في حضرة العنقاء و الخل الوفي .. الحكي كوثيقة ميلاد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

ما كل هذا الظلم ؟

هذا السؤال هو أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ بعد انتهائه من قراءة رواية (في حضرة العنقاء و الخل الوفي)  للروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل . فكرة  الرواية تتشكل حول نقطة رئيسية و شائكة ليس لدى المجتمع الكويتي فحسب إنما لدى العديد من دول الخليج العربي  وهي مشكلة البدون ، أي بدون جنسية ، مثلما جرى في الرواية . و البدون هم فئة سكانية تعيش في الكويت ولا تمتلك الجنسية الكويتية و ليس لها الحق في أستصدار شهادات ميلاد أو وفاة أو وثائق زواج أو وثائق سفر ،  أي أنهم على الهامش تماما ً و مرجع هذه الأزمة يعود إلى الفترة ما بين 1950 حتى عام 1979 حيث تدرج مسماهم في الوثائق الرسمية من " غير كويتي " ثم " بدون جنسية " ثم " مقيم بصورة غير شرعية " ونسبة من البدون تعود لأصول بدو رحل من بادية الكويت سكنوا شبه الجزيرة العربية منذ الاف السنين و نسبة أخرى قدمو من بلدان أخرى و يخفون وثائقهم و مسنتداتهم الأصلية .

تدور أحداث الرواية حول شخصية المنسي أبن أبيه الذي يكتب رسالة إلى ابنته زينب التي لم يرها أبدا ً . “يا زينب مُنذ عام 1996 م كُنتِ وقتها في خامستك ، و أنا أجاهدكِ بالكتابة إليك ِ ، أشرع أسود عشرات الصفحات ” . المنسي أبن أبيه البدون الذي يكتشف مأساته أثناء دراسته وقت أن نادى المُعلم المصري على أسماء الطلاب ” تلميذ صف أول مدرسة النجاح الأبتدائية بنين ، صبيحة سبت ، شهر سبتمبر 1963 ، ابن سابعة ، صبية صغار تجاوز عددهم ثلاثين ، وقف المعلم المصري في مقدمة الفصل ، ظهره إلى السبورة ، قائمة أسماء الطلبة بين يديه ، بدأ ينطق الأسماء واحدا ً واحدا ً ، قاصدا ً إثبات حضور ، أستجاب الصبية أنا ، أنا ، وصل المُعلم لعند أسمي ، منسي أسم متداول في مصر ، أستجبت له أنا ، خطف نظرة لوجهي ، عاد يدقق ورقته ، أنت غير كويتي ، وددت لو أصحح ، كويتي “

رغم غرابة الاسم ألا أننا سندرك أن له مَغزى فالأم لم يكن يعش لها أولاد ، فأسمت المولود بهذا الأسم ، لعل الموت ينساه ، وفعلا نسيه الموت، لكن لازمه حظه التعس و بؤسه الذي نُطالعه طيلة قرائتنا للرواية .

يُعاني منسي من صراع نفسي ، يتجلى هذا الصراع في واحدانيته و أنعزاله عن الناس و أحساسه بأنه أقل من الأخرين ، او يشعر بتفوق الأخرين عليه كأنهم يحوزون ميزة نسبية هو مُفتقد لها . رغم شهرته التي يحظى بها بسبب كتابته لعموده اليومي في جريدة السياسة الكويتية . كأن كل الشهرة التي حققها لم تمحو أحساسه بالضألة أمام الأخرين .

تبدو الصدفة أو الحظ هو المُحرك الرئيسي لحياة منسي بكل دروبها و انعطافتها ، بقاؤه على قيد الحياة بعد ولادته ، أستكمال تعليمه الذي كان أنقطع عنه صدفة ، تَعرفه بعهود الصدفة الأكبر التي بدلت حياته تماما ً .

رحلة دمشق التي أتت مُصادفة ، فتحت أبواب الجحيم على منسي ، من خلالها بدأت علاقته بعهود المرأة الكويتية التي تزور دمشق الثمانينات تتعرف على منسي ، فيقع في حبها ، لكنه لا تواتيه الجرأة للأفصاح عن مشاعره ، خشية الصد أو العزوف بعد أن تعرف حقيقته و أنه بدون ، لكنها لا تَعطي وزنا ً ولا أهمية لتلك المسألة ، فينجرفا الاثنان في علاقة عشق ، تكون لها فيها الكلمة الأولى و النافذة، القائد للعلاقة كانت عهود ، و البادئ أيضا ً و صاحب كلمة النهاية كانت هي ، منسي دوما ً يمتثل لرغابتها ، وذلك نتيجة لوقوعه في براثن حبها ، لكن بنظرة عامة على حياة منسي قبل أن يعرفها ، نُدرك أن سيطرتها كانت تعويض لنقص ما في شخصية منسي أو سد فجوة ناقصة تُشعره بدونيته ليس أمامها فقط أنما أمام الأخرين . ويتضح أن هذه النقيصة أنه ” بدون ” .

 لعل من أبرز المشاهد في الرواية تلك الخاصة بوصف الغزو العراقي للكويت في أغسطس عام 1990 م ، نجح إسماعيل فهد إسماعيل في إبراز معاناة الكويتين من جراء الغزو ، فجأة تجد بلدك أحُتلت من بلد مجاور ، و الاّخر يُمعن في إذلالك و التنكيل بك بهدوء، و في الأخر يقل لك ” هويتك عيني ” . فجأة أصبح الشعب الكويتي كله ” بدون ” ، لم تَعد أزمة منسي وحده أنما أصبحت مُشكلة وطن ، خصوصا ً بعد أن ألغى الغزو أسم الكويت و صارت محافظة النداء .

تتأثر العلاقة بين منسي و عهود  بعد غزو الكويت ، تُصبح حياتهما على شفا الحريق، الأوضاع في الخارج مُلتهبة و داخل الجدران توشك الحرائق أن تندلع في علاقتهما ، حتى تصل لذروتها بهروبها من منزل الزوجية بالتوازي مع وصول الأوضاع الخارجية لنقطة اللا عودة و استحالة انسحاب الجيش العراقي إلا بالحرب .

لا تعني الرواية فقط بإبراز أزمة البدون أو العلاقة المُلتبسة بين منسي و عهود إنما يبدو هم الكاتب أكبر من ذلك بسرد وقائع الغزو العراقي للكويت و محاولته التعبير عن إحساس المنهزم ، الذي يصحو من نومه يفتح نافذة بيته ليكتشف فجأة ضياع وطنه هكذا في لمح البصر . ” قادتني قدماي نحو باب الشرفة ، فتحته ، واجهتني زحمة النبتات ، لم يتشمم أنفي رائحة أوراق نبتة البرتقال ، طغيان رائحة الشواء المعدني حال دونها ، أقتربت ُ من الحاجز الحديدي ، أنوار الفجر أخذة تنتشر تدريجيا ً ، لمحت رجلان يحثان خطوهما مبتعدين صوب منعطف الطريق ، مرت شاحنة صغيرة أعقبتها سيارة شرطة نجدة قبل أن أسمع  دوي طائرة مروحية ، الصوت قادم من ناحية الطريق الدائري الثالث ، خلته يقترب ، في اللحظة حدث أمر غريب ، شاهدت ما يشبه الكرة النارية عند الأفق الشمالي ، أعقبها مباشرة أنفجار هائل ، ترافق مع ارتطام معدني مدو ، أرهفتُ السمع ، لا أثر لصوت محرك الطائرة المروحية . “

تكتمل منظومة الظلم التي يتعرض لها منسي قرب انتهاء الرواية عندما يكتشف منسي اختفاء عهود و بنته زينب و سفرهما للخارج و بذلك ضاعت عليه فرصة رؤية ابنته ، وعندما يحاول استخراج وثيقة سفر ليسافر لهما ، يُفاجئ بوضع قيد أمني عليه بما يمنع سفره للخارج رغم انضمامه للمقاومة وقت الغزو ودوره المهم الذي أثنى عليه الجميع . فيشرع لكتابة رسالتة الطويلة لأبنته لعلها تقرأها لتكشتف ليس أباها فحسب إنما التاريخ الغير مدون للكويت .

الرواية ممتعة للغاية و مُحكمة البناء ، كُتبت بأسلوب رائق و لغة مُعتنى بها ، لا نشعر إزائها إلا بالأعجاب الشديد ، بالأضافة إلى السرد المُتمكن الذي يجذب القارئ منذ السطور الأولى للرواية ليسقط في شِركها ، يلهث وراء أحداثها ، ولا يتركها ألا بعد الانتهاء منها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاُ عن جريدة القاهرة 

 

مقالات من نفس القسم