قفزة أخرى لطائر وحيد

قفزة أخرى لطائر وحيد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

كطائر وحيد تائه تبحث يا محمود ومنذ الأزل عن رفيق؟ وحيداً تسعى بشغف للتلاقى, خمسة وثلاثون عاماً مرت. منذ زمن طويل والطائر التائه يحلّق فى السماوات محاولاً اختراق الحجب ليصطدم بركام السحب فيتهاوى مذبوحاً ويعاود الركض للتحليق من جديد. نسمة عفية تتلاشى فى مهب الريح.. ياه...! ياه يا محمود على القيد الفولاذى الذى يطوق عنقك. مخنوق يا محمود. كبت وحرمان وشقاء ويقظة بلا حدود. الوعى عبء وأنت مثقل بالأنين دوماً.

 

تنهل وتغوص فتعشق فتشتبك فتتلاحم قاصداً التلاقى للارتواء والتجلى والسمو فتصطدم لترى الطفو الوهمى بعبثية حواسك الفائرة، تتسع الرؤيا فتكثر من أسفارك وتتعدد الخطى وتتبدل المسارات فى المدن والعواصم. عشقت الترحال فى المكان والزمان فضاقت الأرض فماذا أنت فاعل؟ حب من جديد يا محمود. اعشق بجد، عشقت كثيراً وتجليت فى العاصمة الأم ودرت ليالى وليالى فى المدينة الساحلية وقت الغروب وعند شاطىء المتوسط الطويل الممتد بلا نهاية، قرب البوغاز وفوق صخور الثكنات العسكرية جهة “ك 3 حرس الحدود” وجنودها السائرين دوماً فوق رمال صفراء ساخنة، سحبت ((زينب)) من أناملها وخطوت فوق الرمال الناعمة المبتلة مع بدء ديسمبر وراقبتك ((رغداء)) عن قرب بحسرة فانفتحت مسارات الحنين فى الأرواح وتجلت الحواس فبكت العاشقة القديمة عند عتبات الخريف المبكر الدانى نداه فوق رصيف البوابة الحديد المغلقة للفنار القديم، تركتك لتكمل غزواتك محلقاً مع النوارس حتى أعلى نقطة فوق الطابية ليشهد على غرورك وارتجالك تمثال ((ديليسبس)) المخلوع وقاعدته البازلتية المثقوبة، والليالى يا محمود: أين لياليك مع زينب ونهى ومنى؟!

قضمات ((المارون جلاسيه)) السائل تسبح فوق رخام كوفى شوب “ملفاى” و”جيانولا” والقمر المستدير يجوب الخلاء المتسع أعلى فضاءات المتوسط مطلاً على الرماد وسكون شرفات البرجوازيات والأجساد الطرية التى تتمدد أصابعها بذعر فتتوهج الأنامل بخجل مصطنع أسفل الخيام الوردية المتراصة، قرب نادى الصيد عشقت كثيراً وخدعت

أكثر فانخدعت، ولكنك لم ولن تعرف المعنى الجوهرى للحب الحقيقى المؤدى للاكتمال بعد نشوة وخلاص طامعاً فى تحليق دون سمو. انفلتت الأيام والسنون من بين يديك فتهت وصرت مكبلاً بالحنين الجارف.

إلى أين أنت ذاهب ولمن كل هذا الحنين يا محمود؟

لماذا الأسى على ما فات يا محمود….

منى هل تذكرها يا بن ((البتانونى))؟!

ورغدة ونهى وآمال ودالياتك الأخريات البرجوازيات…. وعلا الأرستقراطية، التى راودت زميل طفولتك محمد بن خلف فى مطعم ((الكنج)) وأصرت على أن تراقصه على صوت خوليو اجليسياس فى ليلة رأس السنة قبل الماضية، دارت دورتها الخليعة فوق ((البست)) فتمايلت وارتخت الجفون…. وفى أعلى طوابق السفينة القبرصية ((برنسيس ماريسا)) التى تعبر شاطئاًً مالحاً متوجهة إلى الجانب الآخر جهة بحر بورفؤاد، ويصعد بن خلف وراءها متسلقاً السلم الحديد…. لا تزال مخنوقاً يا محمود؟ إذن غنَ ّ وارقص، اللى قضى العمر هزار، واللى قضى العمر بجد، راح اللى راح وما عدش فاضل كتير)). اسع يا محمود. اسع وبدل المسارات. الأرض واسعة والسماء أرحب، المولى يحبك وأنت تحبه أكثر، فسر ولا تحزن، أحب الناس وأعشق الفقراء والمساكين، ابحث عنهم يا محمود…. دار دوراته وعاد من جديد يلف أصابعه حول عنقه المنتفخة بقرب الشماسى المنصوبة فى العراء فرأى الكراسى خالية وكل عاشق يهمس فى أذن محبوبته. وتنفرج الأقدام فى الخطو بثقة وتغوص الأصابع الصغيرة فى الرمال الباردة، استدار فرأى الهالات الشفيفة وبقع الضوء المنثورة الآتية من مصابيح الكيروسين المعلقة فوق الخوابير الحديد المغروسة فى البلوكات الإسمنتية… ربتت على ضلوعه. زفير وشهيق وشاطىء طويل خال ودفعة هواء خريفى تداعب حواسه المشتعلة ويتجلى هواء ما بعد الغروب فيلتفت جهة الطائر الخرافى الوحيد, الذى حط فجأة على مقربة من صخرة غارقة بماء رمادى تحتجز الأمواج عن الممشى الرملى المتسع…. انكفأ يفرد راحتيه فى الظلمة وبدأ بمداعبة النورس الخائف. تحسسه بالأنامل فطار بعيداً عند المراكب القديمة المحمولة فوق أحواض ((الرشمة)) على أثر صرخة المستغيثة الملهوفة على وليدها الغائص وسط البحر، هرول يقفز صوب شلالات الموج الهادر ساحباً الملابس الرثة الملقاة على الشاطىء …. تاركاًً الأصداف ناصعة البياض توشوش على مسمع من الجعارين الراقدة وسط الأخاديد المحفورة منذ رحيل الشمس، قفز القفزة الأخيرة ضارباً بذراعه اليمنى القوية ظهر

الطفل العارى فى الظلام، رأيت الأم المكلومة وقد احتضنت الوليد تاركة ثوبها الوردى الشفيف المبلل يرتجف مستسلماً لتيارات الهواء الجارف… تبرق فى الظلمة، خرجت سنوات العمر الفائت عبثاً تفر مع الرياح…. خلف طائر النورس الوحيد. هرول راكضاً ليصعد درجات السلّم المنتصب. تجرد من ملابسه وقفز إلى الأعماق الباردة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون