كتاب “سِجْنيّات” للقاص عمر الككلي.. يوميات مثقف في زنزانة ليبية

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خلود الفلاح

في كتابه "سِجْنيّات" لا يرهق القاص والمترجم الليبي عمر أبو القاسم الككلي القارئ بتاريخه الشخصي داخل زنزانة قضى بين جدرانه مايقارب العشر سنوات ولكنه يثير فضوله لمتابعة الصفحات القادمة من كتاب، يروي تجارب إنسانية عدة لرفاق تلك الزنزانة. الكتاب صدر عن دار الفرجاني_ الطبعة الأولى_ لوحة الغلاف للتشكيلي الليبي محمد بن لامين.

يتألف “سِجْنيّات” من “48” نصاً تنتمي لعدة فنون إبداعية يمكن تسميتها سيرة ذاتية أو يوميات، أو قصص، ولكن الكاتب عمر الككلي وصفها في تقديمه للكتاب” نصوص سردية، لحمتها جماليات الكتابة القصصية. وسداها ذكريات وأخبار، مثقلة ببشاعة الواقع، ومتوقدة في المحنة ذاتها، بإرادة مقاومة هذه البشاعة”، ويضيف عمر الككلي:” شاهدت في فيلم وثائقي عن الغزو الأمريكي لفيتنام كيف كان الفيتناميون_رجال ونساء، كبارا وصغارا، وهم في الملاجئ تحت قصف الطائرات وطائلة الأذى والموت_ يلجأون إلى الغناء الجماعي. لم يكن غناؤهم بالطبع يوقف سقوط الصواريخ أو يحول دون الإصابات الجسدية. لكنه كان يحفظ تماسك الروح ويحفز العزيمة وشهوة الحياة. فما الذي يتحتم على السجين فعله لحماية كيانه؟ لا ينبغي الصدام مع حالة السجن، لأن ذلك سيؤدي إما إلى الجنون وإما إلى الانتحار. كما لا ينبغي،بالمثل السماح له باستبطان الذات والتسليم بأن الساجنين محقون في فعلتهم هذه، لأن هذا امتساخ للذات وخراب للروح يمثل انتحارامعنويا قد يؤدي هو الآخر إلى نوع من الجنون”.

كيف يمكن لإنسان ان يقضي أربع وعشرون ساعة يوميا داخل زنزانة بشباك واحد في السقف واسرة حديدية وحمام مشترك ومئات الأشخاص بأمزجة مختلفة ورؤى وأفكار متعددة، فهذا سجين رأي وذاك متطرف وثالث تكفيري، يقدم للقارئ حالات إنسانية تدفعه إلى الضحك عندما تفرض عليك الحياة بإمكانياتها البسيطة جدا اختراع مكيف هواء متنقل فيكتب في يومية(رقصة تجديد الهواء):” في الصيف حين يأسن الهواء في الزنزانة، ممتلئا بروائح الأنفاس والعرق، ويثقل التنفس، قليلاً، وكدر النفوس يزداد، ينهض اثنان ممن في الزنزانة، يمسكان فيما بينهما ملاءة بيضاء(ككفن الميت، وراية المستسلم، ومعاطف الممرضين والأطباء، وثوب العروس، يأخذان بهزها، كما لو كانا ينفضان ما علق بها من غبار، كنت أظل أراقب حين لا أكون أحد المهويين، ونادرا ما أكون، ارتفاع الملاءة وتموجها مستمتعا بلطافة ما تحدثه رفرفتها من نسيم، وكثيرا ما كنت أقول في نفسي: إذ ما حدث وأن خرجت من هنا، فسوف أقترح على مصمم رقصات تصميم رقصة باسم: رقصة تجديد الهواء، وأخرى باسم: الطائر المقيد، والثمرة المعلقة”.

في هذا الكتاب يقتنص الككلي الهامشي من حياة السجن فتختلط الكوميديا بالتراجيديا بسخرية موجعة، فنقرأ في (انزياح الخشية): “كان كل شيء متوقعا، بما يقارب اليقين التام. لكن عندما شرع رئيس الهيئة القضائية في تلاوة الحكم(غير القضائي): حكمت المحكمة بالسجن المؤبد على المتهمين الآتية أسماؤهم، تعالت خفقات قلبي بتسارع شديد، إلى درجة أنني صرت، ليس فقط، أحس وقعها، بل وأسمع وجيبها، وخشيت أن يحث لقلبي شيء، ما إن سمعت اسمي حتى تخافتت الخفقات بوتيرة سريعة، إلى أن استقرت على إيقاعها السابق وربما أقل، فزالت خشيتي وقلت لنفسي:لحسن الحظ أن أسمي كان ترتيبه الخامس، وليس الثاني عشر، في قائمة المحكومين بالسجن المؤبد”.

كتبت هذه النصوص في الفترة الواقعة بين 2001-2008 ،تروي تجربة السجين المثقف عمر الككلي داخل أسوار سجن بوسليم بمدينة طرابلس، تجربةامتدتعشر سنواتفيثمانينياتالقرنالماضي،وجرىالتعبيرعنهابعدأكثرمنعشرينعاماً. إذ أول ما يتبادر لذهن القارئ انه سيقرأ كتاب عن عذابات السجن وهذا ما حدث معي عندما وجدت الكتاب على رف إحدى المكتبات فانصرفت عنه، وبعد فترة نصحني أحد الأصدقاء بقراءته مضيفا لن تندمي وفعلا وجدت كتابة مغايرة لزنازين لا تشهد القسوة والآلام فقط إنما هناك عالم آخر يصنعه السجين كنوع من المقاومة للموت والحبس الانفرادي.

عن “سِجْنيّات”يقول الشاعر محمد الفقيه صالح وهو من رفاق الككلي في التهمة والسجن:”السجن في هذا الكتاب لحظة مستعادة أو مستحضرة، وليس لحظة معيشة، ومعنى ذلك أن نصوصه السردية لا تندرج في كتابة السجن، بل هي على وجه التحديد كتابة عن السجن بعد انقضاء محنته، ومن هنا تؤدي الذاكرة فيها دوراً رئيسياً جوهرياً، بل أكاد أقول إنها تمثل في هذا الكتاب البطل الحقيقي، أو الموازي، الذي يستبطن النصوص، ويتوارى وامضاً خلف بطلها أو أبطالها الظاهرين على السطح”، وأضاف الشاعر محمد الفقيه صالح: “ولأنني كنت شاهداً على أحداث نصوص هذا الكتاب ووقائعه، بل ومشاركاً في معظمها، فقد لفت نظري هذا التآلف العجيب بين دقة الكاتب في استذكار واستحضار الوقائع السجنية، التي تشكل متن كتابه، بأمانة تاريخية يحسده عليها المؤرخ المتخصص، وبين التشكيل الفني المستند إلى حيوية السرد وإيقاع اللغة التي تجمع الإحكام الصارم والمقتصد، وغنائية التلويح والإيماء”.

عمر أبو القاسم الككلي، صوت قصصي متميز، ولد عام 1953م، كتب القصة من بداية السبعينيات في القرن المنصرم، صدر له: “صناعة محلية” و”منابت الحنظل والشيء الذي ينأى”، و “الصرة الزرقاء”(قصص مترجمة)، خرج من السجن يوم 3ـ3ـ1980

 

مقالات من نفس القسم