عبد الموجود القادم لتوه من المهندسين

منازل أسامة الدناصوري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسر عبد اللطيف

لست بارعاً كحسن عبد الموجود في كتابة البورتريهات عن الأشخاص، خاصة إن كانوا من أصدقائي؛ لكني سأحاول في مقاربة صغيرة أن التقط صورةً أو اثنتين لصاحب “ناصية باتا”، و”عين القط”، والبورتريهات البارعة التي يواصل نشرها منذ فترة، ليصور فيها بعين الساخر المحب بعض أبناء جيله، ومن هم أكبر قليلاً من الكُتاب. وقد كنتُ بنفسي واحداً من ضحايا هذه البورتريهات، فعلّي أن أرد له بعض الجميل..

يعرف الجميع، أن عبد الموجود قد وصل إلى القاهرةمنذ نحو خمسة عشر عاماًبرفقة صديقه اللدود محمد شعير في نفس القطار ليعملا معاً في أخبار الأدب. وبينما اهتم شعير بتطوير جانب الكاتب الصحفي المعني بشؤون الثقافة، اختار حسن وظيفة “الديسك”، أي المحرر الخفي لتشغل معظم وقته المهني، حتى يترك مجالاً للروائي داخله، فيما كان بين الأسابيع يطل علينا بتحقيقات صحفية تلفت الانتباه، أو يكتب عواميد لاذعة عن أوجه الفساد الثقافي. يتحرك بين الأشكال الصحفية بمنطق الظهير الحر في كرة القدم. وقد أشرف لسنوات طويلة على باب “ساحة الإبداع” في الجريدة. وربما لهذا السبب يطيب له أن يعرِّف نفسه أحياناً فيقول: “أنا أديب أقاليم”، ساخراً من ذلك التصنيف الذي يعتمره بعض الكتاب من غير أهل العاصمة ليحظوا باعتراف المؤسسات الحكومية..

ويغيب عبد الموجود عن الحضور في دوائر وسط البلد لفترات طويلة، ثم يظهر فجأةً وعلى وجهه ابتسامة خبيثة وما يشبه الشعور بالإثم. تسأله: “كنت فين يا بو علي الفترة دي كلها؟” فيقول لك: “كنت في المهندسين”. دون أن يفصح عمّا كان يفعله هناك، وعليك أنت أن تخمن..

ونحن نعرف، أنه إلى جانب عمله في أخبار الأدب، فحسن يعمل طوال الوقت كـ”ديسك مان” في جرائد غامضة، وغالباً تقع مكاتبها في حي المهندسين. مما يعني جواراً مختلفاً، وصحبةً مختلفة، وبشراً غير متعاطي الأدب ممن يدورون في متاهة وسط البلد ومثلث الرعب الشهير. وربما صار حسن الآن أكثر إخلاصاً لتلك المهن الجانبية، بعد أن تم اختطاف أخبار الأدب لأجل غير معلوم، فيما هو يواصل هواية “الظهير الحر” بصفحته على الفيسبوك.

أول ما سيلفت انتباهك في حسن ـإن كنت لا تعرفه ـ أنه صعيدي.وعلى الرغم من أناقته ما بعد الحداثية التي تشير إلى إنه قادم من “المهندسين” فعلاً، ستفضحه لكنةٌ لا يخفيها تماماً، ولكنه ـ في نفس الوقت ـ لا يُشهرها في وجهك ليزايد عليك بـ “أصالته” على طريقة أدباء الصعيد ممن ساروا على نهج الأبنودي ومستجاب وقافلة مهاجري الستينيات، وماأدراك ما الستينات. ستلمح”ج” معطشةًمرةً، ومرةً أخرى “ق”تنقلب لجيم قاهرية بدلاً من الهمزة في بعض المواضع غير الواعية، من بقايا لهجة قنا البدوية الخالصة. سيصلح لك حسن المعلومة: “لا.. أنا من نجع حمادي”. تلك المدينة الغامضة التي ارتبطت في المخيِّلة بجرائم الثأر، وبمجمع الألومنيوم، حيث الفتيات يركبن الدراجات في قلب الصعيد المحافظ.. “مدينة الغرباء” كما أسماها عبد الموجود في مقال جميل كتبه وقت جريمة عيد الميلاد عام 2010 حين أطلق مسلحان نيرانهما على المسيحيين المحتفلين بالمناسبة أمام كنيسة المدينة. كتب حسن وقتها عن التركيب التاريخي والسكاني لنجع حمادي، موضحاً السياق الذي أفرز “حمام الكموني” القاتل الأجير، الذي اكتراه ثري برلمان وقتها لينفذ تلك الجريمة تحقيقاً لمعادلة انتخابية ما. وتتجلى قدرات حسن عند كتابته عن أشخاص أو أمكنة. وقد أقنعنا فعلاً في ذلك المقال الجميل بخصوصية تلك المدينة الجنوبية التي هاجر إليها أبوه بعائلته من قرية “القناوية” حتى يستكمل الأبناء تعليمهم.

وعبد الموجود أيضاً دون جوان (بطريقة ما).في نحو سنة 2002 كنت أراه في ذلك المقهى الأنيق في وسط البلد، بصحبة فتاتين، تظهران معه بالتبادل، فإن ظهرت واحدة اختفت الأخرى. سألته مستفسراً عن الأمر قال لي: “ده الجو الشرقي.. ودوكها الجو الغربي”. لم أبد أي اندهاش. وتوقعت أنه يقصد أن إحداهما شرقية الطباع والأخرى متفرنجة. ولكن بعد ذلك فهمت أنه كان يستخدم لفظي الشرق والغرب بالاستخدام الصعيدي، فإحدى الفتاتين كانت تسكن في القاهرة، أي في البر الشرقي، والأخرى كانت من الجيزة أي البر الغربي. وفي نهاية العام تزوج حسن من فتاة ثالثة.

وذات ظهيرة خماسينية من عام 2004، قابلت حسن صدفةً في وسط البلد، وكان عائداً من جنازة العم ابراهيم منصور، عراب جيل الستينيات. ولم أكن قد حضرتُ الجنازة لأني سمعت خبر الوفاة متأخراً. كنا نسير في شارع هدى شعراوي صامتين يلفنا الحزن حين سألته فجأةً عن محمد هاشم، أين هو الآن؟ قال لي بتلقائية شديدة :”هاشم شايل الطين في المكتب”. للوهلة الأولى اندهشت من التعبير إذ ترجمته إلى صورة بصرية في ذهني، ولكن بعد ثانية استوعبت العبارة، وترجمتها وفقاً لموروث قديم غائر في لا وعيي من طقوس الحداد والحزن في الجنوب: شيل الطين، وصبغة النيلة، والعديد، ورقصة الحجل.. ربما كانت أمي تستخدم نفس التعبير في مناسبات مشابهة.. بالطبع اختفت كل تلك الطقوس منذ زمن طويل، وظلت موجودةً في اللغة، تُستَحضر ككنايات عن الحزن الشديد. في تلك اللحظة. شعرت بأني أنا أيضاً جنوبي كحسن، وأننا أقرباء فضلاً عن أننا أصدقاء، فمحافظة قنا التي جاء منها هي المحافظة المجاورة لمحافظة أسوان التي جاء منها جدودي. كنا في تلك اللحظة البعيدة جنوبيين يوحدنا الحزن، وإن كنت قد سبقته إلى القاهرة بجيلين.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم