًا، فإن فاعلية العقل التصورية تجاوزت الجسد الإنساني إلى الكون كله لنغدو أمام تصور للكون يثير الدهشة ويفتت شبكية العين التي ألفت الكون النمطي فتبصر بعد عماها حقيقة الكون وتعرف عنه أكثر مما كانت تعرف عنه باعتباره الكون الأصل.

إن هذ النوع من الوعي بالعالم يمكّن ابتهال من الإحساس بمشاعر الشخصية القصصية باعتبارها روحًا مسلوبة الإرادة أو معادلاً فنيًا /مجازيًا للإنسان الأصل /الحقيقة، فيكشف المجازُ الحقيقةَ لنسمع ما لا نستطيع أن نصرّح به عادة خارج القص أو خارج الحياة باعتبارها مجازًا، “لا تبالي حين تخلقني وحيدًا أو مجنونًا أو يائسًا أو تدفعني أن أفكر، أن أحتار كصلصال تضغط عليه..” (خيط، ص57)

إن هذا الوعي الحاد بتآكل إنسانية الإنسان لا يمكنه أن يفضي لإعادة إنتاج حلم جلجامش الأسطوري بالخلود في القصة القصيرة، بل بإنتاج حلم مختلف تمامًا، وهو الحلم بالوصول لنقطة الاختفاء في الوجود، وهو ما نجده في قصة “قوس” فثمة حقنة اسمها حقنة البحر تصل بالراوي إلى خط الأفق الذي في منتصفه يكمن مكان الاختفاء في الوجود، وكذا في قصة”جزئ” حيث الضغط على زناد آلة الموت لقتل الأجزاء الحية في جسد الإنسان لتتسق مع حالة الوجود في عالم مسلوب منه معنى الحياة.

بهذا لا يتبقى من قصص هذه المجموعة سوى أربع قصص لا علاقة لها برؤية الحياة باعتبارها مجازًا، بل كانت هذه القصص أضعف هذه المجموعة فنيًا، وهي”فوبيا”، “علامة استفهام” ،”صدى”، “خلل”، ذلك أنها كانت عبارة عن تيمات قصصية مستهلكة لم تستطع مهارة القص بث الحياة فيها.

ولعل ضعف هذه القصص فنيًا من وجهة نظري لا يرجع لضعف في مهارة قصها بقدر ما يرجع إلى أنها كانت تجسيدًا لرؤية للعالم باعتباره نمطًا من المحسنات البديعية المُسمّى بالتضاد والذي ألفت العين والأذن على أن تراه يؤكد المعنى ويوضحه، بينما كانت بقية قصص المجموعة بناء مجازيًا أكثر عمقًا مما أنتج استجابات جمالية مختلفة.وهنا أستحضر مقولة الجاحظ المتواترة “المعاني ملقاة بالطريق” لأطرح السؤال هل ثمة معان ملقاة بالطريق حقًا ؟

إننا أمام نمطين من الوعي بالجمال؛ الأول يرى في المجاز زينة، وبالتالي يفصل بين المعنى وشكله الفني فيصبح الجمال مرهونًا بأسرار الصنعة باعتبارها صناعة الشكل، والثاني يرى أن العالم يتشكل مجازيًا، ومن ثم، فالمجاز ليس مجرد معنى ملقى في الطريق، وإنما رؤية للعالم لا تنفصل فيها المعاني عن ألفاظها، فيكون من ضمن أسرار الصنعة نمط الوعي بالعالم. إننا كبشر أصحاب أشكال من الوعي؛ لذا يختار كل منا من أشكال المجاز  ما يلائم نمط وعيه بالعالم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المجموعة القصصية “نصف حالة” لـ ابتهال الشايب، صدرت عن دار النسيم بالقاهرة وفازت بجائزة الدولة التشجيعية التى أعلنت فى يونيو 2015 

مقالات من نفس القسم