“ليلة سفر”.. باب للرحيل ومائة باب للذاكرة!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لا ينسى "محمد ناجى" أبداً أن الرواية هى بالأساس "فن الحكى"، ولا يجد (مثل أي روائى كبير) تناقضاً بين أن تحكى، وبين أن تقول كل مالديك من أفكار وأسئلة، من خلال ما تحكيه يمكن أن تنقل ما شئت من الرموز، ويمكن أن تصنع بيوتاً ومدناً، وأن تقدم مستويات متعددة لنفس الأحداث، وأن تُخفى الصنعة وراء مكر الفن، وإذا كان أهل الربابة يقولون فى رواية  "مقامات عربية": "أجود الكلام ما تقوله ويقولك"، فإن "ناجى" يكتب رواياته بإجادة فتكتب هى أفكاره بفن وبشكل غير مباشر، وهذا ببساطة معنى الفن: أن تقول وكأنك لا تقول.

فى رواية “ليلة سفر” صنعة عالية ومعقّدة رغم أن الحدث بسيط للغاية: شاب فى ليلة سفره الى الخارج هارباً من ظروف صعبة تجعل الحاضر بلا مستقبل ، مجرد ليلة ستتحول من خلال بناء متماسك وحكى بارع الى صورة واسعة لتقلبات أصابت الوطن وأهله بشروخ إجتماعية ونفسية عميقة ، يتحوّل باب السفر والهروب الى مائة باب للإقامة فى ذاكرة خصبة ومدهشة تكاد تلخص ما حدث فى نصف قرن تقريباً (من الحرب العالمية الثانية الى زلزال أكتوبر الشهير فى بداية التسعينات) ، يتحوّل شرخ المنزل بسبب توابع الزلزال الى نافذة نطلّ منها على أسرتين: أسرة مُسلمة وأخرى مسيحية تشهدان غروب عصر الأفندية وبزوغ عصر الحيتان ، يصبح شرخ المنزل ترجمةً مجسّمةً لشرخ أعمق أصاب الوطن وجعله على حافة الإنهيار ، هناك من يقرر الهرب ، وهناك من يكتشف أملاً فى الصمود ، مابين الهاربين والصامدين شرخٌ أعمق ربما من شرخ المنزل الذى لم يصبح مجرد جدران وأبواب وبلكونات ونوافذ ، ولكنه أصبح “وطناً” يجب أن نتمسك به رغم أنه على وشك التداعى .

هى إذن حدوتة ، ولكنها ليست ككل الحواديت لأن ” صنْعة الحكى ” جعلت هناك مستويين للسرد : أولهما واقعى يعتمد على تفاصيل التفاصيل بالصوت والحركة و الإيماءة واللون ، من كوفية حمراء الى فص فيروز مفقود ، ومن بطانية رمادية اللون لطفل وليد الى فقّاعة سوداء تظهر فى عين رجل فقد إيمانه ، ومن لون أصفر يزحف الى ملامح صور قديمة الى جلباب أبيض ناصع يحاكى انعدام ذاكرة ، تفصيلات دقيقة لدرجة تجعل من استخدام وتوظيف الألوان فى هذه الرواية موضوعاً جديراً بدراسة خاصة ، و المستوى الثانى  رمزى مدهش يُحيل الوطن الى منزل قديم تُهاجمه الشروخ فيتقارب جناحا الوطن لرأب الصدع ومنع الإنهيار ، ويُحيل امرأة على المعاش الى “عذراء مصرية” تقف خلف المشربيّة انتظاراً ليوسف النجار الذى يقف معها لمواجهة الموقف العصيب ، كما يجعل من الذاكرة وسيلة للدفاع عن النفس ضد الإزالة والتهميش ، ويصنع من الخطر فرصة جديدة للعبور ، ويحول هزيمة ” نصر”  ( أحد أبطال الرواية ) الى طاقة  للصمود . 

ولأن الصنعة الجيدة هى تلك التى لا يظهر فيها أثر الصنعة ، فإن سلاسة الحكى ، ورسم ملامح الشخصيات ببراعة ، وضبط مرور الزمن بتكثيف أحداث نصف قرن فى ليلة ، كل هذه البساطة الخادعة تُخفى بناءً هندسياً عجيباً يتسلل فى هدوء ويكاد يضع أمام كل شخصية فى العائلة المسلمة ما يقابلها فى الأسرة المسيحية ، ولكن دون أى مباشرة ساذجة ، ودون أى شعارات فجّة ، الجد ” عبد القوى” وحضرة الناظرة “كوكب ” ، لاحظ دلالة الإسمين ، يتماثلان فى أشياء كثيرة : مأساة “عبد القوى” فى فقدان زوجته ، ثم فقدان ابنه “مصطفى” وزوجته أثناء حرب السويس ، ولم يبق له إلا حفيده المسافر “نصر” ( لاحظ ايضاً دلالة الإسم ) ، ومأساة “كوكب” فى فقدان حبها الوحيد ، زميلها المدرس “يوسف” الذى انقطعت أخباره بعد نقله الى الإسكندرية ، فلم تبق لها إلا الذكريات مثل “عبد القوى” ( هى تحتفظ بلوحة رسمها يوسف للراعى الصالح وكوفية حمراء لم تكملها ، وعبد القوى يحتفظ بالسرير الضخم وبالمكان الذى شهد حياته الزوجية القصيرة ) . ” كوكب” و” عبد القوى” يتماثلان أيضاً فى أنهما لا يعتبران المنزل مجرد مكان ، ولكنه ذكريات وتاريخ وبشر وأنفاس ومعانى ، المنزل أصلاً كان يملكه والد “كوكب” ، أما “عبد القوى” فالمنزل بالنسبة له هو الباب الذى دخل منه الشاب الريفى الى القاهرة  لينفتح أمامه عالم جديد ، ترفض “كوكب” فكرة أخيها ببيع الشقة قبل الزلزال ، ويرفض “عبد القوى” أن يغادر الشقة لكى يتزوج فيها حفيده ، ويتمسكان بالموقف نفسه حتى بعد صدور قرار الإزالة ، ويظل “عبد القوى ” مؤمناً بأن “شيكارة أسمنت يمكن أن ترمّم الشرخ “. ما بين ” عبد القوى ” و”كوكب ” أكبر من مشروع حب ، إنهما ” نغمة واحدة ” بتنويعتين ، رجل / امرأة ، مسلم / مسيحية ، مدير شؤون موظفين / ناظرة مدرسة ، الإثنان هما المعادل الواقعى للقصة الرمزية البديعة التى تتذكّرها ” كوكب ” وسط طوفان الذكريات : ” فى الكتب المدرسية القديمة حكاية عن بلبل وشجرة ورد ، ذبلت الشجرة فرواها البلبل العاشق بدمه ، غرس شوكتها فى قلبه ، ورفرف بجناحيه ، ظل يغرد بصوت أعلى من ألمه وهو يسقيها ، حتى دبت دماؤه فى عروقها ، وتفتّحت وردتها “. “عبد القوى ” هو الذى أنقذ “نصر” ( باسمه الدال ) من الموت بين الأنقاض ، وهو الذى سيقوم بتعيينه فيما بعد فى وزارة الصحة ، و “كوكب” هى التى أنفقت على والدها فى مرضه الطويل ،  حتى رفضْ “عبد القوى” أن يبيع الشقة لتدبير نفقات سفر الحفيد ، ورفضْ “كوكب ” أن تبيع الشقة  من أجل مصاريف الأخ المتزوج ليس رفضاً بدافع الأنانية  ، ولكنها “رسالة احتياج” بأن يكون الآخرون معهما فى مواجهة الوحدة  . ما بين الاثنان أكبر من مشروع حب ، إنه مشروع وفلسفة حياة ، أن تعطى حتى وأنت تتألم من أجل منْ تُحبّ .

بسبب براعة الصنعة  وجودة السبْك لن تشعر تقريباً بأن البناء الهندسى اقتضى أن يكون “نصر” / حفيد “عبد القوى” ، و “وليام  “/ شقيق “كوكب” على نفس الخط من حيث التمركز حول الذات ، من الأخذ وليس العطاء ، سلوك “نصر” الأنانى مع خطيبته ” سهام ” يقابله سلوك ” وليم ” الأنانى مع “كوكب ” ، وبالكاد يمكن أن تتبيّن  أن “نديم أفندى “/ والد زوجة ” عبد القوى ” هو مقابل ” الخواجة عدلى “/ والد كوكب ” ، الإثنان لم يفهما لعبة الحياة : “نديم افندى ” توقّع أن يكون المستقبل للأفنديات ، ووضع أملا كاذباً فى رجال السياسة ، فانتهى هائماً ضائعاً منتحراً ، والخواجة “عدلى” باع ورشته قبل الزمن الذى تحوّل فيه  الوطن كله الى ورشة ، فوجد نفسه على الهامش ، وباع منزله بثلاثة آلاف جنيه ل “بسيونى ” الذى باعه فى عصر ما بعد الزلزال بنصف مليون جنيه ، كان يمكن أن ينتهى “عدلى ” بنفس الطريقة التى انتهى بها ” نديم أفندى ” لولا بقية من إيمان لم يكن  أبداً عند الأخير ، ظل  “عدلى ” حتى لحظاته الأخيرة مؤمناً  بالمشيئة ، وظل يردد دائما : ” له المجد والإكرام والسجود ، كل شئ به كان ، وبغيره لم يكن ” . لعلك تلاحظ أيضاً ان “الغالية” زوجة “عبد القوى” تقابل “أنجيل” زوجة “عدلى ” : واحتان صغيرتان وسط صحراء قاسية ، مرض وموت ، ألم طويل ومباهج محدودة ، سواء فى شكل عقد صغيرتنفط حبّاته، أو ثمرة مانجو محرّمة بسبب المرض .

لو كان هذا البناء الهندسى ظاهراً وواضحاً لما كانت الصنعة مُحكمة ، ولكنه شغل الصانع المحترف فى الطعام الشهى الذى لا تعرف أنه مكوّن من نسب مضبوطة ومُقدّرة ، “الصنعة هى ألا تشعر بالصنعة ” إلا إذا قمت بالتفكيك ، هناك مثلاً شخصية أخرى محورية تستكمل البناء وتشدّ بنيانه : “صنّارة ” الشاهد الصامت على التحولات العاصفة ، لا يذكر من ماضيه إلا أن احداً صفعه فنسى كل شئ ، يبدو أنه ارتكب ذنبا استدعى مطاردته وهروبه ، تظلّ مشكلة “صنارة ” تجسيداً لفكرة أن تكون بلا ذاكرة أو بلا اسم فتصبح مُعلّقاً بين السماء و الأرض ، ولكن “صنّارة” لا يتوقف عن المحاولة ، ويرفض الاسم الذى اخترعوه له ، ويرفض أن يكون خادماً ، إنه أفضل من “نصر” الذى استسلم من أول محاولة ، والذى يبدو أيضاً بلا ذاكرة ، كل حكايات الجد بلا معنى بالنسبة له لأنه يتحدث عن جدة / الغالية  وأب / مصطفى وأم لم يعرفهم أبداً ، يظل سؤال “ناجى” مستمراً منذ “خافية قمر” حتى “ليلة سفر ” : كيف نعيش الحاضر أو نصنع المستقبل وذاكرة الماضى إما بيضاء مثل جلباب صنّارة أو مختلطة وغامضة مثل ذاكرة عبد الحارس ؟ .. “صنّارة” من أهم الشخصيات التى رسمها ” ناجى” فى رواياته ، إنه يمثل الإنسان بلا تاريخ  ، حالنا عندما نفقد الذاكرة فنتوه حتى لو كانت هذه الذاكرة مشينة ، أكبر عقاب للإنسان أن ينسى ويضيع ماضيه أمامه بضربة يد  ، “صنارة” يتمسك  حتى النهاية بالبحث عن ذاكرته ، و “عبد القوى” و”كوكب” يتمسكان  حتى النهاية بالمحافظة على الذاكرة المشروخة ومنزل الذكريات .

لم يكن الشرخ  فى الجدران فقط ، كان أيضاً شرخاً نفسياً واسعاً  بين جيل ” عبد القوى ” و”كوكب” من ناحية ، وجيل ” نصر” و ” شعبان ” وسهام ” من ناحية أخرى ، عندما يلتقى “نصر” مع ” كوكب “/ حضرة الناظرة لا ينسى أبداً أنها ضربته بالعصا ، الزلزال كان أيضا فى علاقة الأجيال ، وطال الشرخ أيضاً العلاقات الإجتماعية بعد التحولات الإقتصادية التى سمحت ل “صاوى”/ البائع المتجول أن ينافس على شراء منزل الذكريات ، ثم يصل المنزل أخيراً الى ابنه “تيمور” / الغازى الجديد الذى لا يعرف أباه فى سبيل مصلحته ، شرخْ المنزل إذن يكاد يكون أقل الشروخ خطورة ، ولكنه العلامة المجسّمة التى تترجم المأساة ، والتى تنذر بالإنهيار .

يندمج الواقعى بالرمزى على نحو متماسك وخلاّق فى المعنى العام للرواية وفى أدق التفاصيل والأسماء ، تتحول “ليلة سفر” الى “ليلة إقامة” فى الذاكرة الحزينة ،وتصبح عذارى القديسة “دميانة ” الأربعين  وكأنهن الوجه الآخر لأتباع ” أبى الحسن الشاذلى ” الأربعين ، تتحوّل لوحة العذراء ويوسف الى نبوءة لم تتحقق وأمل قد يتحقق ، ترنّ أوتار السمسمية الخمسة وكأنها تذكرنا بقدرْ أخذ الإبن “مصطفى” وترك الحفيد “نصر” ، ينفرط العقد فى ليلة زفاف “عبد القوى ” فيبدو كنبوءة لتفرّق شمل أسرته وكوارثها المتلاحقة ، فى نفس الليلة التى يُنقذ فيها “عبد القوى” الرضيع ” نصر” يفقد الجدّ فصّ الفيروز النادر وكأنها نبوءة بفقدان قادم سواء على مستوى انعدام التواصل أو السفر ، ويظل “عبد القوى” باحثاً حتى النهاية عن فصّ بديل دون أن يجد ، صعودٌ وهبوط ٌوتغيرات عاصفة فى حياة متقلبة فحقّ أن يغنى لها السوايسة ” يا متوهة البحارة يا ماريا ” ، ألم يربح ” عدلى ” من تجارة التوابيت فى الوقت الذى خسرفيه من تجارة الفضة ؟، فى أدق التفاصيل والعبارات ما يحمل المعنى المزدوج ، تختلط هزيمة فلسطين بهزيمة ما بعد أكتوبر ، وعندما يقول الجد ” أكتوبر هزّة وانتهت ، توابعه كانت أصعب ، كشفت المستور” ، فإنه لا يعنى فقط زلزال أكتوبر فى مصر فى بداية التسعينات ، ولكنه يقصد زلزال حرب أكتوبر فى السبعينات الذى جاءت بعده توابع وتغييرات أحدثت شروخاً أعمق فى المجتمع .

انفتح شرخٌ عظيم فى جسد الوطن رأى منه “ناجى” ذاكرة الأمس وحاضراليوم ، شخّص الوجع والداء ولكنه ترك أمامنا أبواباً للأمل : “نصر” يودّع جده تليفونياً ويطلب منه أن يصمد فى وجه الموت لمدة عام ، “كوكب” تمنح الكوفية الحمراء ل ” عبد القوى ” ، يتحالف الإثنان ضد الأراجوز الجديد الذى يريد هدم الذاكرة كما فعل مع ” صنّارة ” ، كلما اتسع الشرخ اقترب الكهلان ، وكلما اقتربا عادت الذاكرة لتتكون من جديد  فى لوحة لا تُنسى :  بلبل يروى وردة من دمه ، وشابٌ طروب يعزف على السمسمية ،  وسيدة وديعة تلتهم ثمرة ما نجو بلا ألم أو خوف ، ورجل يستعيد كبرياءه حاملاً منشّة من ديل الحصان ، وامرأة تضحك وهى تستعيد عقدها الصغير ،  وعجوز يكتشف بداية الخيط : اسمه الحقيقى  ، وخواجة يجدُ أخيراً حجر الفيروز فيمنحه الى صديقه ذى الكوفية الحمراء ، وشابٌ يهتف سعيداً : “جدو حبيبى ” ، حتى  بعد عودته مُمْسكاً بعصافير الأوهام ، وفى قلب اللوحة ، امراة تصلّى فى صمت مسموع : 

السلام لمريم الملكة

الكرْمة التى لم يفلحها فلاّح

ووجد فيها عنقودُ الحياة .

 

مقالات من نفس القسم