متاهة مريم: متاهة جيل ما قبل الثورة

متاهة مريم: متاهة جيل ما قبل الثورة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناظم عودة

-1-

تنتمي الروائية المصرية منصورة عز الدين إلى جيل التسعينيات، وهي تريد في عملها هذا أنْ توجز صورة جيلها في التسعينيات وما قبلها، وهو جيل من الروائيين الذين أرادوا الخروج من هيمنة الكبار بتوظيف المعارف المعاصرة، والأفكار الفرويدية كمرجعية للرؤية السردية. ولذلك فإنّ شخصياتهم أكثر تعقيداً بسبب كونها تقع في " المابين" بين الرمزي والواقعيّ، الخيالي والحقيقي، المجنون والعاقل، المريض والمعافى، وسوى ذلك من ثنائيات. وهذه الرواية نموذج للأسلوب الذي استجاده روائيو هذا الجيل.

إنّ المتاهة التي صنعتها هذه الروائية، هي متاهة المدينة والإنسان، الضائعَيْن في أزمات وجودية وسياسية لا تنتهي. وتجتهد الرواية، في تقديم صورة الواقع متماهياً باللامعقول والحلم الكابوسيّ الذي تحوّل إلى واقع ملتبس، عصيّ على التفسير.

إنّ السرد سوف يظل لعقود طويلة، مصدراً أساسياً لحركة التاريخ ولفهم طبيعة المجتمعات الزاخرة بضغوط السلطة التي سلبتْ حرية الإنسان وهويته بخلق متاهات لا حدود لها. بعض الروايات، تحولتْ إلى متن تاريخيّ، يزاحم مصنفات التاريخ، ويرصد التطورات التي تجري في مجتمع بعينه عبر أسلوب جماليّ فيه من الإثارة والتشويق، ما يجعله الأكثر قدرة على التأثير. وهذا ما جعل السرد أكثر اقتراباً من الواقع والحقيقة، وهما ميدان اشتغاله بخلاف الشعر الذي اشتغل على التخييل أكثر من اشتغاله على الواقع. ومع ذلك، فإنّ هذا التمييز لم يقف عائقاً أمام كتابة نصٍ سرديّ مفتوح على بقية الأجناس الأدبية، وفي مقدمتها الشعر بغناه الأسلوبيّ، وقدرته على التأثير، وتركيز الإيقاع. ورواية ” متاهة مريم” تستعير الأسلوب الشعريّ، أحياناً، لتركيز السرد، والابتعاد عن الوصف المفصّل والدقيق للشخصيات والأحداث. ومن الناحية الأسلوبية، يترك السرد، في هذه الرواية، فجوات في الشخصية والوصف، ويعتمد المجاز واللامعقول. ومن الناحية الدلالية، ليست هنالك قفلة أو نقطة تنتهي عندها الدلالة، وإنما ثمة شخوص وأحداث تجري في “المابين” فهي تنتمي، بشكل متوازن إلى الحلم والواقع، وإلى الحقيقة والتخيل الواهم. وتتوزّع وجهة نظر المؤلفة ما بين مريم بشكل مطلق، وأحياناً تتوزّع بين عدة شخصيات على نحو ذلك القلق العدميّ الذي تحمله نرجس وهي تصارعه في داخلها عندما تسلّط وعيها إلى جسدها، وتراقب تحولاته وذبوله بشيء من العذابات التي تنتهي بها إلى أنْ تتمنى لو أنها تعيد بنتها مريم إلى بطنها لتحررها من عذابات التحوّل والذبول.

إنّ مريم امرأة تعيش في وعيها لواقعها أكثر من عيشها الماديّ في الواقع نفسه. ولذلك، فهي شخصية إشكالية، لا يمكن أنْ تؤمن إيماناً يقينياً بالأشياء، ومن هنا، لا يمكن إخضاعها لنمط واحد من القراءة. فهي حمّالة أوجه، نظراً لخلفيتها الاجتماعية، ونظراً لطبيعتها السيكولوجية المعقّدة، وخلفيتها الثقافية.

-2-

يعتمد السرد، في هذه الرواية، على عدد من الحكايات التي توضع كمفتتح لفصول الرواية، وكل حكاية هي متاهة بذاتها. وفي النهاية، لا ترغب الرواية في وضع نهاية لهذه المتاهات. لأنها استعارة مقصودة لهوية البطل الضائع في متاهات لا مخرج لها.

إنّ هذه الرواية، تطرح موضوعة السلطة والإنسان، عبر استعارة متاهة ” أحمد التاجي” في سراياه لتحاكي متاهة ” السلطة”: يُحكى أنّ التاجي عندما قرّر بناء سراياه، أحضر عدداً من قطع اللحم، ووزعها على مناطق مختلفة من الأرض. ثم اختار الأرض الي حفظت اللحم من الفساد لأطول مدة، وبنى عليها السرايا الضخمة ذات القباب والواجهات الرخامية. أراد لها ألا تشبه أيّ مبنى آخر، فأمعن في ملئها بالسراديب والدهاليز والقاعات الواسعة والشبابيك ذات الزجاج الملوّن والشرفات الرحبة المسوّرة بأسوار قصيرة يعلوها درابزين أسود على هيئة أغصان شجر تنتهي بورود فضية، هذا الدرابزين هو نفسه الذي حمل شجيرات ياسمين هدهدَ عبيرها المكان، وأحاطه بعبق مدهش يتحوّل في الظهيرات الصيفية القائظة إلى لعنة تجعلهم يتسولون أنفسهم.

واضح، أنّ التاجي، هنا، يمثّل ” السلطة” التي تبنى على الخضوع وحفظ العهد اللذين يشير إليهما حفظ اللحم من الفساد. وبسبب ذلك، فإنّ السرايا ” المُلْك” بُنِيَ على شكل متاهة يضيع الداخل إليها، كما ضاع الأعرابيّ في متاهة ملك جزر بابيلونيا في قصة بورخس: “ملكان ومتاهة”. لكنّ تلك المتاهة التي لم تضيّع الأعرابيّ المؤمن، ضيّعتْ ملك بابيلونيا نفسه في متاهة طبيعية هي الصحراء، وهكذا فإنّ شجيرات الياسمين، أو مستلزمات الترغيب والتجميل لسلطة فاسدة، إنما تتحوّل إلى داء يقضي عليها عبر فعل الزمن ” الظهيرات الصيفية القائظة

إنّ الأشخاص الذين عاشوا في متاهة التاجي، هم ضحايا هذه المتاهة بمن فيهم التاجي نفسه الذي يقتله عطر الياسمين.

إنّ لحظة الوعي بالواقع، بالنسبة لمريم، هي لحظةُ وهمٍ بسبب التباس مقصود ما بين التخيّل والواقع، فهذه الفتاة التي انشغلت بدراسة الفلسفة، وانشغلتْ بدراسة الوجودية والوضعية المنطقية، وقارنت بين هيجل وماركس ونيتشه، وجدتْ نفسها ضحية وعيٍ ملتبس، يتحرّك في منطقة معتمة وضبابية للواقع والوجود. فشخصيات هذه الرواية، لم تكن متصالحة مع محيطها المضطرب أصلاً. فهي، على المستوى العام، تغطي مرحلة زمنية تمتد من نهايات حكم جمال عبد الناصر حتى ما بعد اغتيال السادات. وتحاكي فعل هزيمة 1967 من خلال شخصية يوسف، الذي يعاني التمزّق والضياع بين خيانة زوجته وإدمان المخدرات. وتنطبع حيوات بقية الشخصيات بين الجنون، كشخصية صوفيا زوجة التاجي الأولى، والعدمية كشخصية نرجس، والاغتراب الشكي كشخصية مريم.

ولأنّ طابع العصر، ذو مزايا سريالية، فإنّ شخوص هذه الرواية، هم استعارات لذلك العصر الذي لا يمكن إخضاعه لأية رؤية عقلانية. ومن ثمّ فإنّ رسالة هذه الرواية تقوم على نقد تلك التحولات في الواقع والأشياء التي تشبه تحولات جسد نرجس وذبوله على أغصان الزمن. أو تشبه متاهة التاجي التي ظلتْ مكاناً عصياً على الفهم والإدراك بكونها كناية عن السلطة/ المتاهة.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم