“عائلة يموت أفرادها فجأة” لعبد الحفيظ طايل”.. إذا لم تجد ما تكتب فاكتبْ ما لم تجد”

عائلة يموت أفرادها فجأة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جمال الجلاصي

القصيدة القوّامة على الرجال
القصيدة الشر الكامن
القصيدة أسرار النبوات
القصيدة العنف
(…)
القصيدة ربما يكون الكون أجمل في البعيد
لهذه القصيدة وحدها
أغنّي, وأرقص، لها وحدها أرسم امرأة باكية في الهواء
وأخيط فنجاناً

يقوم الالتزام الأدبي، أساساً، على إنكار المبدع لهمومه الذاتية وأحلامه، إلّا باعتبارها جزءاً وتعبيراً عن الهمّ الجمعيّ، سواء لمجتمعه أو للإنسانية. وينبني هذا الالتزام على موقف فكري ومبدئي يتّخذه الفنّان، ويتجلّى في أعماله الإبداعية، وحتى في حياته الاجتماعية والسياسية. كما ينبني على وعي بضرورة تحمّل تبعات هذا الالتزام سواء في بنية عمله الفني، أو ما ينجرّ عن هذا الموقف من تحمّل لتبعات هذه السباحة عكس التيار.

إنّ هذه المقدّمة النظرية “الباردة”، أيّ الخالية من التعاطف النفسي، والتي تناقض طبيعة العمل الفنّي أملتها علينا محاولة القراءة الموضوعية لهذا المنجز الشعري الأخير للشاعر والروائي والحقوقي المصري عبد الحفيظ طايل: “عائلة يموت أفرادها فجأة”، الصادر فجر هذه السنة، عن دار ميريت.

الرماديّ في القصائد ليس “بويا” إنّه سخام الواقع:

بعد ديوانه الأوّل “يحدث” ورواية “فقه الانتهاك” (في طبعتين) وديوانين شعريين “حكايات الشرفة” و”يحمل جثّة ويغنيّ”، صدر ديوان “عائلة يموت أفرادها فجأة”.  وسيلاحظ المتابع لمسيرة هذا المبدع التي تمتدّ على أكثر من ثلاثين سنة، رغم مراوحته بين السرد والشعر وضوح رؤيته الأدبية، وانسجام كتابته مع مواقفه كمهتمّ بالشأن العام ومتّهم بالنضال نقابي.

القصيدة المتعبة من صياغاتها
القصيدة الكافرة بالشعر
القصيدة الدوارة حول نفسها
القصيدة الخازنة للخيانات
القصيدة المنتظرة رغيفين فى طابور
القصيدة الطفلة المدللة
القصيدة زوجة الأب الشهية
القصيدة القاتل التسلسلي
القصيدة عصى الدمع شيمتك
القصيدة إني لأفتح عيني

حين ننهي قراءة هذه المقطع من “القصيدة” نفهم بكلّ بساطة ما هو الشعر عند عبد الحفيظ طايل، وما هي وظيفته: إنّه ليس لهواً، إنّه عمل خطير، كالحياة تماماً، لمن يعتبر أنّ الحياة مغامرة نخوضها معا، وأن “الكسْبان” هو الذي يوزّع على من حول طاقة إيجابية تجعله يواصل هذه المغامرة ولا يبرك تحت أثقال الوقائع وهمومها.

 فقد سارت الكتابة الملتزمة في الأدب العربي منذ نصوصها التأسيسية على حدّي سكّين ذابح: “التصريح” والتلميح. فالكتابة التصريحية التي تسقط عادة في الشعاراتية والصراخ تضحّي بالفنّ من أجل الموقف، وهي عادة نصوص يتغلّب فيها الإيديولوجي على الفنّي، بينما ينحو أدب التلميح إلى بناء نصّ أدبيّ يعتني خلاله   توظيف الرموز والإيحاء، حتى يخترق اللحظة الراهنة والمجال المكانيّ الضيق ليعانق الإنسان في كلّ زمان ومكان.

إنّه ليس وطناً، إنّه حدأة تخطف الكتاكيت:

ليس سهلا أن تكتب كلام الناس شعراً، ولا همومهم. عبد الحفيظ يصرّ على كتابته وحتى غنائه، بشدو رقيق يغلب عليه الشجن العذب. يصرّ على كتابة القصيدة الحياة بكل بساطة، القصيدة التي “تنْكتب” تحت وطأة الوعي بالواقع والإيمان الطاغي بقدرتنا الوهمية اللامحدودة على تغيير هذا الواقع، ليس بتجميله وتبريره ولا حتى بتلطيخ لوحاتنا بالأسود… بل من خلال التقاط التفاصيل، من خلال بيانات تفصيلية لمختلف لكل ما يشوب هذا الوحش العملاق الذي يطوّقنا ويحاول التهامنا، من وهَن ونقاط ضعف وتشوّه، سببه الجشع والأنانية  والغطرسة ورفض النقد والاختلاف…

هل يقول الشعر كل هذا؟ هل تحتمل القصيدة كل هذه العقلانية المقيتة في الشعر؟

هنا تبرز قدرات الشاعر وتفرّده، وهنا تظهر براعته ووعيه بالإمكانيات اللامحدودة للشعر :

صباح الخير يا موت /  أعتذر عن الأمس يا صديقي العزيز/  كنت مرهقا، فلم أكمل معك الطريق /  أنا كما تعرف أنا كما تعرف يا صديقي/ عشت عمرأً كاملا في دور / أحدهم /  مجرّد / كمبارس / صامت /  لم أهتمّ ابداً بأثر الفراشة / رغم عملي كقهوجي / أضبط مزاج الزبائن / …/ كنت حيّاً يا موت / طفلا مشاغبا تعلم ألاعيب الحواة/

علّمتنا قراءة الشعر أن ليس هناك كلمات لا شعرية، هناك سياق لا شعريّ، ويؤكّد عبد الحفيظ طايل في مجموعته هذا التصوّر، فالديوان يضجّ بالكلام العادي الذي يتداوله الناس في أحاديثهم اليومية الخالية من الشعر، لكن لمسة ما، شعاع خافت يطلّ من حيث لا نعلم، يشرق فجأة في قلوبنا حين ننتهي من قراءة  السطر أو المقطع أو القصيدة… الشاعر هنا يكتب سيرة: ” هؤلاء الذين لم يخترعوا البارود أو البوصلة / هؤلاء الذين لم يروّضوا البخار أو الكهرباء/ هؤلاء الذين لم يستكشفوا البحار أو السّماء/ لكن هؤلاء الذين بدونهم لن تكون الأرض السّنام كما لن تكون أكثر خيرا من الخلاء” (إيمي سيزير). الشاعر في “عائلة يموت أفرادها فجأة” يكتب ملحمة الإنسان العادي اليوميّ الذي يحاول الطغاة بكلّ أنواعهم تركيعه وتسخيره، لكنّه وهو يمارس حياته بصمود أسطوريّ يحبّ ويربّي أطفالا ويحلم، يحلم أن يكتب العيون التي ترى في كل هذا القبح جمالا خفياً، يكتب عن ألعاب الخيال في زحمة المحطّات عن الرغبة الجاجة في “الستر” وحتى في السعادة.

نحن لا نصدّق الشاعر ولا الشعر، لكنّنا نؤمن بهما:

لا يفعل الشاعر شيئاً ذا بال، إنّه فقط يعيد ترتيب الكائنات لا وفقاً لما تقدّمه من خدمات مدفوعة الثمن ولكن وفقاً لما تضيفه من معنى داخل هذا الفراغ المهول الذي يحاول امتصاصنا:

لا يفعل الشاعر شيئاً ذا بال، إنّه فقط يعيد ترتيب الأحداث لا وفقاً لهذا التسلسل الزماني الكئيب الذي يجعل من الحياة سلسلة لا تنتهي من المعاناة والقمع والخذلان، ولكن وفقا لما تحفّزه داخلنا من رغبة في التغيير:

اكتشفنا أن الحياة أوسع من مقولات محفوظة / وأجمل من أنظمة نهتمّ بوجودها / سجّل كلّ منا اعترافه على قنبلة غاز / ثم عاد لبيته / مشحونا بالحكايات / ليسلّي أ م أطفاله / كنا نحمل بحكايات جميلة / لكن / على الأقل عشرين قنبلة مسيلة للدموع / احتفظنا بها في قلوبنا / فلم نحك / لكن بكينا كثيراً…

إذا لم تجد ما تكتب فاكتبْ ما لم تجد:

لدى الشاعر دوماً قصائد بيضاء، يحتفظ بها لأيّامه السّود، قصيدة لها: للأنثى بكل تجليّاتها الأم الحبيبة البنت الرفيقة الأخت الصديقة، قصيدة يخبّئها تحت جفون خياله يربّت عليها برموشه ويسقيها دمعه وزقزقة عصافير قلبه، قصيدة تؤمّن بعد خوف وتسقيه بعد عطش، قصيدة رسولية لا تخون:

المرأة التي انتبهت فجأة لكسر فى فنجان قهوتها / المرأة التي انبتت سبع سنابل في كل منها رائحة بن محروق/ (…) / محركة التاريخ باتجاه كارثته الخاصة / مرسلة السهم باتجاه ذاتها / كاسرة الفنجان والباكية عليه/ معطلة الفراشات حول جيدها دونما ضوء/ مزهرة الخشخاش وباعثة الملائكة والشياطين من مرقدهم / كاتبة الوحي وكاتمة أسرار النبوّات / مرتبة فراش أبنائها وصانعة الطعام لزوجها المرتاب / قافلة الزمن الحمالة للأرض والقمر/ الدوارة حول الفراشات / عازفة الموسيقى ومنشدة الموالد والأضرحة / المرأة الوهم حد الحقيقة والحقيقية حدّ الخيال / لها وحدها ارسم لوحة وأغنى وأرقص / لها وحدها اعلق كهرمانا حول رسغي/ وأخيط فنجانا حريريا في الهواء واكتب ألان قصيدة …

أذكّركَ، بلا طعنة ستفشل في دخول القصيدة:

حينما تتحوّل الضحكةُ هويّةً الميّت، وبخارُ الشاي الحميمُ رسولَ ملك الموت، نعلم عندها أنّ حلّ هذا اللغز المقدّس، محيّر العلماء والفلاسفة، وقاهر الجبارين والساسة، بيد الشعراء فهم وحدهم يملكون نبتة الخلود وتفّاحة المعرفة وشعلة النار المقدّسة، وحدهم قادرون على استعادة الموتى، وتخليد سيرهم، بل وتحويل لموتهم إلى طوق نجاة للآخرين… هكذا يفعل الشعراء كُتّاب سير الشهداء والمناضلين، كتّاب سير ضحايا القهر من البسطاء :

“قالت معي مفتاح باب الجنة / أفعل ما أشاء وواثقة من ربي. … عندما ضربت المياه الزرقاء عينيها / خافت من اختلاط الأمر عليها /  ربما تفتح باب الجحيم / بدلا عن فتح باب الجنّة / فالمفتاح الذي في جيبها / يفتح البابين.”

أغنّي قليلاً ربما أوقف حريقاً:

تلك معجزة الشاعر…

 لعشريات طويلة تمّ تعليق مشانق لقصيدة النثر، وإهدار دمها في المنابر والصّحف، إلّا أنّها تزداد ازدهاراً يوماً بعد آخر، فهي منظرة للحياة وغناء الحياة… فالقصيدة تعرف للدكتاتور وجه واحد في كل الحضارات، سواء ذاك الذي يدعي أنه ظل الله على الأرض، أو ذلك الذي يبدو إنسانا خارقا جامعا لكل صفات الكمال، أو ذلك الذي يحتمي بجيش من المرتزقة والوصوليين…

القصيدة تعرف أن بعض الشعراء يعملون على فضح مستنقعات الواقع، وهذا عمل مهمّ… عبد الحفيظ طايل  يعمل على إظهار الزهور التي نبتت وسط تلك المستنقعات… فهو يكتب القصيدة التي تذكّر، القصيدة التي تصرخ، القصيدة التي ترى، القصيدة الجنون المنفلت…

والقصيدة التي تعرف اسم القاتل، وتحفظ ملامح أطفال القتيل… القصيدة ذات الألف اسم، من نوافير وشموس وبكاء، القصيدة ليست صخرة، ليست هرماً، إنّها نهر دافق مع صخب النّهار، القصيدة  ليست لطخة ماء ميّت على عين الأرض الميّتة، القصيدة تنغرس في اللّحم الأحمر للتّراب، إنها تنغرس في اللّحم المتوقّد للسّماء…

لو كانت الكلمات بشرأً / فكم قبرنا منها / وها نحن / نمشي كالزوميبز / مملوئين بجثث الكلمات والعبارات / والجمل / نسينا ملامحها /  وظلت داخلنا هياكلها.

فقل كلّ شيء، أيّها الشاعر : ) أمي أبي أرض شمس سباب كثير توقف عن إحراجي أيها الغبي أبناء راتب شهري كلمات قبيحة أغنيات كثيرة حقارة خنزير وردة حرية بيرة سجون مخبر قواد سمسار مسمار في نعش روحي صليب قمح أحافير نيل) … فالكلمات إذا لم تخرج تتعفّن كتفّاح في جنّة احتكاريّة.   

 

مقالات من نفس القسم