“مديح الكراهية”.. فراشات مهجورة بين الكرباج والمسدس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فى رواية مثل نهر ذكريات لا يتوقف، وفى سرديّة تقول بطلتها:" الحياة مجاز صعب"، فإن "مديح الكراهية" للروائى السورى خالد خليفة، فى طبعتها المصرية الأولى عن دار العين، تبدو بالفعل كمجاز هائل متعدد الطبقات والمستويات، يكاد يختزل معاناة الإنسان العربى، الواقع بين مطرقة دولة بوليسية تستخدم الكرباج، وسندان تنظيمات إرهابية متأسلمة تلجأ الى المسدس، تبدو الرواية،  التى  وصلت الى القائمة القصيرة للبوكر العربية عام 2008، كاستعارة مؤلمة تسرف فى تصوير الكراهية والبُغض، لكى ندرك أنه لا خلاص إلا بالحب، ولا نجاة سوى بالإعتراف بالآخر بدون قيد أو شرط، كأننا أمام تجربة ظاهرية وباطنية معا، تنتهى الى ان فعل الكراهية يدمر صاحبه، قبل أن يدمر المدن والبيوت المفعمة بالحياة، "مديح الكراهية" الثرية بشخوصها وأماكنها ودواماتها السردية وتفاصيلها الصغيرة وروائح عطرها وأحلامها المجهضة، هى بدرجة واضحة تجربة قاسية تعمّد الروح بالدم والدموع لكى تصبح أكثر حرية وانطلاقا، ثم إن خالد خليفة منحاز إنسانية الإنسان، بكل نزقه وضعفه، وبكل صخب تأرجحه بين الشك واليقين، بين الروح والجسد، وبين العقل والغريزة، ومنحاز أيضا للمرأة، عاشقة الحياة، الكائن الأكثر حساسية لما يفعله متعهد فقد الأحباب (يسمونه الموت)، تبدو الحكايات كلها برهانا ساطعا على فشل فكرة أن يكون الإنسان ملاكا منزها، أو أن تكون الأرض جنة، أو أن نصل الى الله من خلال معراج الكراهية.

حلب هى ساحة خالد خليفة، ميدان التجربة، السبعينات والثمانينات العاصفة من القرن العشرين، منزل عتيق لتاجر سجاد ثرى، وثلاث نساء وحيدات تنتظرن بعد وفاة الأب، مخفورات برجل كفيف اسمه رضوان، لاخوف من الأعمى، ولكن النسوة مثل صندوق أسرار فى قبو مهجور: مريم التى عشقت فكتمت فاحترقت فالتاعت فهربت الى حيث مجالس الذكر وقراءة القرآن لدى الحجة رضيّة، وصفاء عاشقة الحياة، التى اختارت أن تتفتح أنوثتها سريعا، فتزوجت من عبد الله الذى تحول من نشر الشيوعية الى الجهاد من أجل الإسلام، ومروة عاشقة الفراشات، التى اختارت الحب، فخاضت حربها وتزوجت من منذر، ضابط الجيش وابن الطائفة الأخرى، وبين النساء الثلاث تنضج على نار ودموع ابنة شقيقتهم التى لا نعرف لها اسما، والتى ستقوم بدور الساردة العليمة للرواية، عباراتها طويلة مثل حبل التف حول حياتها، إنها ترجمان الصراع الهائل بين نداء الروح، ونداء الجسد، فى دولة بوليسية تتحكم فيها سرايا الموت، ومنافقو النظام، وتجار السلع المهربة، وتنمو فى أرضها أشواك جماعات الإرهاب الإخوانى المسلح، من أجل إقامة دولة العدالة والحق المطلق.

أربعة أجزاء متماسكة تسرد خلالها بطلتنا رحلتها الصعبة، من الحياة فى ظل منزل وسط نساء يقودهن الأعمى رضوان الى الحمام كل يوم خميس، تتعثرن فى أرديتهن الثقيلة، وتنظرن من خلال عيونهن الى الطريق، فى الجزء الثانى تتحول النسوة الى فراشات محنطة بلا روح، تختار بطلتنا أن تكون أميرة خلية نسوية فى تنظيم إخوانى أعلن الجهاد، تقتل الفتاة شهوتها، وتدفن ميولها لصديقتها المنتحرة، فى الجزء الثالث تخضع للسجن وللتعذيب، ما يناهز سنوات ثمان من الإنتهاك والمراجعة واكتشاف الآخر والذات، وفى الجزء الرابع ميلاد جديد، بطلتنا جريحة الروح والجسد، تستكمل دراستها فى كلية الطب، تذهب الى لندن لتعمل فى إحدى مستشفياتها، تسترد إنسانياتها بكل قوتها وضعفها، ما زالت وحيدة تبحث عن صور الموتى ، وعن استعارات تتبادلها مع الآخرين، كسحلية دميمة وعذراء، ولكنها تعلمت فيما يبدو أنه لا توجد ولادة دون ألم ودماء وصراخ.

الحكى عبر النساء تقليد قديم ولكنه صعب، المرأة مخلوق شديد الرهافة والحس والحُسن أيضا،  ترمومتر البشرية وميزانها، نساء أريستوفان فى مسرحية ليزيستراتا كن أكثر حساسية لطيش وفواتير الحروب الذكورية الباهظة، ونساء لوركا فى “بيت برناردا ألبا” كن مرايا للقسوة وللرغبة وللموت، ونساء “مديح الكراهية” تعبرن بامتياز عن المرأة العربية التى تدفع الثمن مضاعفا فى مجتمعات تضع قدما فى العصر الحديث وأقداما فى العصور الوسطى، تنسحق بين الموت باسم الزعيم تارة، والموت باسم الدين تارة أخرى، لا تعرف كيف تعمل لدنياها كأنها تعيش أبدا، ولا أن تعمل لآخرتها كأنها تموت غدا، يرسم خالد خليفة ببراعة ملامح نموذج لمجتمع يعانى رجاله، ونساءه بشكل خاص، من هذا التطرف وعدم التوازن، ترى صفاء أنه لا خلاص إلا بالحب، ولكنها تتبادل المواقع فى النهاية مع بطلتنا، صفاء تصبح مجاهدة تعيش فى أفغانستان، بينما تعود بطلتنا كطبيبة فى لندن، مريم تحولت الى جدة عذراء، تصنع تابوتا لتنام فيه انتظارا لموت لا يأتى، كل الرجال يتركون البيت العتيق: سليم شقيق النسوة يصبح درويشا بينما يستعر القتل بجواره بين الإخوان والدولة البوليسية، الشقيق الثانى بكر يصبح قائدا فى تنظيم الإخوان، ولكنه ينتهى شاعرا بالذنب، ذهب الى بريطانيا، تطارده أشباح المجاهدين المشنوقين والمحروقين والمسحولين على الأسفلت، والشقيق الثالث عمر يذهب لدراسة الفقه فى الأزهر، فيعود متهتكتا ومغامرا وتاجرا وباحثا عن اللذة وكأنه لايريد أن تفلت منه الحياة، والد بطلتنا صائد وتاجر السمك، يهرب الى بيروت، وحسام شقيق بطلتنا الساردة، يدفع ثمن تطرفه، يموت فى مجزرة داخل السجن، إثر محاولة الإخوان الفاشلة لاغتيال الرئيس، عندما يضطرب الميزان تصبح الكراهية شعارا، ووقودا للحركة ضد الطائفة أو الآخر عموما، وما روايتنا فى حقيقتها إلا رحلة تحرر بطلتنا من الكراهية التى وصلت بها، وبمجتمعاتنا العربية، الى طريق مسدود.

لا تفلت من هذه المأساة إلا مروة، ولكنها لن تستقر إلا بعد جهاد عنيف، قيدوها فى منزلها حتى لا تتزوج من الطائفة الأخرى، زوجها منذر انحاز أيضا الى انسانيته، رفض أن يشارك فى قتل السجناء، ترك الخدمة العسكرية، نكتشف فى نهاية الرحلة أن هناك حكايات حب مجهضة خلف تلك العزلة، رضوان ظل عاشقا صامتا لمريم، وصفاء كانت عاشقة لضابط تتبادل معه الرسائلقتله الإخوان، تنتهى رحلة بطلتنا الى أن الإنسان كما هو بكل أخطائه وتناقضاته أكثر حياة وبطولة من أى كائن مبرمج ينفذ الأوامر مثل آلة بلا عقل أو قلب أو روح، بطولتنا فى خوض هذا الصراع الداخلى، وليست فى أن نكون، ولن نكون، ملائكة، تنحاز الرواية الى كرامة الإنسان مهما كانت اتجاهاته، وتدين عنف السلطة وعنف الإخوان معا، وتجعل وصال التى اختارت حريتها وأنوثتها قديسة جديرة بالتعاطف.

حلب الشهباء تحولت الى مدينة للموتى، هذا ما فعلته الكراهية، كل طائفة أرادتها بلونها فقط، ولكن خالد خليفة يحلم بها متعددة الألوان، مثل سجادة تفنن فى صنعها نسّاج ماهر، غزل خيوطها بإلهام قلب عاشق، فوضع فراشة، بجوار زهرة، ورسم ثلاث فتيات تلعبن حول بحرة فى منزل تسكنه الشمس، وضمّخها بعطر رجل أعمى، يرى بعيون الصبابة والعشق، ويقود المبصرين الى جنة أرضية اسمها الحب.

 

 

مقالات من نفس القسم