ليو تولستوي في “موت إيفان إيلتيش” واعظًا يُلقي وصايا التمتع بالحياة

موت إيفان إيليتش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح فرّاج النّابي

البُّنَاةُ العظام

2ـ ليو تولستوي في “موت إيفان إيلتيش” واعظًا يُلقي وصايا التمتع بالحياة

نهل الأديب الروسي الكبير ليو تولستوي (1828 -1910) من تراث عريض لكُتّاب ومفكرين وفلاسفة ومؤرخين روس وأجانب؛ فقرأ بوشكين وجوجول وتورجنيف وليرمنتوف، وبالمثل تعمّق في قراءة روسو وستاندال ومونتسكيو وصاند ودينز، كما كان معجبًا بالإنجليزي تشارلز ديكنز، وهو ما أثّر تأثيرًا كبيرًا على أفكاره التي كانت ضدّ السّائد في عصره. عاش تولستوي حياة ممتدة، جعلته شاهدًا على عصر امتدّ من عهد الرق، إلى عتبات ثورة فبراير الروسية 1917.

في المقدمة الضافية للترجمة التي قامت بها الشاعرة والمترجمة المصرية مها جمال لرواية “موت إيفان إيليتش” تذكر علاقته بمصر، خاصة أن له ابنا كان يزور مصر عام 1904، وتحديدًا مدينة أسوان، فطلب منه أن يزودّه ببعض المعلومات حول الشرق. وتذكر أنه في نفس العام جرت مراسلات بين تولستوي والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر آنذاك. تلفت المترجمة إلى أن اهتمام العرب بتولستوي في بادي الأمر، كان منصبًا على جانب المُصلح الاجتماعي، فاهتموا بكتاباته الفلسفية، دون الاهتمام بكتاباته الإبداعية، فرأوا فيه المُصلح الاجتماعي على نحو ما ظهر في كتابات أمين الريحاني والشيخ محمد عبده، ومصطفى لطفي المنفلوطي.

أهم سمة تميّز تولستوي أنه تخلّص في أعماله من مصطلح “الإنسان الزائد” الذي كان رائجًا في الأدب الروسي، والمقصود به “الأبطال الذين لم يستطيعوا الإجابة على مطاليب عصرهم، وتطبيق الأفكار التي يحملونها على الرغم من تمردهم وثورتهم على الوسط الذي يعيشون فيه” وهي الصيحة التي أطلقها النقاد على نحو ما أشار “تورجينف” بقوله إنه “من الضرروي البحث عن طريق آخر، والسير به وترك الأسلوب السابق إلى الأبد”.

كما أعرب الكاتب الروسي “سالتيكوف شدرين” عن حاجة الأدب الروسي الماسة إلى نوع جديد من الأبطال. أي أبطال يرشدون الآخرين وينيرون الطريق لهم، أبطال عمل وفعل، أبطال بحث واستكشاف، أبطال يصمدون أمام الصعوبات، ويستطيعون تذليلها وتخطيها. بطل تولستوي يعيش في بحث دائم عن الحقيقة والعدالة والخير، والطريق الذي يوصله لتحقيق هذا المثل هو التجربة الشخصية التي يعيشها.

  • في مرآة لينين

حظى نتاجه الأدبي والفكري باهتمام الأدباء، والشخصيات العامة التي تأثرت بأفكاره كالمهاتما غاندي، ومارتن لوثر كنج. وقد اعتبرته فرجينيا وولف “أعظم الروائيين” أما جوستاف فولبير عندما قرأ ترجمة الحرب والسلام قال بإعجاب: “يا له من فنان، ويا له من محلل نفسي!” واعتبره دستويفسكي “أعظم الروائيين الأحياء” وكان أنطوان تشيخوف يزوره في مزرعته.

كتب عنه لينين قائد ثورة أكتوبر 1917، كتيبًا بعنوان “مقالات حول تولستوي” وصفه فيها بأنه “مرآة الثورة الروسية“. وقد اهتم في المقالات ببيان علاقة إبداعات تولستوي بالثورة الروسية، أشار في مقدمته إلى التناقض الذي حكم التعامل مع ظاهرة تولستوي، خاصة بعدما عارض القوة والعنف، داعيًّا بألا “تقاوموا الشر” وهو الاقتباس الذي استعاره من “إنجيل متى” مصدرًا به قصة “الشمعة”، فهو يعتبر اللامقاومة هي المقاومة الحقيقية الوحيدة للشر. وهو الأمر الذي لم يَرُقْ للكنيسة فكفّرته، وأبعدته عنها خاصة عندما أعلن صراحة “أن علاقته بالله لا تحتاج إلى وسطاء“.

ويرى لينين أن ثمة مراوحة في التعامل مع تولستوي بين نفاق ليبرالي، وصل بهم إلى أن يصفوا تولستوي بأنه “الباحث الكبير عن الله” في حين أن من يصفونه بهذا الوصف ليس لهم إيمان بإله تولستوي. وبين آخر رسمي، يصفه بأنه “نفاق فظ” حيث هاجموا تولستوي، ثم انصاعوا فيما بعد للأوامر بالبحث عن الصفات الوطنية ومحاولة مراعاة الالتزامات بوجه أووربا. اللافت أن لينين يرى في تولستوي وأرائه وإبداعاته وأفكاره تناقضات كبيرة وصارخة، وإن كانت بالمعنى الإيجابي، فأولاً أن هذه التناقضات بالنسبة لتولستوي “ليس من عمل الصدفة، بل إنها تعبير عن الشروط  المتناقضة التي كانت تسود الحياة الروسيّة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر”، وثانيًا أن هذه التناقضات في أفكار تولستوي هي مرآة صحيحة للظروف المتنافضة التي كانت تسود النشاط التاريخي للفلاحين في ثورتنا. فبصفة عامة كما يقول: إن أفكار تولستوي إن هي إلا مرآة الضعف والنقص في انتفاضتنا الفلاحية، وهي انعكاس لخور الريف الخاضع للنظام الأبوي والحبن الشديد “للموجيك الميسور“.(لينين: مقالات حول تولتسوي، دار الطبع والنشر باللغات الأجنبية، موسكو،  ص5 وما بعدها)

ويستمرّ لينين في الإشادة بأفكار تولستوي، حيث يقول: “لقد عبر تولستوي عن الحقد العارم والطموح الذي نضج أخيرًا إلى مستقبل أفضل والرغبة في التحرّر من ربقة الماضي، كما عبر عن فجاجة الأحلام ونقص التربية السياسية والرخاوة الثورية”. (لينين، السابق، ص 9).

إبداعات تولستوي عديدة، أهمها “الحرب والسلام“، و“آنا كارنينا”، و”البعث”، و”الحاج مراد“، إضافة إلى كتابات مسرحية مثل: “قوة الظلام، الجثة الحيّة“، وكتاب فلسفي: “مملكة الرب بداخلك“، وسيرة ذاتية في ثلاثة أجزاء بعنوان: “الطفولة والصبا والشباب“. ومن أعماله القصيرة رواية «موت إيفان إيليتش» 1868، وقد صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014، سلسلة الألف كتاب، ترجمة مها جمال وتصدير لرفعت سلام. الجدير بالذكر أن هناك ترجمات أخرى للرواية، منها على سبيل المثال، ترجمة سامر كروم عن دار الجمل بعنوان “مصرع إيفان إيليتش” وهناك ترجمة “إيمان حرز الله” الصادرة عن دار أثر، وهناك ترجمة: عباس المفرجي، مع رواية “الشيطان”.

تأتي حكاية رواية «موت إيفان إيليتش» في المرتبة الثالثة لإبداع تولستوي بعد الحرب والسلام وآنا كارنينا، إلا أن أهمية هذه الرواية في كونها “تمثل مرحلة النضج الفني الأقصى للمؤلف الروسي” على حد تعبير الشاعر رفعت سلّام في تقديمه للرواية. ومن تم اختيار هذه الرواية “ضمن قوائم أهم الأعمال الإبداعية في التاريخ الإنساني”.

تبدأ الرواية بخبر وفاة إيفان إيليتش المنشور في صحيفة “الجازيت”، أثناء جلسة استراحة أعضاء المحكمة، بمجمع المحاكم، في مشهد يضع خبر الوفاة في الصدارة، فهو الحدث الأهم الذي تقوم عليه الرواية، وهو ما تجلى في احتلاله صدارة العنوان الخارجي للرواية. الخبر المُعلن على صدر الغلاف، أعلن دون إرجاء داخل الاستهلال بوسيلتين أولا عبر الإعلان هكذا:”أيها السادة لقد مات إيفان إيلتيش!” ثم يأتي بصيغة النعي كما هو منشور في صحيفة الجازيت، فبعد أن ألقي عضو المحكمة الخبر تنتابهم لحظة عدم تصديق للنبأ، فيتطوع بيتر إيفانوفيتش الذي كان استلم الجريدة قبل لحظات، ويمنح فيدور صديقه ليقرأ الخبر المنشور، وبذلك تتحقق الوسيلة الثانية لإعلان خبر الوفاة هكذا:

براسكوفيا فيدوروفنا جولوفينا تنعي بألم عميق للأقارب والأصدقاء موت حبيبها وزوجها إيفان إيليتش جولفين، عضو المحكمة، وقد حدثت الوفاة في الرابع من فبراير من هذا العام 1882 . وستقام الجنازة يوم الجمعة، في الواحدة ظهرًا” (الرواية، ص 22|).

خبر الوفاة بالنسبة لأصدقائه أعضاء المحكمة، ليس أكثر من إعادة ترتيبات للمنصب الذي كان محجوزًا له. ومن ثم بعد هذا الإعلان عن الوفاة، تبدأ الرواية – دون إسهاب – في استعادة حياة عضو المحكمة الذي كان زميلاً للحاضرين، بل ويؤكد الراوي أنه كان “محبوبًا بينهم“، ثم تدخل مباشرة في صلب القضية الجوهرية، وكيفية الاستفادة من الموت.

من جانب آخر، في اللّحظات الأخيرة أثناء احتضار بطل رواية تولستوي يَحْدثُ نقاش بين البطل الذي كان نموذجًا للموظف المثالي الجادّ في عمله والطامح للترقي في السلَّم الوظيفي، وبين طبيبه بعد أن سَقَطَ فريسةً للخوف، ثم مُسْتَسْلِمًا للموت إِثْرَ المرض المجهول الذي أصابه، هكذا «إنت تعرف أنك لن تستطيعَ أنْ تفعل شيئًا من أجلي، فأتركني وحدي» فيرد الطبيب: «نستطيع تخفيف معاناتك»، فيردّ مُنفعلاً «إنك لا تستطيع حتى فعل ذلك فدعني كما أنا» (ص، 108). هذا الحوار القصير أو النقاش يشي باستسلام إيفان إيليتش أو القاضي للموت، بعدما كان خائفًا منه، لكن هذا الاستسلام مبعثه أولاً إلى الحكمة التي تجلّت عليه؛ حتى غَدا في كثير من خطاباته يقوم بدور الواعظ الديني “كلّ شيء مجافٍ للحقيقة، حتى حياتك نفسها، كذب وخداع، تَحْجِب عنك حقيقة الحياة والموت»، تنتهي الرواية بموت القاضي بعد عذاب ثلاثة أيامٍ وصراخ وأنين موجعيْن بعد أن عرّى الصوّرة المزيّفة للحياة وَمَنْ حوله.

  • رحلة فارقة

 لا يمكن فَهم دلالة الرِّوَايةِ العميقة، رغم البَساطة الواضِحة في الحكاية والمباشرة في الهدف، إلا بالرجوع إلى السِّياقات الثقافيّة التي أُنْتِجَت في زمنها الرواية، خاصّة بعد التحوّل الذي طرأ على شخصية تولستوي نفسه بعد أنْ هَجَرَ المَسيحيَّة، ومناهضته لسياسة الكنيسة، ورفضه للعنف ودعوته إلى السّلام، وعدم الاستغلال، وميله للحياة البسيطة.

الرواية يمكن اعتبارها مخاضًا لتجربة حقيقية عاشها تولستوي وعبّر عنها في قصته «مذكرات رجل مجنون»، وهي خلاصة رحلة قام بها إلى مدينة أرزماس. بمعني أدق هي نَتاج «رعب أرزماس» كما عبّر عن ذلك صديقه مكسيم جوركي واصفًا ما اعتراه بعد هذه الرِّحلة الفارقة في حياته؛ حيث عصفت به أزمة رُوحية جعلته في مواجهة مع الموت، وبعد أن كان يخاف منه صار في مواحهة معه، ومن ثم راجع مواقفه، خاصة بعد أزمته مع الكنسية، فبدأ يكتب عن الدين والسياسة. هذه الفلسفة التي خَرَجَ بها من محنته تجلّت في هذه الرواية القصيرة «موت إيفان إيليتش»، أو كما اسماها «موت قاضٍ». ومن هنا تتجلى أهميّة الرواية في أنها تؤسِّس لمرحلةٍ جديدةٍ في أدب تولستوي مغايرة تمامًا لِما قدّمه في الحرب والسلام 1868، أو آنا كارينينا 1877 وغيرها من الأعمال، وكأنها وعاء أيديولوجي حوى أفكاره المثاليّة ومراجعاته لفلسفة الحياة، مُتخِذًا مَوقفًا من الموت والحياة أكثر جرأة مما كان عليه مِن قبل.

  • فينق العائلة

يقدِّم لنا الراوي الغائب بطل الرواية (إيفان) كنموذج مثالي للطبقة المتوسطة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر في روسيا، موفِّرًا له كافة الضمانات للانتماء لهذا العالم والانصهار فيه؛ فهو ابن لموظف خَدَمَ في عِدّة وظائف وأقسام في بطرسبرج لديه ثلاثة من الأبناء. إيفان بطل الرواية شخصية تختلف عن أخويه حتى أن الناس كانت تطلق عليه «فينيق العائلة»، كان مقبولاً من الجميع دَرَسَ القانون مع أخيه الأصغر الذي فشل في إكماله.

تسير  حياته على وتيرة واحدة، فلم يكن مُتملِّقًا عندما كان صَبيًّا أو حتى رَجلاً، وإن كان لا يمنع هذا منذ بداياته أنه كان مشدودًا لذوي المكانة العالية (طموحًا)، لكن أزمته التي سيكتشفها وهو على فراش الاحتضار أنه استسلم للملذات الحسيّة والغرور ولكل ما يدور وسط الطبقات العُليا لليبراليين، ولمّا عُيِّنَ قاضيًا رَاحَ يتعامل مع المِهنة الجديدة حسبما تقتضي طبائعها، فكان كما ينبغي أن يكون: «رجلاً مُحْتَشِمًا، يَفْرِضُ الاحترام العام، ويستطيعُ الفصلَ بين واجباته الرسميّة وحياته الشخصيّة» (ص 38). ثمّة تغيّرات حدثتْ له بعد توليه مِهنتة كقاضي تحقيقات، في إشارة إلى ضعف النفس البشرية إزاء المناصب، حيث «بدأ يشعرُ بطبيعة مهمته حتى أنه كان يحسُّ بأنَّ الناسَ بلا استثناء ـ حتى المهمين والمغرورين ـ كانوا في متناول سطوته … ومع أنَه لم يسئ في استخدام سلطته لكن الوعي بها وبامكانياتها كان يمدّه بالمتعة والجاذبية» (ص38).

المنطق الذي سَارت عليه حياته الوظيفيَة والاجتماعيّة عكَسه على زواجه فلم يكن الحبّ هو الدافع للزواج من براسكوفيا فيدروفيا التي التقى بها في حفل راقصٍ، وإنما ملائمتها لتحقيق طموحه الطبقي، فهي من عائلة محترمة ولديها ممتلكات. حياته الزوجية في بدايتها كانت تسير هانئةً، لا تخلو من بعض المشكلات الصغيرة، أما حياته العمليّة فكانت صاعدة إلى ما يرنو؛ فالترقيات تصيبه بلا تعب، والأموال تزداد، ثمّ تبدأ المُنغصات الزوجيّة تظهر، وهو ما جعله ناقمًا على الزواج، حتى عندما ينتقلُ النقلة الكبرى بالعمل كقاضي تحقيقات في بطرسبوج يَشعرُ بأن مشاكله الزوجيّة ستتلاشي، وعند هذه النقطة تأخذ حياة القاضي خطًا آخر ومسارًا عكس الأوّل، فأثناء مساعدة النّجار الذي يقوم بتركيب الستائر في بيته الجديد يسقطُ مِن على السُّلَّم.

 في بداية الأمر لم يُبالِ بذلك الألم، لكن سرعان ما ازدّاد الألم فذهب للطبيب، وهنا تبدأ المشكلة الحقيقيّة حيث بدأ الشّك يساوره خاصّة بعد تباين وجهات نظر الأطباء عن مرضه، فينتهي به الحال إلى رفض الأطباء والاكتفاء بالأفيون كمسكنٍ، حتى تحين لحظة وفاته الدراميّة التي أسقطت الهالة عن زيف حياته السابقة، وعن ضعف العلاقات الإنسانيّة، وعن حالة الوحدة التي عاش فيها، ولم يجد العون من الزوجة أو الأبناء الذين ضجروا من حالة مرضه وآلامه، باستثناء الخادم “سيراغيم“، وهي الرّسالة الثانية التي سَعَى إليها تولستوي عبر هذه الشخصية البسيطة والريفيّة، التي عبّر بها الكاتب عن جموع الشعب الروسي، إذ بدت نظرته لموت سيده لا تخلو من إقرار بالأمر فيقول «إنها إرادة الله، ونحن جميعًا سنأتي إلى يومٍ كهذا». التركيز على سيراغيم في مرض سيده إشارة ذات مغزى للعودة إلى الجذور والطبيعة، بعدما أفسدت الطبقيّة المجتمع بعد الثوّرة الصناعيّة وصبغته بهالة من الكذبِ والنفاقِ.

  • الموت.. حياة جديدة

يبدأ الراوي قصِّة إيفان مِن نهايتها، ليكشفَ لنا كيف صار الموت أيضًا حدثًا قابلاً للاستغلال، فأصدقاء القاضي الذي كان زميلاً لهم، يقرأون خبر وفاته في الصحيفة، وهم في استراحة المحكمة، لكن الخبر يمر عليهم بصورة تكشف عن عدم تأثّرهم أو حزنهم لفقد صديق كان بينهم ذات يوم، بقدر ما يكشف عن كيف أنّ لكلِّ شخص غرضًا سوف يتحقّق بهذه الميتة، ومن ثمّ كان الموت دافعًا لحياة جديدة لآخرين؛ فأحد هؤلاء الأصدقاء أتاحت له الوفاة التفكير في شغل مقعده الذي سيخلو من بعده.

والثاني سيستغل الوفاة في أن يثبت لزوجته بأنه في استطاعته أن يقدّم خدمات لأقاربه، فالوفاة ستؤدي إلى انتقال زوج أخته إلى المدينة وهو ما سيسعد زوجته بالطبع. الغريب مع هذا الخبر السيئ أنهم يواصلون لعب الورق. أمر الاستغلال لا يبعدُ عن الزوجة التي لم يشغلها سوى التفكير في مقبرة رخيصة وكفية الحصول على منحة الحكومة بعد الوفاة؟ أو كيف تجعل المنحة تزيد؟ وهي الأسئلة التي كانت متردِّدة في طرحها على صديقه بيتر إيفانوفيتش، وإن كانت تراودها كثيرًا.

بعد مقابلة الطبيب انتابت شخصيته تغيّرات قطعيّة، فقد تغيّرت نظرته للأشياء و«بدا كًلّ شيء في الطريق باعثًا على الكآبة؛ سائقو التاكسي، البيوت، المارّة، والمحلات، كانوا يبعثون على الغم، وألمه هذا الغامض المُزعج الذي لم يتوقف للحظة واحدة، بل إنه قد اكتسب مغزى جديدًا وخطيرًا بملاحظات الطبيب المشكوك فيها» (ص،61)، السؤال الذي ألحّ عليه هل هو الموت؟ فيتحدث في مونولوج ذاتي «الموت، نعم، الموت، ولا أحد يعرف أو يتمنى أن يعرف الموت، ولا أحد منهم يشفق عليّ، إنهم الآن يلعبون (سمع من خلال الباب الصوت البعيد لأغنية والأصوات المصاحبة لها) بالنسبة لهم، كل شيء سيان، لكنهم سيموتون أيضَا! ثم هم في وقت لاحق، لكنه سيكون سيان بالنسبة لهم، هم مرحون …الحيوانات!» (ص، 72).

 فالزوجة لا تراعي مرضه بل تستغل هذا المرض خشية ألا تفقدَ ماله، وابنته غير مباليةٍ به، حيث ترتدي ملابس السَّهرة وتخرج مع أمها للأوبرا، بل يُتمان خطبتها على القاضي الشّاب، وكأنّ لا مكان لأحاسيس وسط هذا المجتمع.

يُدرك البطل عند وصوله إلى حافة الموت أن طريقه كانت خطأ لذا يُقرِّر إعادة بناء ذلك المجرى القديم. وبعد تكرار الزيارات للأطباء وفشلهم في طمأنته بدأت مرحلة جديدة؛ لحظة انتظار الموت والتي صارت لإيفان إيليتش بمثابة لحظات للتأمُّل فيمن حوله، وإعادّة تقييم ومراجعة للماضي وللعلاقات.

اللافت للنظر أن الراوي يركِّز في محنة المرض التي لازمته شهورًا على تتبّع تصرفات مَن هم حوله، ومراجعة حياته الماضية على مهلٍ، سَاخطًا مِن أفعاله ووقته الذي بدّده في انهماكه في عمله واشتغالاته التي جعلته أشبه بآلة منتظمة في دولاب العمل، هذه المراجعات لماضيه عكست جوهر الفلسفة التي ترمي إليها الرواية القصيرة، وهي أن الإنسان لا يُدرك قيمة العلاقات إلا في أوقات المحن أو عند اقتراب الموت، فالعلاقات الإنسانيّة أهمّ مِن المناصبِ وأهمّ مِن الجري لجمع المال لأنّها الذخيرة الباقية، وهو ما أدركه في النهاية «أنه – مع الأسف – لم يعش حياته كما كان ينبغي له أن يعيشها» فكلُّ شيءٍ بالنسبة إليه كان زائفًا وهو ما جاء في اعترافه المتأخِّر «فلقد ضيعتُ ما مُنِحَ لي، ومن المستحيل استعادته ـ فماذا إذن؟» (ص، 109) . وإن كان تساؤله في الوقت غير المناسب أيضًا!

  • دعوة للسلام النفسي

الرِّوايةُ على صغر حجهما وسردها البسيط الذي يخلو من التعقيد، تقف عند معانٍ إنسانيّة نبيلة، فتكشف عن ضعف النفس البشرية، وتنتقد زيف الحياة الارستقراطية، بتسليط الضوء على هشاشة النفس، وأن في الحياة ثمّة أشياء تستحق أن تمنح أو يُستمتع بها، وفي المقابل أن الإنسان ضعيف فتلك السقطة مِن على السلّم، والتي لم يشعر بتأثيرها لحظتها حولت حياته إلى جحيم، ثم في فترة الاحتضار كشفت له عن خواء ماضيه السابق.

 يستغرقُ الثلث الأخيرة مِن الرواية في تساؤلات عن الحياة والعذاب والموت، وعمّا يريده؟ وغيرها من الأسئلة التي تتصل بالفلسفة الوجودية، وبعضها تعكس قنوطه مِن كل شيء: لماذا كل هذا؟ أو من قبيل تساؤلاته إلى الله «لماذا تفعل بي كل ذلك؟ لماذا أحضرتني إلى هنا. لماذا، لماذا تعذبني بتلك القسوة؟» (ص، 99). فالكاتب نجح في تحويل نهاية موظف مرموق اجتماعيًّا ومهنيًّا وهو يحتضر إلى وعي مؤلم بتفاهة حياته وبزيف علاقاته الأسرية، وبالتالي نجح في توصيل رسالته للاستمتاع بالحياة ودعوته للسلام النفسي، عبر بقعة الضوء التي خلقتها تأمّلاته، لندرك أن في الحياة أشياء تستحق أن نستمتع بها، لعلّ أهمها البساطة والعلاقات، ألا تُعتبر هذه الرواية دعوة إلى الحياةا؟! وإدراك معانيها الغائبة والمفتقدة في ذروة انهماكنا بالركض في دائرتها المغلقة!!

 

مقالات من نفس القسم