محرِّك المياه الراكدة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 43
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وراء وجهه الطفل تفاجئك جسارة شعرية، وسوف تندهش أكتر  حين تدرك أن هذه الجسارة  ليست عرضا شكليا، وإنما تكشف عن قناعة صلبة  تتأسس على أن تطور حركة الشعر والحياة  لن تنهض من دون زعزعة وخلخلة المسلمات والبديهيات، في الفكر والثقافة والبشر والأشياء. 

 لكن أحمد طه لم  يحول وجهه الطفل إلى قناع زائف لبراءة مصطنعة، وإنما أدرك منذ البداية أن تحت ملامحه الغضة مياها راكدة ينبغي أن تتحرك،أبعد من ملامح الوجه نفسه، لترج بحيرة الشعر المصري الآسنة، بعد أن غطتها الطحالب والعطن، وأصبحت تجتر أنفاسها بصعوبة، في دوامة موجة واحدة  تعيد إنتاج معنى الحياة والشعر ، في صيغ وقوالب فنية جاهزة الصنع.

 منذ ذلك الوقت، ومع نعومة أظافرنا الشعرية، وتحديدا في ثمانينيات القرن الماضي، وأنا أتأمل الشاعر الطفل كمحرك مياه راكدة بامتياز.. لفتني هذا الدور ، وبدأت أتتبع نموه وصعوده، وتعرجاته المحسوبة بعناية في كل حدوسات الشعرية ومراياها المتعددة  ما بين الماضي والحاضر ، ونظائرها في تراثات الشعوب الأخرى، شرقا وغربا.

أذكر الجلسات الجماعية التي  كنت أحضرها أحيانا مع كوكبة من الشعراء والكتاب، في بيته بشبرا، ثم بعد ذلك في الزاوية الحمراء، لقد  شكلت عتبة أولي لاختبار هذه الفكرة . كان الشغف والصداقة والغضب والضجر يلوِّن سقف وجودنا في هذه الجلسات، ورغم التقليب في أشياء كثيرة ، كان الشعر زاويتنا الحرجة، نفرح حين نتعرى في ظلالها، ونتشبث بوجودنا الهش في ذيل عتمتها.

كنت أرجع بعد كل جلسة، وأسال نفسي: مَن من هؤلاء الصحاب والأصدقاء أراهن على بصيرته، في كتابة يمكن أن تزعج العالم، تتوغل في الحاضر والغائب ببصيرة، تعرف كيف تدل على نفسها بقوة. وكان قوس إجابتي المرتبك المتشكك  آنذاك، يشير إلى صاحب الوجه الطفل .

أذكر ذلك الآن، وأحاول أن أثبته في خروشة هذه الورقة، ليس من باب الاحتفاء بالشاعر، أو التمسح في جدار الإغراءات العاطفية،  وإنما لأنه  دوما هناك أشياء غير قابلة للنسيان، ربما نتسامح مع أنفسنا وضعفنا، وتهتز قناعتنا في السطر ، لكن من الغباء أن نتغافل عن هذه الأشياء، ونخشى أن نلامسها حتى لا نكون فضوليين، نخجل أن تجرحنا معايير للصدق لم نتفق عليها .

 هكذا أرى أحمد طه في مرآتي الشعرية الخاصة، يجلس في الركن الأكثر دقة والأبعد نظرا ، يعيش بالشعر ، ويرى أنه الطريق المؤدية إليه، والتي من خلالها  نفتح  قلوبنا له  ببساطة وعفوية ، لنكتشف أنه رغم مماحكات العقل وأقنعة الثورة والحداثة، أن الشاعر هو دليل نفسه، لا أحد يقوده إليها سوى  خطاه وبصيرته التي تسعى أن توقظه أولا ، قبل أي شيء آخر.

 في تلك الأيام ، فرحنا في جماعة ” إضاءة 77″ الشعرية، بميلاد جماعة “أصوات”  الشعرية، أحسسنا بأن يدا أخرى تمتد إلينا، تشاطرنا الأعباء والهموم ، في محاولة النهوض بساحة شعرية تعاني من الاضطراب والفقر خاصة بعد رحيل  أغلب  شعرائها الكبار عن الوطن  نتيجة لتردي الأوضاع السياسية، ووقوع من بقى فوق ترابه في براثن المرض والإحباط.. كان أحمد طه الأكثر تأثيرا في” أصوات”، بحثا عن ملامح جديدة للقصيدة، تغيِّر من ذائقتها الجمالية المتهالكة، وتصنع جسورا للتواصل مع قيم التجديد والتجريب التي اجتاحت العالم، وأصبحت تشكل نواة مركزية  لشكل الحياة والمستقبل. ورغم محاولات الوقيعة وسوء الظن وافتعال الخصومة، التي حاول البعض إشاعتها  آنذاك بين “إضاءة” و” أصوات”، إلا أن احمد طه كان يرى أنهما بمثابة حريتين تتصارعان من أجل حرية واحدة، هي حرية القصيدة والوطن معا.

ربما لذلك، أدرك أحمد طه مبكرا ، أن الحقيقة في الشعر مجرد وهم زائل، لكنه يشبهها حين يصبح قرينا للسؤال والشك، كما أدرك أنه لا ثورة في الشعر تنفجر  في كل لحظة، وإنما هي محصلة حراك سنوات وأجيال من الشعراء والرؤى الخلاقة.. على هذا الدرب كانت بصمته الشعرية اللافتة في ساحة القصيدة المصرية، مفتوحة بحيوية  وطزاجة على جسد الحكاية وروحها، كقيمة جمالية ومعرفية وبصرية، مسكونة بدبيب البشر والمجتمع  والأمل في غد أكثر عدلا وحرية وأمانا.. إنها الحكاية في عمقها الإنساني، في تقاطعاتها المدهشة، القادرة على أن تمنحننا نفسها كل يوم بشكل جديد ، بعيد عن هالات القداسة، وخرافة المعرفة المكتملة.

 إن ” محرك المياه الراكدة” يدرك واقعه وتناقضاته العقيمة على  شتي المستويات،  وأن الأشياء الجميلة فيه لا تدوم ، بل أحيانا، وتحت وطأة هذه الظروف، يجب  التخلص منها، كمنحة أو هدية، أو مغامرة عابرة.. لذلك راهن في مغامرته على صدمة الشرارة الأولي،  كعنصر مباغت في صناعة اليقظة والتنبيه، وكمؤشر على أن حجرا ما  ألقي في النهر.

بهذه الروح ، خاض أحمد طه مغامرة  إصدار مجلة “الكتابة السوداء”، مع رفاقه في ” أصوات “، لكنها  توقفت بعد العدد الأول، ثم أصدر مجلة “الجراد” التي كانت بمثابة نافذة جريئة أطلت منها  كوكبة من وجوه  الكتابة الشعرية الشابة في مصر ، خاصة قصيدة النثر ، ثم توقفت أيضا بعد إصدار ثلاثة أعداد.  بعدها سافر إلى أمريكا في هجرة قصيرة ثم عاد ليتأمل أطراف الحكاية من جديد ، فوق  صفحة مياه ، أصبحت لا تحتاج إلى التحريك، بل إلى نقطة توازن حقيقية، في فراغ ، لم يعد يشبه القصيدة ، ولا التاريخ ولا الثورة ، ولا المياه نفسها.

فيا صديقي الشاعر الطيب الجسور ، صخرتك التي شدهتنا وأنت تحركها في” إمبراطورية الحوائط “، لم تتفتت بعد.. ربما تحتاج لحوائط أخرى، نتحصن خلفها دفاعا عن حريتنا، عن ضعفنا، عن طائر يعرف كيف يغرد في شَق.

 دمت بخير وشعر.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم