كسارة البندق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طه سويدي

كان دفء الفراش ممتعًا في صباح يوم العطلة، وقد أجهز الشتاء أخيرًا على أجواء القاهرة بعد أن دخل ديسمبر في ثلثه الأخير، فتوفرت كل عناصر الاستمتاع بهذا الخمول اللذيذ الذي دغدغ جسده طالبًا المزيد من نوم لا تمتلكه عيناه، وتفاوضا – الخمول وهو– لساعةٍ فارتضيا ساعة إضافية من الاسترخاء في الفراش الدافئ حتى انتزعه هاتفه مرتين بنغمة الرسائل، فانتفض، وكاد أن يتعثر في الغطاء وهو في طريقه إلى الكرسي على يسار السرير حيث يرقد هاتفه… أهي؟!
رقم اثنين يعلو أيقونة الواتس آب، رسالة صوتية يسبقها وجهان أحدهما يضحك والآخر يخرج لسانه وقد ذيّلا جملة صغيرة قالت’’صباح الخير يا بطيخة‘‘.
ابتسم لما تهادى إلى أذنه خيال صوتها وهو ينبش فراشه بحثًا عن سماعات الهاتف، قال لنفسه إنها حتمًا قد نسيت سريعًا كعادتها مشاجرات الأيام الماضية، فمنذ أن وجدته، وهي تغمره بعفوها غير المشروط عن ذلاته، ولطالما شعر هو بفاجعته أمام هذا العفو، وكرر أمنيته الباكية أن ليتها وجدته وقتما كان… حيًا.
عثرت عليه السماعات وشّغل الرسالة الصوتية.
بنبرة ضاحكة تقول ’’صباح الخير يا ضايع، أنا متأكدة إنك لسّه ميت، عمومًا حبيت أقولك إني محضرة لك مفاجأة، كلمني لمّا ترجع من الغيبوبة‘‘.
كتب لها صباح الخير وذيّلها بوجه مبتسم، وسألها عن المفاجأة، فردت:
– خمن ياكسلان
– أصل أنا لسّه صاحي.
– وإيه يعني! حاول.
– غُلب حماري يا ستي.
– تدفع كم طيب.
– مم…أيس كريم شوكولاتة؟
– حجزت لنا الليلة عرض كسّارة البندق.
– أأأ… هفوّق كدا وأكلمك تاني.

هل ستظل محدقًا في المرآة حتى آخر اليوم؟ لم تجد بعد كذبة تعفيك من الذهاب معها، أليس كذلك؟ لا تتأمل كثيرًا في ملامحك الشاحبة، فهي لم تتغيّر، ولكن هذا لا ينفي مرور ثلاث سنوات، فلا تتصنع المفاجأة أو تستجدي الدهشة.
لا،هي لم تسكب كوب الثلج على ظهرك، ولا تُنكر أنك تحب كسّارة البندق، وقبل ثلاث سنوات كنت تعد الأيام لتذهب للعرض مع… حسنًا لن أذكر اسمها حتى لا أثير غضبك الطفولي، ولكن هل يجب عليك أن تغضب لسماع اسمها؟ حرى بك أن تغضب عندما تتذكر أنها بعد أن تركتك، قضيتَ سنة تجنيد رغم عيبك الطبي، فأضاعت عليك وظيفة لم تعوضها حتى صباحك هذا. منذ هذا اليوم وأنت تقنع نفسك أنك تناسيتَ، وتعايشت وحاولت مجددًا، ولكنك لازلت تغضب إذا سمعت اسمها أو تذكرت هروبها قبل أسبوعين من عرض كسارة البندق وكانت وعدتك بالذهاب معك بفستان أنيق نسقت ألوانه مع بدلتك، وقد أمضيت ليال كثيرة تحلم بذراعها في ذراعك وصعودكما سلالم المسرح سويًا، ثم عرفت قبل أسبوعين من ثلاث سنوات أنها لن تعود من سفرها وأنها قد خطبت لصديق العائلة وبعدها متَّ لمدة عام، ولم تذهب بعدها قط لحضور كسارة البندق رغم فرص متكررة. لم تستطع الهرب من كابوسك، أنك الدمية التي تتحول إلى أمير ثم تستيقظ الأميرة من نومها في النهاية، وتعود أنت دمية متروكة على رف.
تشعر بالحنق لأنك تكتشف مجددًا أنك لم تنس، وأنك مازلت تبحث عن أي رد لاعتبارك، كنتُ أظن أننا توافقنا على النسيان، فلماذا تعاود الكرّة للمرة التي لا أعرف عددها فقد أعياني العد.
مرت ساعة ولم تتصل بها بعد. هل أخبرتك من قبل أنك لست بأفضل من هذه الفتاة التي تركتك؟ لا تمتعض، أنت أسوأ منها وأكثر أنانية أيضًا، تقبع حبيس ذكرى سخيفة مرت عليها من السنين ثلاث، تحاول مرارًا أن تقتفي أثرها وتداوم الفشل، يسكرك سراب البحث عن أي خبر أو أمل، ولا تجد في كل مرة سوى مرارة معرفتك بانتظام حياتها فتتجرعها وحيدًا. تفعل كل ذلك حتى بعد أن وجدتك أخرى، وتحملت سخافاتك، ولا ذنب لها سوى أنها تؤمن بأحمق مثلك ارتضى سجن ذكرى سخيفة يستدعيها كل حين. أعرفت الآن أنك أسوأ من هذه الفتاة؟! هيا اعتذر عن الذهاب معها للعرض، فكر مليًا لبضعة أيام بعدها، ثم كن شجاعًا مرة واحدة، ودعها وشأنها، فهي لا تستحق أن تستهلك روحها من أجل حُطام.
ماذا تريدني أن أفعل؟! اسخر مني كما شئت، انعتني بالحُطام أو بالميت فأنا أعلم تمامًا أن هذا أقصى ما يمكنك فعله. قل لي أين كنتَ وقت أن طحنني الألم؟! واريت عوارك وقلت الحياة تستمر، بينما كنتُ أختنق بعلقم الحسرة. لم أعد أهتم إن كنت أسوأ منها أو الأسوأ على الإطلاق، لأن قلبي لم يعد قادرًا حتى على الزحف خلف طيف فراشة.

هزّ رأسه فتطاير الماء الساخن من شعره، مسح بيده البخار الكثيف عن المرآة، أدار وجهه يمينًا و يسارًا بعد أن أزال الرغوة، راقه مظهر لحيته الخفيفة، فعدل عن الحلاقة، جفف شعره مسرعًا، التقط الهاتف، اتصل: آسف على التأخير.
– ولا يهمك، قولي هنتقابل الساعة كم؟
– أنا مش هقدر أجي.
– بطّل بواخة يا رخم، هتيجي وأنا بقولك أهو.
– أنا صاحي تعبان ومش قادر.
– ريّح شوية لغاية معاد الحفلة.
– تروحي مع حد من صاحباتك؟
– أنا بقول تروح تنام عشان شكلك عاوز تتشتم.
غفا، سقط من علو فارتطم بلا ضجيج، فتح عينيه، ولم يجد لسانه، رأى نفسه صغيرًا، صغيراً جدًا، عاريًا من كل شيء سوى رداء أسود، وقبعة صلبة تطحن رأسه. أراد لمس جبهته، أنفه، فمه، يده، عجز عن تحريك إصبع. رأت عيناه جحافل عناكب تساقط خيوطها عليه فتحاصره، وجرذان تسير وئيدًا تهز الأرض ويقطر الدم من أنيابها الطويلة. للجرذان وجه مألوف، تأمله طيلة سيرها فاتضحت له ملامح الوجه أكثر، تقترب الجرذان وتلمع عيونها الحمراء أكثر، ولما حاصرته اختنق بصرخته، لا من الخوف، ولكن لأن وجه الجرذان كان وجهه. شعر بمخالب تحك جلده الجامد، أغمض عينيه الحجرية، وتأهب للنهش، لطعن الأنياب، ولكنه طار فجأة، دار حول نفسه في الفراغ ولم يسقط، وقبل أن يبصر أي شيء، أفاق.
لمّا بدأ الفصل الثاني تساقط الثلج على خشبة المسرح، وقرصت البرودة قلبه عندما تحولت دمية كسّارة البندق إلى أمير وسيم يشارك البطلة رقصة مرحة أخاذة، ثم لمحها واسعة العينين مبتسمة وهما يشاهدان الرقصة الإسبانية احتفالاً بانتصار الأمير والبطلة على جيش الفئران، كانت متلألئة الملامح وقد انعكس لون فستانها الوردي على وجنتيها فجعلها تبدو كحوريات مملكة الحلوى التي يشاهداها معًا، كانت تهدهد أنامله برفق طيلة الفالس الختامي، وعندما استيقظت البطلة من نومها على المسرح ووجدت أميرها قد عاد دمية صماء مرة أخرى، كانت هي تنظر إليه بابتسامة قمرية، وهي تحتضن يديه.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون