لقاء

لقاء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لمحه واقفًا أمام فاترينة "التميمي" في باب اللوق. عيناه تقفزان من وراء النظارة، متطلعا بانبهار لتشكيلة "موبيلات" برّاقة. زاد وزنه قليلا وانتفخ وجهه. أصبح عريضاً عما كان عليه قبل 20 سنة، لكنه مازال محتفظا بقوامه وشياكته.

- ازيك يا هشام؟

مال بجسده ناحية الشمال قليلا. تطلع إلى المقتحم خلوته. رد بابتسامة تحمل هذا المزيج الاعتيادي من البلاهة والتساؤل في مثل هذه الظروف: أهلاً، مين حضرتك؟

– أيه يا عم. أنا خالد بيومي، حرس حدود، الكونتلا، سينا، الجيش يا شقيقي!!

التفت كله. اصطنع دهشة مكشوفة ومزيفة للغاية: مش معقووووووول، ثم قفز في حضنه دونما انتظار، وهو يربت بكلتا يديه على ظهره باستمرار، كطفل وجد أمه فجأة بعدما تاه عنها نصف ساعة في “سيتي ستارز”: ياااااه..ازيك يا خالد، يااااه يا خبر، ايه يا بني. فينك؟

– موجود في الدنيا يا عمنا، انت عامل ايه؟

– أنا تمام الحمد لله. ياااه.. تصدق 20سنة عدوا بسرعة.. قوام قوام زي السيما. هههههههه. بس.. بس انت شكلك اتغير أوي أوي.. عجّزت يا خالد أوي، ايه ده؟ شعرك راح فين؟ وايه الكرش العجيب ده يا بني؟ انت ضايع، هههههههه. ده انت كنت غزال يعني متأخذنيش، اللهم صلي على النبي.

لم يعد خالد بحاجة إلى معرفة أعراض مرض “الشلل الرعاش”، ولا حتى 100 اختبار لـ “تحدي الثلج” صار يعني له أي شيء، بعد هذه العبارات القاتلة المصحوبة بضحكات بلهاء متتالية.

– أنا زي ما أنا. لم يتغير شيء.

– ازاى بس؟ انت شخص تاني، أنا بصراحة معرفتكش أول ما بصيت في وشك.

واصلت حرارة جسده الانخفاض بسرعة. لكن الواقع أن “عم كنتاكي” هذا ردد ما يقوله هو لنفسه كل يوم أمام المرآة، وهو يتطلع إلى صلعته الكئيبة، وشاربه الذي يشبه مقود الدراجة. بدأ يغمغم محاولا التبرير، بدا مثل “خرتيت” يحاول لتوه تعلم الكلام: مممم..مممنن..من 20 سنة كنت أشك أن العالم وعاء تتجمع فيه الوساخة، بس دلوقتي تأكدت، هو ده بس الفرق. ثم ابتسم بضيق.

– هههه. صحيح صحيح، لسه زي ما انت فيلسوف وبتتكلم بالنحوي، لا لا، بس انت تخنت أوي يا راجل، وظروفك بقت صعبة خالص، الله يكون في عون المدام،ههههههه هههههه.

حاول إخفاء انكساره الواضح. وابتسم قائلا ” فاكر يا هشام العميد توفيق؟

– آه آه، وده حد يتنسي!!

– وفاكر لما السيول ضربت وسط سينا، وانت كنت قاعد في مركز الإشارة، وجاءت برقية أن كتيبة هناك تعرضت لأمطار غزيرة؟ وبدأ يضحك.

– آه فعلا.. ذاكرتك قوية يا أخي.

– واستمر وقد ارتفعت نبرة ضحكه: قمت كلمت القائد في “التحويلة” وقلتَ له يا فندم فيه كتيبة “حلأ حوش” بتواجه سيول في القطاع الأوسط..ههههه ههههه.

الكلمات الخارجة من فمه أخذت تتأكل تحت وقع الهستيريا واهتزاز جسده. حاول هشام الابتسام مجاملا، لكن حلقه الآن ينتفض. وبدأت عيناه في اللمعان.

– الراجل جاء يجري من مركز القيادة حافي، وهو بيسأل فيه ايه يا بني، ايه اللي حصل؟ “حلأ حوش” ايه؟ حد مات؟ العساكر بخير؟ حد جرى له حاجة؟

واصل هشام التحديق في وجه المهرج ثقيل الدم، الذي لم يعد قادرا على الوقوف بثبات للحظة.

– أنا فاكر انك وقفت ساكت مش عارف تقول ايه، وهو بيصرخ فيك بهلع وخوف حقيقي: حصل ايه؟ وبعدين رديت عليه بصعوبة وقلت له: ما فيش حاجة يا فندم. حلأ حوش دي بنستخدمها شفرة عشان نختصر كلمة “حرس حدود”، حلأ حوش يعني حرس حدود سيادتك..حرس الحدود يعني حرس الحدود سيادتك.. بس.. مفيش حاجة حصلت يا فندم، كله تمام سيادتك.

واستند هشام على جوال ملئ بالأرز في محل العطارة المجاور حتى لا يسقط من الضحك، وقد انثني نصفه الأعلى إلى الأمام، وبدأ يسعل وهو يواصل قهقهته الشريرة.

” العميد لسعك حتة قلم، ههههههه..وقال لك قوات حرس الحدود بقت حلأ حوش يا ابن ال***؟؟ بيجيبوا ولاد العبيطة دول منين؟ مؤهلات عليا ايه وزفت ايه؟ النظارة وقعت على الأرض، ولما لفيت تجيبها، خبطك بالشلوت، ووقعت على بطاريات الجهاز،هههههه..هههههه.

– حاول ابتلاع ريقه. لكن لم يكن هناك أي شيء يبلعه. اكتفى بهز رأسه مهزوما ومنكسرا، لكن الشيطان لم يتوقف.

– قعدت تعيط طول الليل في الأوضة، وتقول سامحيني يا امه، أنا جبتلك الشتيمة..هههههه..ههههه.. حتى أعطاك إبراهيم الألفي، بتاع الشرقية، سيجارة، وكنت أول مرة تشربها في حياتك،هههههه ههههههه.

عاود للنظر للفاترينة قرفاناً من هذا الوسَخ المفاجئ، الذي اغتال متعته البسيطة. استجمع كل رغبته لإنهاء اللقاء. قال ببرود رهيب: خلينا نتقابل تاني يا خِلّو.. أنا هنا على طول في وسط البلد.

خالد، الذي عاد نبضه إلى معدله الطبيعي أخيرا، قال وهو يفرك عينيه، ناظرا الى كومة قمامة، تجمعت على السور الخلفي لمبنى وزارة الأوقاف: آه أه..لازم..أديني موبيلك، نتقابل طبعا.

أمسك الاثنان بالجهازين. ووسط وجوم لف الميدان كله، لم يتمكنا في واقع الأمر من رؤية الشاشة. الدموع والسخونة ضربت دماغيهما، ولم تنجح برودة الجو في إخفاء جحيم الغضب المكتوم، والاحتقار المتبادل..أيوه..لحظة واحدة..أيوه 010، أيوه.. أيوه تمام..47.. صح كده؟ 09 تمام..هابقى أرن عليك عشان “تسيّف”رقمي. خلينا بقى على اتصال..لازم لازم، ضروري، أي وقت. سلام يا صاحبي.. سلام يا نجم.. لا اله إلا الله.

قطع الصمت العدائي، الذي سبق التقاء العيون، ربما لأخر مرة، موتوسيكل صيني “بدون لوحات معدنية” قادم من شارع “عبد العزيز” متجها نحو شارع “شريف” يسارا، يركبه “فني تكييف”، يتشبث به من الخلف صبي يحمل لفة مواسير نحاسية لامعة على كتفه، فيما كان صوت “نانسي” يرج الميدان بدلال” أنا باسأل النجوم كل ليلة عليك”.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون