مصطفى محمود.. ماذا قالت له الخلوة؟

مصطفى محمود
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البهاء حسين

لم يكن أمامه، ليبرأ من القلق، سوى أن يتقلب على جمر النار، حتى يجد الوجهة التى يفقتدها..الطمأنينة. مصطفى محمود، 1921- 2009م، هذا الكائن المتفلسف، وجد من دواعى اليقين أن يبحث عن نفسه بالتجربة، وأن يعلن الإجابة، أمينة لا تحتمل الشك، لنفسه قبل أى شخص آخر.

قادته الأسئلة، أول الأمر، إلى الإنكار، ولم يكن في عجلة من أمره، فاستغرق فيه. اعتبره منهجاً يقود إلى الحقيقة. لكن عن أية حقيقة يبحث هذا الكائن الذى ربما ما زال يتساءل حتى وهو فى قبره.

بدأت الأسئلة تطن فى رأسه وهو يدلف إلى العقد الثانى من عمره: “تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق، ولا بد لكل صنعة من صانع، ولا بد لكل موجود من موجد. صدقنا وآمنا. فلتقولوا لى إذن من خلق الله، أم أنه جاء بذاته. فإذا كان قد جاء بذاته وصحّ فى تصوركم أن يتم هذا الأمر، فلماذا لا يصحّ فى تصوركم أيضاً أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهى الإشكال”. ( 1 )

كانت مباهاة مصطفى بعقله، وموهبته فى الكلام والجدل، هى السيخ الذى يقلب الجمر فى قلبه. وكنت، بدورى، مثله، أضع قدماً فى المراهقة وقدماً فى الشك. وكانت الكلمات المكتوبة هى الكومة التى تمد يدى بما تحتاجه من أسئلة مدببة، كالحجارة.

في الثانوية العامة كنت أتملى صورته على أغلفة كتبه البيضاء، حيث يبدو كناسك يضع إجابات كثيرة تحت شعره الأكرت، ثم ألوذ به، لأننى أشبهه. وألوذ بالأحلام متمنياً أن تطبع صورتى، فى المستقبل، على كتب كهذه تقول الإجابات. هل كنت أبحث عن الحقيقة، أم أننى، مثله، دفعتنى وفرة الكلام فى فمى إلى الشقشقة. يقول: “إن زهوى بعقلى الذى بدأ يتفتح وإعجابى بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التى انفردت بها كان هو الحافز دائماً، وليس البحث عن الحقيقة وكشف الصواب. لقد رفضت عبادة الله، لأنى استغرقت فى عبادة نفسى وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى وبداية الصحوة من مهد الطفولة”. ( 2 )

وقد أغرته هذه الوفرة بالتمادى، وأغرت رائحة التمرد، التى تفوح منه، أصحابه بالالتفاف من حوله، فكانوا يغرقون معاً فى جدل لا ينتهى.

كانوا يتقاذفون الأسئلة كما يتقاذفون الكرة، والغاية، شأن كل جدل، هى إصابة مرمى الخصم بهدف، لا توثيق ما يكتشفون من علامات فى الطريق. على أنها أسئلة لم يبطلها الزمن، فما زالت تترد. وإن كان مصطفى، بالذات، قد تحول إلى علامة استفهام محنية الرأس تبحث في الأرض والسماء عن سرّ الحياة والموت وكل سرّ.

فى منزل والده أنشأ معملاً صغيراً فى غرفته لصناعة مبيدات يقتل بها الصراصير والضفادع، ثم راح ينكفئ على تشريحها، وفى كلية طب القصر العينى،  التى تخرج منها عام 1952م متخصصاً فى الأمراض الصدرية، سمّوه “المشرحجى”، لوقوفه طويلاً أمام جثث الموتى، حتى إنه اشترى جثة كاملة بـ “60 قرشاً”، ووضعها تحت السرير، ليعرف أسرار الإنسان، أو لعله أراد أن يسأل الموتى عما وجدوه فى الشاطئ الآخر، غير أن أحداً منهم لم يرجع من هناك ويخبره بما رأى، ولهذا ظل يسأل ويسأل ولم يجد الإجابة إلا عندما وجد الله.

المنطق يقود خطواته:

لم تكن معاناة محمود عن شك أصيل فى فطرته، بل هى لوعة وجودية، أو قل: ظمأ روحى لا يطفئه سوى أن يجد، بالدليل المادى الذى تلمسه اليد، براهين على أن وراء هذا الوجود موجداً أو سبباً أول لا مجال للطعن فيه. هو لم يحذف الله من حساباته، لم ينف وجوده، غير أنه كان عاجزاً عن لمسه. بتعبير كامل الشناوى كان “يلحد على سجادة الصلاة”، وانطلاقاً منها راح يبحث عن يقين لا شك بعده. وكان المنطق إلى جواره فى الرحلة. فى نزاعه مع نفسه أو فى محاولته فك ألغاز يخلقها العقل إن لم يجدها.

فى عالم الصوفى الطريق هى الغاية. قد تختلط الحقيقة بالشريعة بالخرافات فى قلبه، لكنه يمضى فى سبيله. فى عالم الشك. هناك نقطة معينة لا بد أن توقف عندها السير، وتكشف ما وصلت إليه من نتائج. وإلا كنت عبئاً على الحقيقة وكان السير عبئاً عليك.

وقد نشأ مصطفى محمود، بجوار مسجد “المحطة”، قرية ميت الكرماء، ثم انتقل إلى طنطا، وسط جو صوفى خالص. أقصد أنه عرف الشك وفى هذا الجوار عرف الوجد. تقاسم العالمان قلبه، غير أن المأذنة كانت أشبه بفنار يرسل الأذان وميضاً مسموعاً من كلمات بسيطة، لكنها وقفت به على الحقيقة عارية. أن هناك من هو أكبر من العقل والشك ومن الدنيا برمتها. الله. إما أن تؤمن به، حقيقة تقرّ فى القلب ويصدقها العمل، أو أن تجترّ الشك بغير نهاية. أنت حر. لست مجبراً على الإيمان، لأنه لا يصحّ أن تجبر على شىء ثم تحاسب عليه!

ولأن المنطق معناه أن نميز الصواب من الخطأ، عرف محمود وجهته. أنه لا يمكن أن يعترف بالخالق، ثم يتساءل عمن خلقه. هذه هى السفسطة بعينها، كما يقول، ثم إن “القول بسبب أول للوجود يقتضى أن يكون هذا السبب واجب الوجود فى ذاته وليس معتمداً ولا محتاجاً لغيره لكى يوجد. أما أن يكون السبب فى حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول”. ( 3)

على أن الوصول إلى اليقين لم يكن سهلاً، فقد احتاج منه إلى 30 سنة “من الغرق فى الكتب وآلاف الليالى من الخلوة والتأمل مع النفس وإعادة النظر ثم إعادة النظر فى إعادة النظر، ثم تقليب الفكر على كل وجه، لأقطع الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب اليوم من كلمات على درب اليقين”. ( 4)

لم يكن سهلاً، لأن محمود، نفسه، لم يشأ أن يأخذ الأمر مأخذاً سهلاً. رجل مثله بدأ يمارس الشك وهو فى الحادية عشرة من عمره وكون بعدها بعام “جمعية للكفار”، ثم أدمن قراءة دارون وشبلى شميل وسلامة موسى، وتعلم، من دراسة الطب، أهمية المنهج العلمى..أنه “لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس، وأن العلم يبدأ من المحسوس والملموس، وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين، وما لا يقع تحت الحس فهو، فى النظرة العلمية، غير موجود، وأن الغيب لا حساب له فى الحكم العلمى”(5).

رجل كهذا لا يهتم سوى بإرواء تعطشه للحقيقة، لم يكن ليقنع بأقل من أن يجد، فى نهاية النفق، شيئاً ينتظره. ولا شىء يقنع المتشكك إلا أن تطلبه الحقيقة بدورها. وهى تطلب من يبحث عنها بشىء أكبر من العقل.. بالقلب. هنا، بعد أن تردم الفجوة فى نفسك بين العقل والقلب، وتعرف حجم العلم، تجدّ الحقيقة فى طلبك على طريقتها. وقد عقد محمود هدنة بينه وبين نفسه، تخلص بعدها من الانقسام. أن العلم مضاد للدين، كأنهما معسكران لا بدّ لأحدهما أن يهزم الأخر! خرج محمود من هذا الصراع المفتعل بأن “الدين هو العلم بالله”(6)، لا يعنى الدين سوى “معرفة الإله. أن تعرف إلهك حق المعرفة، ويكون بينك وبين هذا الإله سلوك ومعاملة. أن تعرف إلهك عظيماً جليلاً قريباً مجيباً يسمع ويرى فتدعوه راكعاً ساجداً خاشعاً خشوع العبد للرب “. ثم إن ” وجود الله ليس بحاجة إلى برهان، فالله هو الذى يبرهن على الوجود، ولا يصح أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله، تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار، ونعكس الأية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور، فالله هو الدليل الذى لا يحتاج إلى دليل”. (7)  

لقد كان على ثقة من المعمل إلى الدرجة التي لا تحتمل الاعتراف بالغيب، ولما تجرّد وجد الله في المعمل. أصبح الغيب هو المنهج.

يقول محمود: “لو أنى أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودنى لأعفيت نفسى من عناء الجدل، ولقادتنى الفطرة إلى الله، ولكنى جئت فى زمن تعقد فيه كل شىء، وضعف صوت الفطرة حتى صار همساً، وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً، والعقل معذور فى إسرافه، إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات، وإذ يرى نفسه مانحاً للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات، وإذ يرى نفسه قد اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء، فتصور نفسه القادر على كل شىء وزج بنفسه فى كل شىء وأقام نفسه حكماً على ما يعلم وما لا يعلم”. ( 8 )

كان عليه أن يتأكد أن العلم لا يجيب، وحده،عن كل الأسئلة. ثم هل أدرك العقل كنه المخلوقات حتى يبحث عن الخالق! هل أدرك، مثلاُ كنه الروح! العقل مجرد مطية، كما يقولون، “توصلك إلى باب الملك، لكنها لا تدخل بك عليه”.

كان على محمود أن يدخل التجربة، من الباب الضيق، قبل أن ينتقل من كوكب إلى كوكب، وتنتقل معه حواسه أو تتسع، فبدلاً من يكون الله، حسب تصوره له فى المرحلة المادية، مرة هو الطاقة الباطنة فى الكون، ومرة هو الحركة التى كشفها العلم فى الذرة وفى البروتوبلازم وفى الأفلاك أو، بعبارة القديس توماس “الفعل الخالص الذى ظل يتحول فى الميكروب حتى أصبح إنساناً وما زال يتحول وسيظل يتحول إلى ما لا نهاية”، بدلاً من وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاقة، وكلها نظريات لا ترتفع أعلى من حدود الحواس، ولا تعترف بالغيب، وصل مصطفى، بعد أن وضع كل شىء تحت الميكروسكوب، إلى أن النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات تقول إن هناك “وحدة بينها.. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعنى جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه”.( 9 )

قالت له الخلوة، أخيراً، إن “هذا الخالق هو عقل كلى شامل ومحيط، يلهم مخلوقاته ويهديها فى رحلة تطورها ويسلحها بوسائل البقاء، فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحة، لتستطيع أن تعبر الصحارى الجرداء بحثاً عن ماء وعن ظروف إنبات مواتية. وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو، لتطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق. وما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس. وإنما هو العقل الكلى الشامل المحيط الذى خلق. هو الذى يزود كل مخلوق بأسباب حياته، وهو خالق متعال على مخلوقاته يعلم ما لا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى. فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع خبير. وهو متعال يعطى الصفات ولا تحيط به الصفات”. ( 10 )

هكذا اطمئن محمود. اقتنع بما وصل إليه. تلاشت الأصوات من رأسه، ولم يعد يتردد في فمه سوى نغمة “العلم والإيمان”. وسيبقى صوته بمثابة تذكير دائم بأن الباحث حين يكدح من سؤال إلى سؤال يصبح، هو الأخر، ضالة الحقيقة مثلما هى ضالته.

مستهدف من كل فم:

على أن الاحتدام، الذى رافق محمود منذ الطفولة والصبا، انتقل من داخله إلى العلن. إلى كتبه وحياته الخاصة والعامة. حتى أصبح هدفاً لكل فم. أثار من المعارك بقدر ما كان بداخله منها. أهى الآثار الجانبية للعزلة التى لفّته فى الطفولة من كل جانب؟ أم هى الرغبة فى إثارة اللغط حول اسمه؟ أم هى بالفعل أسئلة ملحة كانت تبحث عن قلم؟

فى المدرسة الابتدائية، عندما سأل مدرس العربى عن ذات الله، لطمه المدرس وبقى مصطفى فى البيت لا يبرحه لمدة 3 سنوات. لم يعد إلا بعد أن نُقل المدرس. وفى البيت نفسه اعتاد على أن يمارس التفكير، بصوت مسموع، حتى قبل أن يبحث. كان يعلن شكه على مسمع من العائلة التي لم تكن تعقب عليه، لأنه آخر العنقود، سوى بابتسامة مشفقة، على طريقة ” ربنا يهديك”، فقد كان جو البيت حراً، ووالده، سكرتير محافظة الغربية، كان شخصية نادرة، كما يروى محمود. يكاد يكون من الأولياء، وتحت كنفه وجد الشجاعة ليعلن شكوكه في كل الأديان. أغراه تسامح الأهل بالجهر بالأسئلة، ولما كبر اعتقد أن المجتمع بيتهم الكبير، فنشر، في 1956م، “الله والإنسان ” (11)، وهو الكتاب الذى وصمه بعده رجال الدين بالإلحاد، مع أنه لم يقل فيه أكثر من أن كل شيء، حتى الإيمان، قابل للنقاش والمراجعة والجدل، مع تعريض بسلوك من يدّعون التدين، وإن كان مكتوباً بزهو وصراحة جارحة. من وقتها لم يفلح أبداً في أن يحصل من رجال الدين على صك البراءة، أو حق الاجتهاد. صودر الكتاب ولم يسترسل عبدالناصر مع الآراء التي طالبت بمحاكمة المؤلف! المفارقة أن محمود لم يحب عبدالناصر قط، رغم هذا الموقف، ورغم انه لم يزر، كغالبية أبناء جيله، سجونه! فيما رأى في السادات الرجل المنشود وأن زيارته لإسرائيل عبقرية سياسية وأن الانفتاح كان ضرورة اقتصادية وتاريخية! الشاهد أن وصمة الإلحاد أصبحت لصيقة به، وغذاها هو بكتب أخرى أثارت الجدل:” القرآن.. محاولة لفهم عصرى” و” الشفاعة” ومئات المقالات التي وضعته مرة في مواجة مع اليمين ومرة في مواجة اليسار ومرات في مواجهة الجميع. مع أنه لم يكن هناك شيء أمرّ عليه من هذه التهمة.

محمود، حتى في شيخوخته، بقى له الطفل المدلل الذى كان عليه في المدرسة الابتدائية، حيث كان يسيّر، في حصة الألعاب، مراكب ورق فى ماء المطر بالفناء، بينما الأطفال يتقافزون من حوله منصرفين إلى اللعب. كل مركب يأتى من جهة أو يتوجه إلى جهة، حسب ما يريد. هذا يأتى من الهند محملاً بالتوابل وهذا من فرنسا يحمل العلم، ولعل أحدها كان محملاً بالأحلام. إنه طفل كبير لم يكف قط عن استكشاف نفسه المأهولة، ولا عن الدهشة. طفل لم يعرف اللعب، لاعتلال صحته، ولهذا استبدل اللعب بالكتب والتفكير والخيال. كان يسافر، ولكن إلى داخله، كما يسافر الرحالة الذين يقرأ عنهم لاستكشاف قارات جديدة، غير أن قاراته تلك كانت هي الأفكار التي راح يعبر عنها بحرارة طفل عنيد. حتى فى الملابسات الأسرية كان مختلفاً. فوالدته تزوجت مرتين قبل الارتباط بأبيه، ووالده تزوج مرتين قبل أمه، وهذا التركيب تسرب إليه، دون إخوته السبعة، ونشع في جدران بيته. تزوج للمرة الأولى عام 1961م، من ملكة جمال مصر “سامية” التي تصغره بـ 15 عاماً، وأنجب منها أدهم وأمل، ثم انفصل عنها بعد 13 سنة، وجرب الزواج مرة أخرى وأخيرة عام 1983م وانفصل بعد 4 سنوات بالطلاق. قالت لى ابنته أمل، في اتصال هاتفى: “اكتشف أبى أن المرأة لا تصلح في حياته زوجة، بل أختاً وصديقة”.

بالنسبة إلى رجل أفضل ذكرى لديه هي الألم، على حد تعبيره، لم يكن وارداً أن يشاركه أحد آخر عزلته. كان مقيماً في نفسه وعندما بدأ مشروعاته الخيرية كان قد بدأ للتو يخرج منها.

لقد أجريت له 22 عملية جراحية، بسبب سرطان المعدة وتم استئصال جزء كبير منها، فضلاً عن متاعب في الجهاز التنفسى، بسبب ” الفورملين “، والحاصل أنه لزم البيت فترات أطول مما قضى فى الخارج. وفى العزلة، حيث تعمل المخيلة بشكل زائد، ومع العمل، صحفياً بـ ” آخر ساعة وأخبار اليوم، والتحرير وروزاليوسف”، حتى عام 1980م، سوف يرصد نفسه من خارجها، ذرة في جماعة، سوف يجرب المشى فى أكثر من شارع، عائداً آخر الأمر إلى عزلته المتطامنة.

كل الطرق كانت تؤدى به إلى العزلة، لهذا تراه يتكلم إلى مشاهديه، في التليفزيون، دون أن ينظر إليهم، كأنه في بث مباشر إلى نفسه. وإذا ضحك كأنه يستجيب لنكتة أطلقها واحد من هؤلاء الذين يسكنون بداخله! إنه كائن مستوحد يتلقى الإشارات من منطقة نائية فى أعماقه، ويدوّنها دون حاجة للجلوس إلى مكتب، فقد أتى بالعالم إلى السرير، ومن موقعه هذا أمكن له أن يكتب  89 كتاباً أو كبسولة، لا يزيد حجم الواحد منها عن 80 صفحة.

حتى الطب اعتزله عام 1960. مارس المهنة لمدة 10 سنوات فى مستشفى العباسية ومصحة ألماظة، ورغم نبوغه فيها، آثر عليها الصحافة والكتابة. كأنه لا يجد نفسه إلا فى الورق. ممازحة إحسان عبدالقدوس له تلخص علاقته بالطب، فقد كان يشترط عليه، إذا كتب له روشتة أن يجرب الدواء قبله. كأنه قد تخرج فى ” كلية الطب الجميلة “، بتعبير كامل الشناوى. هو نفسه قال، فى حوار تليفزيونى: ” أنا ما نفعتش أبقى دكتور، لأنى كل ما كنت أسمع مريض ماسك رجله وبيتألم كانت رجلى بتوجعنى “. وأردف: ” المرض سجن “. وهو يريد أن يرى نفسه ويرى الناس من خارج أسوار السجن. لقد أجرى ما يكفى من العمليات فى جسمه ويريد أن يلاحظ المرض من الخارج كموضوع. يريد أن يقف على عتبة أخرى. أن ينتقل من ألمه إلى آلام المجتمع، أو لعله يريد أن يشفى المرضى، ليشفى هو من آلامه. يعرف المزيد عن نفسه من خلال المجتمع.

كانت هذه الآلام فرصة مواتية له يحول بها الشعار إلى واقع. فتفرغ بعد اعتذاره عن قبول وزارة الثقافة في السبعينيات، لتربية أبنائه، والتربيت على المجتمع، لذلك أنشأ مسجداً بالمهندسين، عام 1978م، يحمل اسم والده، أو مثله الأعلى الذى توفى بعد سنوات من الشلل، و3 مراكز طبية، كان يتردد عليها 250 ألف مريض سنوياً أغلبهم من محدودى الدخل، و4 مراصد فلكية يفك بها شفرة الألغاز، ومتحفاً للجيولوجيا.

ومن سطح المسجد اتخذ مأوى يكلم منه الفطرة، عبر كتبه وبرنامجه ” العلم والإيمان” الذى قدم منه 400 حلقة، قبل أن يتوقف بأمر من حسنى مبارك. غير أن هذه المشروعات لم تسلم، هي وحياته، من الرجم بالطوب. فقد اتهم بالتربح من ورائها، وكما اتهم قديماً بالإلحاد، طاردته، وهو مؤمن، صفة المارق أو الدخيل الذى يفتى بغير علم، بينما كان الرجل يمارس لعبته المفضلة التي تمليها الخلوة.. التفكير، وشهوة إصلاح العالم. مكتفياً في خلوته هذه بالعود ومجموعة من النايات، وأصوات عبدالوهاب وأم كلثوم وفيروز وعبدالحليم ووديع الصافى، ومن الطعام بالجبن واللبن والسمك.

ولئن بدا، في خلوته، كمن ينتظر أن يتخذ منه الناس مرشداً للعصر، فلأنه رجل فى مهمة، أو في رحلة نجا خلالها من التهلكة، ويريد من الآخرين أن يشاركوه هذه الرحلة. لقد أدرك دوره، لأنه أدرك المعنى الذى تنطوى عليه حياته. أن يتقدم الصفوف، محدداً اتجاه السير. لا عن قناعة بأنه يحتكر الحقيقة، بل عن يقين بأن الخروج من المتاهة يبدأ حين يجد الإنسان السعادة، والسعادة ” في معناها الوحيد المُمكن، هي الصلح بينَ الظَّاهر والباطن، هيَ الصُّلح بين الإنسانِ ونفسه “. (12)

وقد جرب كل الوسائل ليتصالح مع نفسه، ويعبر عنها. عمل عازفاً على الناى، وكان أقرب آلة إلى روحه، في الأفراح مع أنيس منصور بشارع محمد على، مقابل وجبة عشاء وعشرين قرشاً. جرب الموسيقى، ليبحث من خلالها عن إيقاع للوجود، ومارس كل أشكال الكتابة.. القصة القصيرة، الرواية، المسرحية، أدب الرحلة.. إلخ، غير أن ما يبقى منه هو الفكرة التي يمثلها.. التجربة. التجربة التي تقول، مع أحد الفلاسفة:” أنا لست في حاجة إلى معرفة لأؤمن، ولكن أنا في حاجة إلى الإيمان لأعرف”.

لقد فتش محمود عن ربه فوجده بقلب الصوفى وروح الفنان وعقل المفكر. مصطفى محمود قالب مثالى للفكرة التي التقى بها. لتجربة كان البطل فيها هو العلم، لأن “العلم معناه الحقيقة ” (13)، والحقيقة هي أغلى شيء عنده في هذه الحياة.

والفلسفة، أيضاً، ليست شيئاً آخر سوى طريقة توضح للإنسان كيف يصل إلى الحقيقة، كيف يحمل تلك الصخرة. وقد حمل محمود صخرته بإخلاص فحررته الحقيقة. كان مستعداً لعمل أى شيء، ليربح نفسه، وإن خسر الجميع، لأن الرجل الذى يمتلىء بالحقيقة يصغى فقط لقلبه.

…………………………………..

– 1، 2، 3، 4، 5. رحلتى من الشك إلى الإيمان. مصطفى محمود، ط دار المعارف 1997، القاهرة، ص 7، 8

– 6،7. حوار مع صديقى الملحد، مصطفى محمود، كتاب مجلة الأزهر، مارس 2015، القاهرة، ص 12

– 8،9،  10. رحلتى. م. س، ص 9، 16

– 11 الله والإنسان، مصطفى محمود، كتب للجميع، ع 103، ط دار الجمهورية، القاهرة 1956م

– 12 رحلتى. م س، ص 9

– 13 قمم مصرية، نبيل أباظة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص 152

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم