قصتان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء النجار

في انتظار ما قد أتي

 

جاءنا الأمر فتجمعنا

نقلتنا اتوبيسات  من ميادين و إشارات مختلفة .. التحرير ، رمسيس ، الجيزة ، الرماية ، ، العباسية ، نهضة مصر ، رابعة . لم تكن الاتوبيسات تحمل علامة مميزة ، كانت مثل غيرها مما تسير في الشوارع وتحمل اعلانات عامة أو خاصة، لكننا كنا نعرف عندما يمر اتوبيس  بمحاذاتنا أو نلمحه أعلى كوبري ، أنه معنا  أو ليس منا. تدربنا طويلا على التخاطر، لم نعد نحتاج إلى الكلام ، فقط حركة بعضلة الوجه تفي بالغرض، كان لدينا متسع من الوقت كي نتدرب على استخدام عضلات وجهنا، أثناء الطريق، وزع علينا الأخوة علبة بها 2 باتيه بالجبنة  وواحدة مولتو ، وعلبة عصير وزجاجة مياه معدنية.

ابتعدت الأتوبيسات عن الزحام، تجمعنا في ساحة كبيرة تشبه مهبط الطائرات ، دون أمر انتظمنا في صفوف بحسب الأقدمية، كانت الشمس ملتهبة في أيام يونيو ، كان الأمر “انتظروا ” فضبطنا أنفسنا على الوضع انتظار، ولم نكن نفعل غير ذلك، حتى الذين كانوا يشغلون أنفسهم بشيء غير الانتظار كأن يفكر أخ في الذهاب إلى الحمام،  أو تعتريه الرغبة في التنفيس عن غازات أمعائه، كانت نظرة من عين مكتوب تحول لونها إلى الاصفرار، كافية بإعادته إلى الوضع انتظار، أحيانا كان يحدث سماح ببعض التسريبات تنفيسا عن الغازات   أو مخاط الأنف ، ماعدا هذه الحركات اللاإرادية كانت التسريبات مسجلة وتحت السيطرة.

 طال انتظارنا،  وفي الاطار التنظيمي لكل ما يحدث، كان لدينا استراحة صغيرة من الوضع “انتظار” مرت علينا خلالها عربة تحمل باقات زهور، بكل باقة ثلاثة وروود اثنتان حمراوان و واحدة صفراء ، كانت الورود متفتحة بشدة و ألوانها زاهية تماما، كشيء نضر  نبت  من أرض سبخة شديدة الخصوبة، كان زهوها مؤرقا وموجعا كأنه يغطي حزن دفين و عميق، احتضنت باقتي،  وأخذت أمسح بتلات  زهراتها، فجأة صدر منها صوت مكتوم:  أي ، أي،  فزعت ومن الفزع نظرت إلى جاري ، فكان وجهه مثبت على حركة “أنا أعرف”، نظرت في عينيه،  رأيت مشتلا صغير المساحة، كأنه صوبة زجاجية، غصت في عينيه ، تجولت في المشتل المقسم إلى أحواض ، وفي نهاية الصوبة كانت الأطراف غير مغلقة، وكان العاملون يمهدون جزءا جديدا لزراعته وفي وسط الحوض كانت جثة لرجل لم أستطع تبين ملامحها والعمال يهيلون عليه سبخة الحوض ويغرسون عقلات الورد، ومن الحوض ينتقلون لآخر، والصوبة تمتد وتمتد إلى مالا نهاية ، أصابني ذهول شلني فعدت إلى الوضع “انتظار”، لكن المجاور لي لم يغلق عينية سريعا وبقي العمال في عينيه يسرحون والورد ينمو ويزدهر، وعرف التنظيميون ما مر بخاطر جاري، فانفتحت تحته دائرة جذبته لأسفل وطوعيا تزحزحنا عن أماكننا قليلا بان يمين وبان لفت وغطينا مكانه، ذهب الرجل إلى حيث يستحق وترى الجماعة أنه يحتاج، ثم حدثت خلخلة طفيفة ، في سطح الأرض، وعاد الرجل في الصف بهيا وقد تم تشحيم عقله و ضبط خلايا وجهه، ومسح شريط المشتل من عقله، وعادت عينيه أكثر اصفرارا، لم أجرؤ على النظر إليه لكني كنت أعرف ذلك، وكنت في انتظار استراحة أخرى كي أفكر فيه.

 ازداد ارتفاع الشمس، وصارت أشعتها تهاجمنا بوابل من حمم، ضغط الحر جعل سيدة من المسنات، تفر من الوضع انتظار وتناجي  خالقها ” يا رب غيمة ، غيمة يا رب ” ورغم هذه المخالفة الصريحة للتعليمات والقواعد الارشادية، إلا أن تجاوبا وجهيا من المنتظرين جعل المرشدون  يغضون الطرف عن هذه الكبيرة ، لكن ما أدي إلى انفلات الأمر هو أن غيمة كبيرة  ظهرت في السماء وأظلتنا جميعا وكان مركزها السيدة العجوز، في البداية لم ننتبه ، ثم أدركنا، وأيقنا، فإذا بالانتظار يذوب،  يتلاشى، ومن شيء عميق في اللاوعي خررنا للسيدة سجدا وزهورنا جاثية نحوها، في هذه اللحظة كان ارسال “انتظار” قد انتهى، وهبطت طائرة خرج منها المنتظر لكننا في اللحظة ذاتها كانت أرواحنا تهفو نحو السيدة العجوز، ولم يجدنا الذي أتي في انتظاره رغم طول انتظارنا.

قررت إدارة  المراسم تدبير استقبال آخر، وتلافيا لحدوث أي خروج على النص أو تأويل للمعاني ، قرر العالمون ببواطن الأمور، القابضون على صولجان الشرح والتفسير، أن يقام الاستقبال في مكان مغلق حيث لا شمس، ولا غيمة، وأن يقتصر على الأقربين من الموسومين بالسمع  و الطاعة، وأن يخلو من العجائز اللاتي ليس بينهن وبين الله حجاب.

وقفنا في بهو كبير.. استقبال فندق أو قاعة حفلات في سفارة ، وبينما نحن الضيوف منهمكين في الأحاديث الجانبية والنادل يمر بصينتيه ، جاءنا الأمر إلهاما ، لكننني فهمته، واستجبت له رغم حداثة عهدي بالوحي واستجاب له كل من حولي ، فتراصصنا متجاورين على هيئه نصف قوس، وأصبحنا خارج الكادر موجودين لكن غير مرئيين ، كان التركيز بالكرين على مائدة حافلة بالطعام وفي منتصفها كرسي واحد، لم أكن جائعة، وكان الطعام بعيدا عنا، لم يكن في متناولنا ، حتى أني لم أشتهيه وربما كان هذا حال كل المتحلقين حول القوس المشدود، وظهر الرجال المهمون الذين يرتدون بدل كحلية ويرتدون نظارات سوداء وتطل من أذانهم سماعات،  وأيديهم منعقدة دائما أسفل سرتهم في قراءة دائمة لفاتحة لا تليق كمفتتح لأية صلة، اتخذ الرجال أماكنهم في حركة مدروسة، كان المسرح مهيأ لحدث ما وكنا الجوقة والمتفرجين للعرض الحي والمبثوث على الهواء، طال الانتظار ودخل فجأة ، لم ينتبه لوجودنا وكان هناك اتفاق ضمني ألا نصفق، كان قصيرا ويرتدي جلبابا أبيض أقصر منه حتى ظهر الشراب البيج الذي يرتديه، لا أتذكر لون حذائه لكنه كان حذاء برباط وبالقطع كان أسودا، كان يتحرك كما في عروض االبانتوميم،  لكنه أشبه ما يكون بيونس شلبي في العيال كبرت، لم تكن هيئته مصدر دهشتي فلا يليق برجل مثله أن يظهر هكذا بعد طول انتظار إنما الأصعب كان البقعة التي تبلل ملابسه من الأمام، بقعة دائرية كبيرة تتوسط جلبابه كله والغريب أنها لم تكن بقعة بلل الماء بل كأنها مياه مختلطة بدماء،  مثل تلك التي تبقع ملابس وملايات المرأة فور الولادة، كانت بقعة مبللة بكدر،  إضافة لهيئته الغرائبية ، أخذ يأكل ليس بنهم ولكن بجوع حقيقي وبدا مستعجلا فكان يخطف من كل طبق لقمة ، معلقة.

 كان البهو ساكنا فبدت حركته الشيء الوحيد المتاح، آثار ظهوره الحنق والغيظ، وفهمت أن من يحيطوني تسربت إليهم نظرية المؤامرة ، تمنيت من باب الولاء أن يزيحه أحد الحراس، لكنهم كانوا ينتظرون تعليمات ما  وظلت أيديهم على مثانتهم وظل الرجل يتراوح في حركته بان يمين ، بان لفت، ونحن في الخلفية لا يريد المخرج أن يظهرنا في الكادر، ولا مدير الانتاج لديه أمر ليدفع لنا أجرة وقفتنا، كنا على يقين أن الله يستجيب الدعاء ولكن متى يشاء، كنا مضبوطين هذه المرة على الدهشة والانبهار، كنا في كل حالة  دهشة منبهرة ، حتى  أنا تغاضينا عن الستينيات وما أدراك ما الستينيات التي كانت تقام فيها حفلات أم كلثوم  في هذه القاعة ، انبهارا أقول، العريقة ، اندهاشا أقول: العريقة .

ولما شاء من شاء ، تحرك الرجال الجدد و برفق مبهر أخرجوه وأخلوا خشبة المسرح .

اجتمع السادة في البيت العالي، وقالوا من يضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة ، قالوا أول من يدخل علينا من” باب الصفا”، طوق الرجال المداخل والمخارج ، ودخل الرجل الجائع ، فقالوا إنه محمد. كنا مندهشين كأن على رؤوسنا الطير، لكن صوتا صغيرا ، كسر الصمت وأيقظنا: إنه ليس محمد ، إنه مدمم ، انفتحت أعيننا كانت البقعة المدممة  في جلبابه تزداد ، حاول الملك أن يستر عورته لكن صوت الطفل “الملك عار” كان أكبر من الفضيحة ومن السمع والطاعة ، فخرجنا مطأطئ الرأس وانطفأت أنوار قبة جامعة القاهرة ، لمبة، لمبة، حتى أنا نسينا للمرة الثانية أن نأخذ أجرنا.

وقرر العالمون ببواطن الأمور أن تمنع النساء اللاتي بينهن وبين الله عمار والأطفال الذين يرون الملك عاريا من حضور الاحتفالات، رغم ما يضيفه حضورهم من قيم انسانية تحظى بجذب الكاميرات في حركات اللفت والبان.

تجمعنا ثالثة في حقل كبير ، لا نعرف له مكانا على الخريطة،  أقاموا بوابات الكترونية عند الجهات الأربع للحقل، تقدم الطابور في سلام ، حتى جاء دوري لعبور البوابة ،  فأخذت البوابة تصفر ، خلعت خاتمي، صفرت ، حلقي، صفرت، أخذوني على جنب ، اكتمل الحضور وظللت بعيدة ، حتى جاء كبير الحراس وطلب إجراء تفتيش ذاتي ، استدعوا إحدى الأخوات، تحسستني،  همست في أذن المسئول طلبت أن أخلع ملابسي ، وببعض من الغضب ودحرا لهم ، خلعت معصمي، وفوجئت أكثر مما فوجئوا بوجود ريش على ذراعي ، من أين أتى هذا الريش ، أي مرض أصابني ؟  عصبوا عيني ، واقتادوني إلى عربة كارفان أو ربما أسفل منصة، وهم يسحبونني كان عقلي ينتفض بشدة وأنا لا أسيطر عليه ، والريش أصبح أغزر، وأمسى يضايقني.

كانت كل الأسئلة خارج ما أعرفه – من أرسلك إلى هنا؟

أنت عميلة للكفرة؟

من يمولك

  كلمة واحدة كنت أرددها لا لا لا

اقتادوني إلى عربة وفي طريقي كانت عشرات الطيور معلقة، مصعوقة على الشبكة الذي أقاموها لأي كائن يمكنه أن يفرد جناحيه، متأثرة بتحنط  سنين، وبرغبة في انعتاق روحي، فردت جناحي وطرت ، حزينة كنت، ينخر البرد عظمي، لكني حلقت  بعيدا ،  فيما أخذ غراب أسود، ينعق منذرا  بقية الطير مما قد أتي.    

………………………………

 

في انتظار من قد يأتي

 

 صلوا من أجل أن يأتي ، استجمعوه  من يقظة الأمهات المصلوبات على الكراسي ليلة امتحان الأولاد، من لقمة تخرجها أم من فمها قبل أن يكمل طفل عبارته وهو ينظر للطبق الفارغ إلا من آثار ملح وزيت: هي البطاطس خلصت؟ من قبلة يطبعها عامل على ظاهر وباطن كفه بعد تناوله ثلاثة أرغفة وبجنيه طعمية ، من طقطقة عظام الشيالين في محطة مصر،  استدعوه من غار حراء، من جبل الجليل ، من البرية، من غياهب الجب، من بطن الحوت، رتلوا صلوات وأدعية المطر، سألوا بنيلوب أن تغزل صورته على نسيجها، أعطوها ملامحه.. جبهته: واضحة، منبسطة كسهل، بها ثلاث تقطيبات من أثر فكر، عيناه: حادة كحورس،  حانية كغزال، ترى ماخلف الغيب كزرقاء اليمامة، أنفه:  يشم المخاطر، فيستعد ولا يفر.. فمه: يخرج منه الطيب فيعطر الأرض، ذقنه: على الحكمة تستند، وعلى العزم تدل ، رقبته: شجرة كافور عتيقة.

أقسموا عليها ألا تهدم ما تغزل لأنه سيأتي، أشارت للمتربصين بها، طمأنوها : سنشغلهم بلعبة الكراسي الموسيقية، ستبقى الموسيقى دائرة،  وهم سيظلون يدورون في الوهم، ومن يجلس منهم لن يعرف طعم الراحة، اغزلي أنت ونحن كفيلين بهم. 

تمنى الفلاحون : سيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جورًا.

حكم القضاة: الشر والطغيان لن يكونا قادران على الوقوف في وجه قيادته.

قرر الأطباء:  سوف يبتلع الموت للأبد.

حلم الكناسون : سوف يقوم جميع الموتى.

همس الموظفون : سيكون الفرد قادرا أن يتكلم  بفمه.

تماهت النساء: سيعطيه الله كل رغبات قلبه.

هلل الأطفال: سيملأ المرح أفواه الناس.

ومضت أزمنة وهم في الانتظار، غاب الزمن الذي كانت فيه الآلهة تشارك البشر حياتهم، ورحل الزمن الذي كان فيه الأنبياء يصلون السماء بالأرض، وراح الزمن الذي كان فيه الأولياء لأجلهم يغاث الخلق.

وعاد الوقت الذي فيه الناس بين رجال ثلاث، رجل يعلم ما يحدث ويوافق عليه، و رجل يجهل تماما، ورجل يعلم بما حدث وإن كان لا يدري إن كان خيرا أو شرا.

ألقيت القوانين في العراء وديست في الشوارع، ما من أحد يود أن يحرث من أجل نفسه، بعد أن أصبح الناس جميعا يقولون لسنا نعرف ما سوف تأتي به هذه الدنيا. وذهب الناس إلى التماسيح من تلقاء أنفسهم. وقالت الدويلات : لن تستطيع مصر أن تأتي شيئا ، فالرمال المحيطة بها هي كل حمايتها. وكتب أحدهم  تويتة تقول ” لو علمت أين الرب لعملت له.”

وعلى الربابة صار المنشد يغني كما فعل الأجداد

” أصبح الموت تجاهي اليوم – كالبرء للمريض-  والخروج للخلاء بعد حجز.

أصبح الموت تجاهي اليوم –  أشبه بعبير المر- وجلسة تحت ظلة – في يوم ريح صر.

أصبح الموت تجاهي اليوم كأمنية  امرئ  يتطلع إلى موطنه- بعد سنين عدة في الأسر”

وطال الوقت ..

وأخيرا  جاء..لم يكن آتيا على سحاب السماء ، لكنه مع المشاة  والحفاة  والثكالى والمكلومين  والمهضومة حقوقهم  جاء، ترنمت له ايزيس التي لاتكل : إنك الملك الطيب، وإن قلبي لفي سرور، عندما تنير الأرض ببهائك،  مسحوه بالزيت،  تعلقوا بثوبه. سألوه أن يشفي المرضى ويحيي الموتى ويقيم مملكة الرب، …

جاء بعدما أكل الضجر اللهفة، وسكن السأم الروح ، وتكاثرت الجزر، وصار الحال أشبه بطبق كبير مملوء بالخبز الذي أصابه بلل، ، فلا الخبز ظل جافا يؤكل، و لا الماء بقي صالحا للشرب.

 جاء.. بعدما لم يعد هناك صراع بين النور والظلمة، أو الخير والشر، وأضحى الصراع  بين الباطل والباطل، وصار كل أمل ملح الأرض أن تكف الفرق المختلفة عن اشعال أيامهم في أتون العبث.

انتظر منهم  “ امض لما أُمرتَ به فنحن معك” ، قالوها في الميادين وعلى المقاهي ، وعند الفعل جلس الكل على صفحات الفيس بوك و أمام كاميرات السي بي سي  والنهار.

ولما لم تتغير الدنيا ولم يطبق الحد الأدنى و الأقصى للأجر، أنكروه ، تهكموا عليه، غامت الدلالات،   حملوه كل الأوزار، أبلغوا عنه،  صلبوه ، واتخذوه هدفا كي يعلموا أولادهم الرماية.

هل كان هو؟؟

 لا أحد يدري، ربما تشابه عليهم،  لكن الأكيد أنهم في المساء عادوا.. أحرقوا البخور.. أضاءوا  الشموع ..  وجلسوا يتسامرون في انتظار من قد يأتي .

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون