سمر نور: أتجنب المعارك الصغيرة وأوفر طاقتي للكتابة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 4
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورتها : رشا حسني 

بخطوات ثابتة شقت الكاتبة سمر نور طريقها الإبداعي, كانت الكتابة ملاذها منذ الصغر , تخفي خلف هدوئها حالة تمرد لاتنبيء بها ابتسامتها الدائمة ولا صوتها الهامس, كتابتها تشبهها إلى حد كبير, تحلق بين عوالم متناقضة, تضع قدما على الأرض وتمد ذراعا يلمس السماء.

 نشرت “سمر” أول نصوصها القصصية قبل أن تنهي دراستها الجامعية, وكان فوزها في عام 1998 بجائزة نجيب محفوظ من نادي القصة اعترافا بتميز صوتها الإبداعي  لكنها تأنت كثيرا قبل أن تنشر مجموعتها القصصية الأولى “معراج” التي شاركتها فيها صديقة طفولتها التشكيلية حنان محفوظ , هكذا جاءت البداية مختلفة عبر مجموعة قصصية تشكيلية صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة  عام 2004  بعدها بنحو أربع سنوات صدرت مجموعتها الثانية  “بريق لا يحتمل” عن  دار ملامح ثم رواية  “محلك سر”عن  دار النسيم  عام 2013، و شاركت  بقصة “حفلة بينوكيو” في كتاب مختارات قصصية صدر بمناسبة ذكرى نجيب محفوظ عام ٢٠١٢

في مطلع العام الفائت احتفت سمر مع أصدقائها وقرائها بتوقيع مجموعتها “في بيت مصاص دماء” الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب, وفي يناير الماضي نالت سمر عن المجموعة نفسها جائزة ساويرس في القصة القصيرة فئة كبار الكتاب مناصفة مع القاص سعيد نوح.

كان الخبر مبهجا ليس ل”سمر” وحدها وإنما أيضا لكثير من الكتاب الذين وجدوا في فوزها أملا في انتصار الإبداع الحقيقي البعيد عن الصخب والمترفع عن استغلال المنابر الإعلامية رغم كونها محررة ثقافية بجريدة الأخبار.

هنا حوار مع سمر نور نحاول فيه استكشاف عالمها الإبداعي والإنساني ونلقي نظرة على روايتها الأحدث “الست” الصادرة مؤخرا عن دار العين .

·        لديك هويات مختلفة؛ تخرجت في كلية الآثار وعملت في مجال الصحافة ثم اتجهت لدراسة النقد الفني بأكاديمية الفنون , شغلت بتعلم الموسيقى ” الكمان”لفترة والتحقت بورش التمثيل والسيكودراما في فترة لاحقة.. ما الذي تبحثين عنه  في  تلك الدروب التي تتباعد حينا وتتقاطع أحيانا؟  

لا أعرف ما أبحث عنه تحديدًا، بل ربما لا أبحث عن شىء من الأساس،بعض تلك الأشياء كانت حلما من الطفولة وبعضها الآخر كان ولعا بالتجربة، الاستكشاف في حد ذاته متعة، لكنى لم أستغرق في أى تجربة للنهاية، محاولات تعلم الموسيقى والرقص والتمثيل والسيكودراما واليوجا من خلال ورش، حتى لو كانت محاولات مبتورة، والاهتمام بعالم الفلك, كلها خطوات في طريق استكشاف الذات من أوجه مختلفة. كنت أعتقد أن دراسة الآثار والعمل في الصحافة قد عطلونى عن الاستغراق في شغفي الحقيقي وهو الكتابة، لكن في الحقيقة كل تلك التجارب جزء من لعبة الخيال، جزء من تصورك عن ذاتك، وجزء من علاقتك بها، ما اكتشفته أننى كنت مقيدة في إطار واحد اثناء طفولتي وهو القراءة، وأنى انطلقت في الحياة بعد العشرين، وكان لكل تلك الدروب القصيرة أثرا على تجربتي في الكتابة.

·        للجوائز معايير هلامية عادة ماتثير الخلاف في الوسط الثقافي لكن طريقة تلقي أسماء الفائزين تمنح الجائزة شرعية تؤكد الجدارة وتكون بمثابة استفتاء جديد على مصداقية الكاتب لا العمل الأدبي فحسب..وربما كان ملفتا الترحيب الذي قوبل به منحك جائزة ساويرس لكبار الكتاب في القصة القصيرة هذا العام مناصفة مع القاص المخضرم سعيد نوح.. كيف تجنبت الصراعات والمعارك الصغيرة؟ 

لا توجد حياة بدون صراع، وجودنا كله قائم على فكرة الصراع، ليس فقط  ذلك الصراع الأخلاقي المعروف بين الخير والشر، لكنه أيضًا صراع القناعات والمصالح بكل أشكالها وطريقة إدارة هذا الصراع تنبع في الأساس من قيم كل طرف. لا أتعامل مع البشر بمنطق الأبيض والأسود، بل أعلم أنه دائمًا هناك منطقة تقارب بيننا جميعا كبشر، مع اختلاف تركيباتنا وخلفياتنا، وهناك اختلاف قائم دائمًا، بالتأكيد وأنت داخل أي صراع تعتقد أنك تملك الحقيقة، لذلك فأنا دائمًا أحاول الخروج من هذا الإطار، لا أحب أن أعيش دور الضحية، الملائكي، ولا دور الجلاد الذي يسحق من يواجهه، لكنى أملك منطق، وأدرك أن من يواجهني يملك منطقه أيضًا، لذلك أترفع عن صراعات الديوك، وحتى إن أنسقت له انهيه سريعا، وأحاول التخلص من آثاره، وأجد أن طاقتي أولى بها كتابتي عن الانقياد إلى المعارك الصغيرة.

·        في حيثيات فوزك بالجائزة كتبت اللجنة في تقريرها عن مجموعتك الفائزة “في بيت مصاص دماء” : “مرارة ذات نسوية مغتربة فى عالم ضاغط لا تفجع القارئ كمن يتجرع كأسا من السم دفعة واحدة، بل هى مرارة مقطرة، صفاها الخيال النزق، وتجسدت عبر حس تراجيدى ناعس يتخلى عن أى نبرة خطابية” ..إلى أي حد تتفقين مع وصف إبداعك بأنه معبر عن ذات”نسوية” ..؟ ألا يحرم ذلك التصنيف الكتابة من بعدها الإنساني حتى وإن مثل تمييزا إيجابيا؟

لا أنكر أن كتابتي نابعة عن ذات نسوية، وهذا لا يعنى بالضرورة أن تكون أفكارها منغلقة على ذاتها، بل هى تملك التعبير عن العالم، ومرارتها جزء من مرارة الجنس البشري كله، أعجبنى تعبير “حس نسوي” لأنه يختلف عن مصطلح “كتابة نسوية”، دعينا نفصل الأمر أكثر، في قصة “غرفة تخص صبرى وحده” القصة الطويلة في المجموعة الفائزة، هناك تناص في العنوان وأفكار النص مع “غرفة تخص المرء وحده”  للكاتبة الأمريكية “فيرجينيا وولف” يحيل القارىء لفكرة المرأة المبدعة التي تواجه ضغوط مجتمعية تعطل إبداعها وهو خط أساسي في محاضرة فيرجينيا الشهيرة، لكنى في القصة أوازى بين رغبة الصحفية الشابة، بطلة قصتي، في الاستقلال، وبين تجربة النقاش المنتحر الذي لم يستطع أن ينعزل مع فنه بعيدا عن ضغوط والده، هناك خروج بالفكرة من إطارها “النسوي” إلى إطار أكبر، إطار انساني، القضايا الأساسية في أعمالي منذ “معراج” إلى رواية “الست” مرورا بمجموعات “بريق لا يحتمل” و”بيت مصاص دماء” ورواية “محلك سر” معنية بالوحدة والاستقلال والاغتراب والجنون واختلال معايير المجتمع، فحتى وإن كانت البطلة “امرأة” والحس الذي تنسج به الحكايات “نسوي” فإن القضايا وجودية وانسانية. هذا لا يعيب أبدًا الكتابة النسوية المعنية بقضايا المرأة على وجه الخصوص، سواء كتبها رجل أو امرأة، فالمرأة بشكل عام تواجه ضغوطا أكبر في عالم تحكمه القيم الذكورية، والكتابة فعل مقاومة، من حق الكاتبات التعبير عن عوالمهن، كما يعبر الكتاب عن عوالمهم، ولا أحد يسم أعمالهم بمصطلحات بعينها، تخص الكتاب فقط، وكأن الأساس في الوجود والكتابة هو الرجل وكل ما عداه لابد أن يسور داخل إطار منفصل، لذلك فطريقتي في المقاومة هو رفض هذا “التسوير” والكتابة بحرية خارج أي مصطلح، ويمكن للنقاد تحليل ما أكتبه وفقا لمناهجهم كما يريدون.

·         ثمة تطور واضح في اللغة والأسلوب إذا ما تأملنا  عملك الأول “معراج” ومجموعتك الأحدث “في بيت مصاص دماء.. كيف حدث ذلك وهل اختلف تعاطيك مع أدواتك الإبداعية من مرحلة لأخرى؟

في نصوصي الأولى كانت اللغة وتراكيبها ومحسناتها شغلى الشاغل، اللعب مع اللغة ودلالتها في المطلق، حتى وإن كان هذا اللعب خارج حاجة النص، وأفكاره، ولا يضيف جديدا على عالمه، كنت أجرب في تلك المنطقة، وأتت لغتي أقرب للشعر، خصوصا في نصوص مجموعتي الأولى “معراج” وربما هذا ما قادنى للعب بين النص والفن التشكيلي، حيث خرجت المجموعة الصادرة عام 2004 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالمشاركة مع الفنانة التشكيلية حنان محفوظ، تحديدا النصوص التي كتبت في أواخر التسعينات، مثل “مفترق طرق”، النص الذي كسرت فيه بعض قواعد اللغة التي ألعب معها،  فمثلا أصررت على عدم تعديل علامات الترقيم فيه، وترك نقطتين فقط بجوار بعضهما ما بين الجمل ونص “أحزان فرح”، وكانت القصة الأخيرة قد حصلت على جائزة نجيب محفوظ من نادى القصة عام 1998، وعملت فيها على رسم لوحة فنية بالكلمات على طول النص، كانت تجارب البدايات برعونتها ، اللعبة آسرة لكنها مع الوقت لم تعد معبرة عن فن القصة كما تطورت رؤيتي له، ربما كانت الكتابة الصحفية عاملا، وربما كان الاحتكاك بالواقع وخروج أفكار النصوص عن عوالم الذات الضيقة، وارتباطها بمناطق أخرى، فأتت مجموعتي “بريق لا يحتمل” الصادرة عام 2008 مختلفة تماما، عملت عليها خلال فترة زمنية محددة ولم أجمع نصوص متفرقة من سنوات مختلفة كما فعلت من قبل، فكان هناك خط بين نصوصها، وهو تصوري لما يجب أن تكون عليه المجموعات القصصية، بدت حالة العلاقة مع المدينة والاغتراب عنها مؤثرة على اللغة، لم تتخلص اللغة من شاعريتها، لكنها أصبحت أكثر ارتباطا بفكرة النص وصوته، وأقل رعونة في التعامل مع قواعد اللغة.

 كنت قد بدأت الانتباه إلى أن العالم القصصي أهم من اللغة، وأن اللغة أداة وليست هدفا في حد ذاتها، الفكرة التي اكتملت في مجموعتي الأخيرة “في بيت مصاص دماء” وساعدنى على ذلك خوضي تجربة الرواية مع روايتي الأولى “محلك سر” والتي استمررت في كتابتها من عام 2009 إلى أخر 2010 وكتبتها في إطار تيار الوعي واستحضرت من خلالها قصصا كثيرة، وكان هناك صوت راوي متنامي، تتغير لغته باختلاف المرحلة العمرية لبطلتي العمل، وتتطور من مرحلة لأخرى، حتى أنه في أحد الفصول يواجه الجمهور كبطل متحدث بضمير المتكلم، وليس مجرد راوى عليم يقرأ ذاكرة البطلتين، لعبة اللغة هنا كانت مثيرة ومتغيرة وتدريب جيد على فن امتلاك تلك الأداة، والتعامل معها بحساسية بحيث لا تملكك هى وتتغلب على نصك، هناك لغة روائية ولغة قصصية تعبر عن عالم وشخصيات مختلفة تماما عن اللغة الشعرية التي يمكنها التعبير عن الذات بحرية، القصة والرواية فنا مختلفا ولم تعد الروايات أو القصص التي تتبنى اللغة المحملة بالزخرفة ترضى ذائقتي.

·        للثقافة النوبية أثر كبير في تشكيل وعيك الأدبي برغم أنك لم تتماسي مع المكان إلا في فترة متأخرة من حياتك حينما زرت القرية المتاخمة للنيل مسقط رأس العائلة ..كيف حفظت للمكان حضوره وبصماته داخلك قبل أن تعايشيه فعليا؟

ولدت في القاهرة وعائلتي هاجرت من النوبة قبل ميلادي بعقود، والدى رحمه الله أتى صغيرا إلى القاهرة في ثلاثينات القرن الماضي، ووالدتى ولدت في المنيا، وصرت أنا ابنة القاهرة ذات الأصول النوبية، الإبنة المخلصة لمدينة تشعر فيها بالاغتراب، ولم تقترب من أصولها إلا من خلال الآخرين، ظلت هناك نوبتان في خيالي: الأولى هى النوبة القديمة التي قرأت عنها في رواية الشمندورة لمحمد خليل قاسم وأنا طفلة وسمعت حكايات عنها من أبي، حيث النيل والنخيل والغناء، وقريتي التي تحمل اسما ملهمًا “الجنينة والشباك” وأساطير إحدى عماتي الراحلات عن جدي الأكبر، وجدي عثمان قريب أبي رحمه الله ، الذي كتبت عنه أول قصة صحفية في حياتي في جريدة عائلية، والذي وصل إلى عمر 99 عاما آنذاك، عالم أسطوري درامي من الدرجة الأولى، كتبت عنه قصة قصيرة واحدة وأنا طفلة ربما في الثانية عشر من عمرى تحت عنوان “العودة” تحمل هموم التهجير بخيال طفلة، ونوبة أخرى هى النوبة الجديدة التي لم ازرها سوى منذ عدة أعوام لأول مرة، نوبة تحمل مرارة ووجع، ليس بها نيل ولا نخيل، فهى في منطقة صحراوية، كنت في طفولتي أنفر من تلك النوبة وأراها بصورة مسخ خالى من الجمال، كنت أقارن بين صوت التار الآسر وصوت الأورج الذي كان يستخدم في الأفراح والحفلات النوبية وأنا طفلة وأجد فرق شاسع بين صوت يؤثر في أعماقي ويخلق صور وبين صوت مزعج بالنسبة لى، وكان هذا هو الممثل التقليدي بين النوبة القديمة والجديدة في طفولتي حتى زيارتي التى تمت منذ عدة سنوات واكتشفت فيها نوبة ثالثة، بالطبع القرية لا علاقة لها باسمها ولا بذكريات الراحلين عنها ولا يمر بها النيل لكنها أيضًا ليست صورة المسخ كما كنت أراه في طفولتي، مازالت حية ببشر يعيشون ويعانون، كنت ألتقط الجمال من قلب تلك المعاناة وأصر على تصوير أى بيت مازالت به زخارف، في الحقيقة كنت بعين مستشرقة أبحث عن خيال الطفولة, عن النوبة القديمة.

·        هل تجلى تفاعلك المباشر مع المكان في إبداعك بعد زيارتك للنوبة.. وهل قصدت إقصاء التناول المتعجل لهذا الموضوع في مجموعتك الأخيرة رغم أنك تقريبا كتبتيها في الفترة نفسها؟

لا, لم يؤثر على مجموعتي الأخيرة فنصوص “في بيت مصاص دماء” كتبت على مدى سنوات لكنى عملت عليها في فترة واحدة، زيارتى في الأساس كانت من أجل رواية أحضر لها عن قريتي، تحديدا عن جدي الأكبر “كرم باش” الذي لا يوجد أى تأكيد لوجوده فهو ليس موجودا في أسماء العائلة التي تحمل اسم جاسر، ورحلة بحثي عنه تميل إلى أنه شخصية أسطورية صنعها العقل الجمعي، وهى شخصية شيقة وتستحق المزيد من البحث والكتابة، واعتقد أن هذا المشروع سيكون محوريا في إبداعي

 

 

·        لماذا اخترت لمعظم شخصيات “في بيت مصاص دماء” الانطلاق من منطقة في منتصف الطريق بين الوعي واللاوعي يؤهلهم لها  دواء الحساسية/  مشروب غريب/ ضربة شمس… ؟

اخترت نصوص ذات روح واحدة أو خط واحد ولاحظت وجود أكثر من نص في تلك المنطقة الغيبوبية أو منطقة الأحلام، والفانتازيا تخلقها الحالة أو طبيعة الشخصيات التي تلقى للواقع وتواجه موقفا استثنائيا، وأعتقد أنها حالة تشبه واقعنا كثيرا، ومعادلا منطقيا له حتى وإن بدت غرائبية.

·         طيف ثورة 25 يناير يومض خافتا في البداية لكنه سرعان ما يتجلى شيئا فشيئا بعد صراع ومحاولة لدفنه في ذاكرة مشبعة بالانكسارات والأحلام الضائعة؛ يتسلل بشكل غير مباشر- ربما ضد إرادتك- بين سطور “في بيت مصاص دماء”.. هل تحولت ثورة يناير التي عشت أجواءها عن قرب إلى ذكرى مؤلمة تسعين لإخفائها في ركن قصي من الذاكرة ..ولماذا لم تفكري في توثيق تجربتك بالكتابة المباشرة عنها؟

لست مؤرخة بل أنا قاصة وروائية، وتجربتي ستتجلى بالتأكيد في أعمالي، ربما بشكل غير مباشر قد ظهرت بين سطور في بيت مصاص دماء، وربما تتجلى أكثر في أعمال قادمة، لكنى لن أقحمها على إبداعي، سأتركها تختمر وتنضج بداخلي أكثر، لان ما عشناه أكبر من قدرة أي شخص على الفهم الكامل، والكتابة وسيلة للفهم، لكن الرواية تحديدا تحتاج إلى درجة من الوعي ربما لم يصل إليها أحد فيما يتعلق بالثورة، فنحن الذين عشنا تفاصيلها وكنا جزءا منها لن نستطيع الوصول للوعي إلا بالبعد مسافة عن الأحداث وتوابعها، والنظر من بعيد يجعل الرؤية أكثر شمولا، من التورط مع المشهد كليا.

·        خيط آخر يربط بين شخصيات المجموعة يتجلى في البحث عن “خلاص” سواء بالموت/ الانتحار/ الوحدة /الانعزال, وهي الفكرة نفسها التي تشغلك منذ مجموعتك الأولى “معراج” وأفصحت عنها أكثر في روايتك “محلك سر” حين عبرت لمى عن أمنيتها : أحب لما أكبر أطلع مجنونة”.. كيف تطرحين هذه الأفكار الصادمة بشكل يتفاعل معه القارئ ؟

في رواية “محلك سر” كان الجنون خط أساسي تتبعت تجلياته عبر فصول العمل؛ بدأت ب”سيد” المجنون في الفصل الأول وانتهيت به، وطوال العمل هناك تواز مع هذه الشخصية، ومع كل ما في النص من موت وجنون كانت النهاية بها إيحاء بقدرة الانسان على تجاوز الواقع واللجوء إلى تفاصيله الصغيرة للتغلب على قدره الوجودي، في رواية “الست” هناك تجربة مبنية على الوحدة والانعزال لكن البطلة تلجأ للتفاصيل الصغيرة طوال العمل للتغلب على هواجسها، بطلة انتصرت على الوحوش وخلقت عالمها ومنحت الوحدة معنى إيجابيا، ربما هناك بعض النصوص في المجموعة الأخيرة  نهايتها “تشاؤمية” إن جاز التعبير مثل “مقعد في الأتوبيس” حيث الخلاص هو غرق الأتوبيس وصراع ركابه على الكرسي الوحيد حتى وهم جثث، لكنها نهاية كابوسية نابعة من هذيان البطل المصاب بضربة شمس وتبدو كأنها خلاص عادل لما يحياه ما بين الواقع والخيال، يمكن طرح أى أفكار صادمة ومواجهة القارىء بالواقع عبر الخيال، ولا يمكن أن ينفر القارىء من نص يحترم عقله ومشاعره.

روح القصة القصيرة حاضرة دوما في إبداعك حتى عندما قمت بكتابة الرواية ..إلى أي حد تعد تلك السمة ميزة وهل ترين لها توابع سلبية؟

لا أعرف لكن رهاني الدائم على التكثيف والاختزال في القصة، وذائقتي لا تجنح نحو الإطالة وتكرار الافكار في الرواية، وأحترم الأفكار التي تبقى بين السطور ليقتنصها القارىء، ولكن لا يمكنني توقع قناعاتي في تجاربي القادمة، فكل تجربة تحمل عناصرها الخاصة.

في روايتك الجديدة “الست” الصادرة مؤخرا عن “دار العين”  تقدمين تجربة مختلفة تركن اكثر للواقع على حساب الفانتازيا ولايغيب فيها الحوار الداخلي لكنه لايختطف شخصيات الرواية ولايعزلها عن مجتمعها.. كيف ترين هذه التجربة؟

تجربة مختلفة بالتأكيد على مستويات كثيرة، ربما ترتكن على الواقع لكنها لا تخلو من الخيال والفانتازيا الداخلية، فشخصية الوحش الذي هادنته البطلة، وأساطيرها عن نفسها، وعلاقتها بالكائنات من حولها، لا تخلو من خيال يستند أحيانا على السخرية والمفارقة وأحيانا على الأساطير الشخصية، والحوار الداخلي هو الطريقة الوحيدة التي يمكن أن استخدمها في رواية بطلتها كاتبة تعيش بمفردها، فهى لا تحتاج راوى يحكى عنها، بل يمكنها الحكى عن نفسها وعن تجربتها وصراعاتها واكتشافها للحياة من جديد، أحب هذا النص لجدته واختلافه عن أسلوبي لكنه تكملة لمشروعي على مستوى الأفكار، وأعتقد أنه سيكون نهاية لمرحلة، كما ستكون روايتي التي أعمل عليها الآن بعنوان مؤقت “تماثيل الجان” بداية مرحلة جديدة.

“صوت أم كلثوم” حاضر بقوة في خلفية المشاهد الروائية في “الست” حيث تكتشفه البطلة للمرة الأولى بعد أن تستقل بحياتها بعد أن ظلت لسنوات طويلة تتجنب التقاعل معه ..لماذا لم تفسحي المجال أكثر لإبراز هذا التفاعل والاكتشاف المتأخر للصوت الساحر؟

للكتابة ميزان خاص يختلف من كاتب لآخر ومن نص لآخر، وإذا تركت نفسى لشهوة الكتابة لملأت مئات الصفحات عن علاقة البطلة بأم كلثوم لكن هذا كان سيغير من إيقاع العمل المعتمد على فصول قصيرة وتداعى أفكار وتفاصيل صغيرة تقود بعضها لبعض، ووجدت أن هذا النوع من الكتابة وفقا لذائقتي يصبح مملا وغير مشوق لو زادت مساحته عن ذلك، أو ترك الكاتب نفسه للأفكار تأخذه أبعد من إطارها، الكتابة التي تعتمد على الذات في رؤية العالم لابد أن تكون ذات إيقاع سريع وذكي في انتقالاته، وفي اختياراته للتفاصيل الصغيرة التي يصنع منها عالم البطلة، فلابد أن يستفيد من تقنيات كتابة القصة، وهذا ما فعلته في رواية “الست”.

تواجه الكاتبات على وجه الخصوص إشكالية قراءة إبداعها الأدبي بوصفه سيرة ذاتية.. إلى أي حد يقلص ذلك التعاطي التقليدي من حريتك ككاتبة؟

لم يعد يهمنى مثل هذا التعاطى، مساحة الواقع أو الخيال في أى نص أمرا قد لا يستطيع الكاتب نفسه تحديده، نحن نبنى عوالم ونسكنها بالمخلوقات، ونلعب مع ذواتنا ومع العالم، ولن يسمح أى كاتب أو كاتبة يحترم ذاته أن يتحكم أى رقيب على نصه تحت أى دعوة، كما قلت من قبل الكتابة فعل مقاومة وإذا كان قدرنا ككاتبات أن نخوض صراعات وهمية مع كائنات خرافية تريد سلبنا حقنا في التعبير، فنحن قادرات على المقاومة والدفاع عن حريتنا أمام أى دعاوى لا علاقة لها بمفهوم الابداع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بمجلة الثقافة الجديدة ـ مارس 2018

مقالات من نفس القسم