طقوس التحوّل لطائرٍ لا اسم له

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 177
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى زكي 

هي لا تعلم بأنَّكَ نصف بشري تتحول في الليل لطائر لا اسم له.

تطير لبيتها. تحلِّق فوقه كثيرًا، قبل أن تستقرَّ بهدوء على شبَّاك بيتها. تقترب من النافذة المفتوحة. لتلمحها من خلف الستارة الطائرة. كانت جالسة في إضاءة خافتة تشاهد فيلمًا، متكورة في جانب من كنبتها الصغيرة. تضمُّ ركبتيها أمام صدرها. عيناها غائبتان بعيدًا. تعرف أنها لا تتفرج حقًا.

البيت أمامك هادئ تمامًا، ومظلم. تعرف أنها وحيدة في  تلك الليلة. تخبئ نفسك جيدًا، وأنت تمدُّ رأسَكَ الصغير للداخل محاولًا الثبات، وعدم إصدار أيِّ صوت. تطلعتْ حولها فجأة فتراجعتَ أنت للوراء. قامتْ من مكانها، واتجهتْ ناحية المطبخ. تطير أنتَ من مكانِكَ، وتلفُّ للناحية الأخرى. تقفُ على شباك المطبخ الصغير؛ لتلمحها وهي تصنع كوبًا من الشاي، تنتظر غليان الماء، تقوم بصبِّه، تتجه للخارج ثانية، فتطير أنتَ مرةً أخرى عائدًا للشباك الخارجي.

 كانتْ قد جلستْ، وأشعلتْ سيجارة. تنفثُ دخانها أمامها لتضبب الرؤية أمام الفيلم، كأنَّه لا يعنيها حقًا. تمسك هاتفها. تراها تقلب فيه قليلًا قبل أن تضعه ثانية جانبها، تفكر في الدخول؛ لكنَّكَ لا تعلم ما وقعُ ذلك عليها. لن تعرفك. ربَّما لو نظرَتْ في عينيكَ الصغيرتين قليلًا لعرفتك؛ لكنَّها لن تفعل. ستفزعها فقط، ولن تتمكن من تهدئتها أو إخبارها بحقيقتك، فأنت كطائر لا تتكلم. لا صوت لك. تُطفئ سيجارتها، تضع كوب الشاي الخالي أمامها وتغلق التليفزيون، تتجه بهدوء نحو غرفتها البعيدة. تظلُّ واقفًا مكانكَ قليلًا. قبل أن تطير راجعًا.

هي لا تعلم أنَّكَ تتحولُ ليلًا لطائر، لا اسم له.

ربَّما لاحظتْ ذلك. تخبرُكَ عن وجهك المرهق، ولونك الشاحب، شفتيك اللتين يغمق لونهما. تعلم أنك لا تنام؛ لكنها لا تدري ما السبب. لا أحد يدري سواك. كل ما تخافه وأنتَ في طريِقكَ لبيتها أن يصطادك أحد الصبية العابثين.

تذهب من جديد في اليوم التالي؛ لتحلق فوق البيت قبل أن تهبط لتحطَّ على الشباك الخارجي الذي ترى من خلاله البيت كله. كانت تجلس بالداخل وحيدةً أيضًا في تلك الليلة. رأيتَها وخمنتَ أنَّها كانتْ تبكي، شعرتَ بقلبِكَ الصغير ينتفض، وشعرتَ بعجزِكَ عن التواجد معها. ستدخل لتمسح لها دموعها؛ لتأخذها في حضنك. لتكون معها كما ينبغي أنْ يكون. تزيح طرف الستارة؛ لتراها أوضح. تلتفتُ لتراك، تنتفض مكانها، تجفل أنتَ مكانكَ، وتطير بسرعة مبتعدًا. تراها من بعيد وهي تزيح الستارة، وتنظر في الفراغ. تمسحُ دموعها، وتعيد التطلع؛ لكنَّكَ ابتعْدتَ، خِفْتَ من أن تخيفها فابتعدت.

لم تحكي لك ما حدث. وأنتَ لم تخبرها بأنَّكَ تعلم أنَّها كانتْ تبكي. هي لا تعلم أنَّكَ ليلًا تتحول لطائر لا تعلم له اسمًا. كل ما تخشاهُ وأنتَ في طريِقكَ لبيتها أن يتمَّ اصطيادُك، أن تخترقك رصاصةٌ لن تعلم ما مصدرُها. ستسمع صوتها سريعًا قبل أن يُظلمَ كلُّ شيء. ستختفي سريعًا، ولن يجَدك أحد؛ ربَّما سيبحث عنك الكثيرون. ستنتشر صورتَكَ على الفيس بوك مع مناشداتٍ للبحث. هي ستحزن، ولن تفهم ما سرّ الغياب. ستظنُّك قد تركتَها وذهبتَ دون وداع. لكنَّكَ هنا الآن تحاول أن تكون معها.

تقترب من مكانك اليومي، لا تلمح أي حركة بالداخل، لا تعلم أين ذهبتْ. تجلس مكانكَ منتظرًا. وكأنَّها تعلم بوجودِكَ، تعود سريعًا. تراها تفتح باب البيت، تدخل. ودون أن تضيء أنوار البيت. تكتفي بالنور الخافتِ القادم من الطريق، تقوم بخلع ملابسها بسرعة. تراها في ملابسها الرقيقة المتبقية. تدخل لتستحم، تطير سريعًا لتقف على شباك الحمام الصغير المغلق، تسمع صوت المياه المنهمرة عليها، تشعر بحركتها، تعود لمكانك، تراها تخرج مبللة الشعر، مشرقة الوجه. تشعل سيجارة من ولاعتها البيضاء الصغيرة، وتقترب لتفتح الشباك قليلًا، تجمد مكانكَ في الطرف البعيد المظلم، تظلُّ هي متوقفة تنفث دخان سيجارتها. تنظر للفراغ.

جميلة.. وجهها الهادئ المستكين، ونظرة عينيها التي تحوي العالم. تسحب نفسًا أخيرًا من السيجارة قبل أن تنتهي منها؛ لتلقيها أمامها. وقبل أن تدخل تشعر بها تُلقي عليكَ نظرة سريعة. كأنَّما كانتْ تعلم بوجودِكَ؛ ربما قد اعتادتْ على رؤيتك، وظنَّتْ أنَّكَ تُعشش في شجرة قريبة.

في ذلك اليوم لم تتمكن من العودة لطبيعتك. وصلتَ بيتك، ودخلتَ من الشباك المفتوح. لكنَّكَ ظللتَ كما أنت. لا تعلم ماذا حدث؛ لكنكَ ظللتَ هكذا. لم يخيفك الأمر، ولم تُصَبْ بالرعب. لم تجد رغبة في البقاء حتي تعود بشريًّا كنتَ تعلم كونك طائر هو ما يسمح لك بالعودة اليها مجددًا وأبدًا. فكرت قليلًا قبل أن تخرج من الشباك ثانية مُتجهًا إليها من جديد. وصلتَ سريعًا. كان الشبَّاك مُغلقًا، والنور مُطفأ بالداخل. جلستَ على حافة الشبَّاك. تكورتَ حول نفسِكَ قليلًا، استشعرتَ حضرة وجودها القريب قبل أنْ تُغمضَ عينيكَ وتنام. في الصباح فتحتَ عينكَ. محاولًا تذكر أين أنت. عندما وجدتَها بجانبِكَ مائلة بجسدها الصغير عبر النافذة المفتوحة، تتطلع إليك مبتسمة. ظللتَ مكانكَ لثوانٍ قبل أن تفرد جناحيك الصغيرين، وتطير مبتعدًا لا تعلم ماذا كان يجب أن تفعل.

تحدثتما كثيرًا عن فيلم birdman، أخبرتها بعشقِكَ له وأنَّكَ تراه تقريبًا كلَّ ليلة، أخبرتها عن حلمك الدائم بالطيران. تنظرُ لكَ دون أنْ تردَّ، وتبتسم.

هي لا تعلم أنَّكَ طائر لا شبيه له ولم يسمه أحد. تطير في كلِّ ليلة لتقف على شبَّاك بيتها، وتظلُّ تتنقل من شباك للآخر. لتراها في كلِّ أنحاء البيت تمارس كلَّ شيء. تراها وتسمع صوتها، غناءها، ضحكها، همسها، بكاءها المخنوق، حديثها في الهاتف، ومع نفسها. تراها تأكل، وتخبز كعكًا صغيرًا له رائحة جميلة. ترقص، وتجري، وتنزل على عجل لأماكن بعيدة تنشر فيها بعضًا من بهجتها. تعود لتغيَّر ملابسها، وتستحم. تراها تقف أمام المرآة، تلمُّ شعرها فوق رأسها، ثم تتركه منسدلًا فوق كتفيها. وفي كلِّ يوم كانتْ تلمحُكَ على طرف الشبَّاك الكبير. أو على شبَّاك المطبخ، أو غرفة النوم. تعتاد على وجودِكَ ببطء، ترى طرف منقارِكَ الصغير فتعلم أنَّكَ هنا، وتبتسم. تتعمد إزاحة الستارة قليلًا؛ لتصعد أنت على طرف النافذة، وتخطو خطوةً للداخل، وتجلس مكانَكَ. تحاولُ ألَّا تنظر لكَ مباشرة. ألا تشعرَكَ بعلمها أنَّكَ موجود معها. أنت موجود، وهي تعلم؛ لكنَّها تتعامل بتجاهل خفيّ. تترك لك مساحة للتواجد في عالمها؛ تحاول ألا تتجاوزها كي لا تغضبها، فتقرر أن تغلق الشبَّاك أمامَكَ.

كانتْ سعيدةً بوجودِكَ، تشعر باعتيادها عليك، أصبحت تقضي معها معظم اليوم، وعندما تتأخر تجدها تنتظرُك بالنافذة المفتوحة. تراك قادمًا، فتبتسم وتدخل تاركةً إيَّاكَ تأخذ مكانَكَ المعتاد. ببطء تسربت لتصبح تفصيلةً من تفاصيل يومها. تمارس معها كلَّ طقوسها بالبيت؛ أصبحتَ تحفظ أماكن الأشياء، مواعيد أكلها، وكتبها المفضلة، لحظات فرحها، واكتئابها، ألوان ملابسها، وطريقة ترتيبها لدولابها، جلوسها ليلًا بملابسها الداخلية الفاتنة. أصبحتَ رفيق روحها، وأصبحتْ دنياك. ببطء تترك نفسك لتغمُركَ أشياؤها. وتترك نفسها لتحتلَّ عالمك. أريحيَّة، وسكينة، بوح خفي.

بالأمس لم تغلق باب الحمام خلفها؛ فقط اكتفت بتركه نصف مغلقٍ. كنت بدأت في الدخول للصالة، تحطُّ فوق النجفة الكبيرة، أو على أطراف الستائر. تتركُكَ تفعل هذا دون أن تنظر ناحيتك مجددًا، ودون أن يربكها وجودُكَ.

رأيتَها تعود من الخارج، تخلع ملابسها وتتجه للحمام، دخلتَ سريعًا لتقف على طرف الباب العلويّ. تضطرب قليلًا، ترتعش، وتشعر بقلبِكَ ينتفض؛ لكنَّكَ اقتربْتَ بوجهك الضئيل من الداخل. رأيتها تتجه لتقف تحت الدشِّ، تفتح المياه، وترفع رأسها لأعلى. وجهها، رقبتها، كتفاها، صدرها، جسدها كله. المياه تنهمر عليها، وتتجمع أسفل منها عاكسة نور الحمام الخافت. أغلقت المياه، وتناولت المنشفة الكبيرة، وقامتْ بلفِّها حول جسدها الهادر؛ أسكرَكَ ما رأيتَ، لا تعلم إن كانتْ رأتْكَ أم لا، هل سمحَتْ لك برؤيتها هكذا، أم لم تفكر في هذا من الأساس.

حاولت الطيران والذهاب معها لحجرتها وهي تخرج؛ لكنَّكَ لم تتمكن. انتشيتَ، وارتويتَ، وغبتَ في سماوات لم تبلغها من قبل. ظللتَ مكانَكَ ناسيًا أنَّ لكَ جناحين يمكنهما الطيران؛ لأنَّك في تلك اللحظة لم تكن بحاجة إليهما قطُّ. كنتَ بحاجةٍ لأنْ تدخل إليها، تتخلص من هيئة الطائر؛ لتنصهر معها في كيان واحد. تعيد تشكيل الأسطورة القديمة. الجسد الواحد الذي عوقب بالانفصال. والآن يعود من جديد جسدًا واحدًا، وروحًا واحدة، وقلبًا واحدًا، وعالمًا لا يحوي سواكما.

(يُقال بأنَّه إذا قامَ طائرٌ صغير لا اسم له بتقبيلِكَ أثناء نومك، دون أن يوقظك، فسوف تتمكن أنتَ أيضًا من أن تتحول لطائرٍ صغيرٍ لا اسم له متى أردتَ ذلك. الحكاية كلُّها تكمن في أنَّكَ لن تعرف بأنَّ باستطاعتِكَ التحول لطائر؛ فقط في وقتٍ مُحدد لن تدريه، ستجد نفسكَ تقوم بفرد جناحيكَ الصغيرين خلفكَ؛ لتطير).

في تلك الليلة ذهبتَ مُتأخرًا قليلًا، اقتربت من النافذة؛ لتجد الأنوار مطفأةً. كان الشبَّاك غير مغلق جيدًا؛ لا تعلم هل هي من تركته مفتوحًا لكَ لتدخل، أم أنها كانتْ تنتظرُكَ حتى نامتْ دون أن تغلق النافذة. توقفتَ على حافتِه بهدوء قبل أن تدخل دون أن تصدر صوتًا.

كان المكان جميلًا، مُرتبًا، وتفوح منه رائحة ورود. ظللتَ تتنقل ببطء حتى وصلتَ لباب حجرتها نصف المغلق، قلبكَ يكاد يخرج من مكانه، تسمع دقاته صاخبةً تخاف أن توقظها. فتحاول أن تهدأ وتلتقط أنفاسك. تدخل الحجرة ببطء شديد وهدوء، تلمحها نائمة في طرف الفراش. شعرها منساب حول رأسها، وأنفاسها منتظمة، هادئة. تهبط لتكون جانبها، تقترب من وجهها الفاتن، تزيح بمنقارِكَ خصلة شعرِ، لتدنو منها أكثر، تشمُّها، وتسمع أنفاسها الخافتة. وبلمح البصر تخطف قبلةً من فمها الورديِّ الصغير، تجمد مكانَكَ بعدها حتى تتأكد من عدم استيقاظها.

تظلُّ مكانكَ قليلًا كابحًا نفسك من جديد من أن تترك هيئة الطائر لتتحول لبشري ثانية، متطلعًا فيها، متمليًا في هالة بهائها؛ قبل أن تسحب نفسك للخارج دون صوت عائدًا من حيث أتيتَ.

لم تخبرْكَ بأمر الطائر. هي المعتادة على إخبارك بكلِّ شيء؛ ربما لا يشغل بالها، ولا تتذكره إلا في البيت. هي لا تعلم أنَّكَ أنتَ هو ذلك الطائر الذي لا اسم له.

أنتَ تعلم أنَّ الأمر سينتهي ذاتَ ليلةٍ وأنتَ متجهٌ لبيتها. سيتم صيدُك. ربَّما لأنَّكَ غريب الشكل. سيتم ملاحظة خطِّ سيرِكَ كلَّ ليلة. وسيكون من السهل توقع مكان وجودكَ. رصاصة سريعة ستلقيكَ أرضًا. وسينتهي كلُّ شيء سريعًا.

ستفتقدُكَ. دون أن تعلم أين اختفيتَ، سيكون من المؤلم لها أن يختفي معكَ طائرُها في نفس اليوم، ربَّما اختفاؤك سينسيها اختفاء الطائر. وربَّما اختفاء الطائر سينسيها اختفاءك، ربما ستربط بينكما في خيالها، أنكما قد رحلتُما في ذات التوقيت، وتركتُماها وحيدةً. لن تربط، ولن تفكر في أنَّكَ هو الطائر.

ستنزل هي في اليوم التالي، ستُخفي آثار سهرها وحزنها بنظارتها الشمسيَّة الكبيرة. ستبدأ شفتاها في الذبول والغمقة مثلك تمامًا. ستعبر الطريق دون أن تلحظ جثَّة الطائر الصغير القريبة من المنزل. لن تفزع لأنَّها لن تراك؛ لكنَّها إن اقتربتْ ودققتْ لرأتكَ، وعندها ستعرف أنَّكَ هو هذا الطائر، لكنها لن تفعل، لن تنظر، ولن تلحظ انتفاضتكَ الأخيرة على الأرض الباردة. ستكمل سيرها وابتعادها. وعند خطِّ الأفق، ودون أن تلتفتَ وراءها، أو يلمحها أحد، ستفرد جناحيها لتطير بعيدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري، من مجموعة “مسيح باب زويلة” المرشحة لجازة ساويرس ـ شباب الأدباء 2019

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون