سماء محمد خير الملبَّدة بالغيوم

عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شعبان يوسف

لم تعد هجرة الشعراء من مدائنهم البسيطة وربما الصافية، إلى بلاد الرواية وتعقيداتها مسألة غريبة ومباغتة، فهذه الهجرة أصبحت شبه عادية وشبه مألوفة، ولكن المدهش والمفاجئ أن يستطيع الشاعر الذى استسثنى الشعر قليلا، أن يبدع نصا روائيا جميلا ومدهشا وقادرا على أن ينتمى إلى فن الرواية بجدارة، وهذا بالفعل ما قام به الشاعر محمد خير الذى تمرس فى أشكال عديدة من الكتابة الشعرية بالفصحى والعامية، وكذلك كتابة القصص القصيرة، والصحافة، وربما يجرب كتابة السيناريو، وفى ظنى أن كل هذه التجارب قد أفادت التجربة الروائية الجديدة التى جاءت تحت عنوان «سماء أقرب»، وصدرت مؤخرا عن دار «ميريت».

وهناك خطأ يصل إلى حد الاعتقاد، يتعلق بأن العمل الروائى الأول لا بد أن تكون به مشكلات فنية وعثرات وهكذا، ويقول النقاد عنها «مشكلات العمل الروائى الأول»، وأظن أن ذلك الاعتقاد نوع من الوهم، فنحن لدينا أكثر من حجة تنفى هذا الاعتقاد، فالكاتب جمال الغيطانى أبدع أروع أعماله فى عمله الأول، رواية «الزينى بركات» الصادرة عام 1974، وكذلك عبد الحكيم قاسم كانت روايته الأولى «أيام الإنسان السبعة» باكورة أعماله وكذلك أهمها، وغيرهما من الكتاب، لذلك فرواية «سماء أقرب» لمحمد خير تأتى دون أن يشعر قارئها أنه أمام نص روائى أول، بل بالعكس هناك خبرة عميقة واضحة بكتابة فن الرواية، وآثر الكاتب أن يكتب ما يعرف، ولم يشارك فى مظاهرات الكتابة عن الثورة ونتائجها ومصائرها وتوجهاتها وهكذا، فأبطال الرواية مجموعة من شباب يعيشون حياة تكاد تكون بوهيمية، فى ظل أوضاع اجتماعية متردية، أكرم ومازن وأسامة ولمى ونادية وحسين وعاصم، وتبدأ الرواية دفعة واحدة بمدخل كاشف للبطل الذى يقود الرواية من أولها إلى آخرها، أكرم الذى ترك عمله منذ فترة وجيزة، وينتظر نادية فى شقته، التى تعرف إليها مجددا فى أحد الكازينوهات الفندقية الكائنة بوسط البلد، وهو كازينو يقع فى الدور الأخير فى إحد الفنادق، وهناك كان يجلس أكرم، وإثر مشاجرة عبثية تعرض لها، تعرف من خلال صديق «وسيط»، إلى نادية وزوجها عاصم، وهنا تبدأ سلسلة من التداعيات والذكريات الجامعية الحميمة التى كانت تجمع نادية وأكرم، هذه الخلفية التى يجهلها عاصم الزوج وحسين الصديق، وتتجدد العلاقة بين نادية وأكرم، كأن التاريخ يعيد نفسه بشكل آخر، وفى مناخ آخر ومغاير تماما، المناخ الأول كان مدججا بقدر كبير من الحرية والمغامرة العفوية، أما المرحلة الجديدة فسماؤها ملبدة بغيوم زواج نادية وابنتها وارتباكاتها، وهناك تعقيدات مختلفة تماما تواجه أكرم الذى تعطل عن العمل لأسباب ضجره من العملاء والمدير البارد السمج، ومن ثَم فهو يبحث عن أى عمل خارج مصر، فيتصل بصديقه ياسر الذى يرد بآلية سمجة كذلك وبأنه سيحاول البحث له عن عمل فى الخليج.

على الطرف الآخر فى الرواية تدور قصة أخرى، هى قصة مازن المصور، الذى يستلهمه أكرم كشخصية روائية أساسية، وهناك علاقة عاطفية بين مازن ولمى، صاحبة محل فى الزمالك، مازن ليس عبثيا وليس بوهيميا، ولكنه شخص فنان يعيش حياته بحرية تامة، وفى يوم ما اتصل به صديقه الصحفى أسامة ليستعين به فى تصوير أحد المشاهد الانتخابية، ورغم أن الفكرة تنال قدرا من الاستهجان لديه، فهو ليس له علاقة بمثل هذه المسائل، ويؤكد الكاتب أن مازن لم ير مشهدا انتخابيا فى حياته إلا فى أوروبا حيث يذهب الناس إلى صندوق الاقتراع فى أشكال من السعادة، ورغم أن لمى تستهجن الفكرة كذلك، فإن مازن يذهب لإرضاء صديقه، وهناك عند اللجنة التى تدور فيها الانتخابات، تقوم مشادات ومعارك تشارك فيها السيوف والخرطوش والسنج، ويهرب أسامة، ولا يجد مازن مخرجا، ولم ينل من هذه التجربة إلا فقد عينه إلى الأبد، ويعيش بهذه العاهة المستديمة، ولا يستطيع أن يستعيد إيقاع شكل حياته بالطريقة السابقة، فتهرب منه لمى بعد بضعة لقاءات عابرة، وبالطبع فإن الراوى يربط بين العالمين بدربة ومهارة فائقتين، دون أن يختل طرفا الحكايتين المنفصلتين والمتشابكتين، ويحدث أن العلاقة بين أكرم ونادية تتطور، وبينها وبين زوجها عاصم كذلك، ويستخدم فى أحد الأيام سيارته لتوصيل الابنة، ويكتشف أن السيارة بها عطل ما، وبذهب إلى الميكانيكى الذى لا يقوم بإصلاح العطل تماما، وبعد ذلك يعرف بالتدريج أن عاصم مات فى حادثة السيارة المعطلة، فيظل شعور بالذنب يلاحق أكرم، ويعتقد أنه القاتل، ثم يعرف أن نادية كذلك قُتلت معه فى الحادثة نفسها مع ابنتها، فتزداد الهواجس والخيالات، ويظل الذنب يتضاعف ليضيف هموما وكوابيس جديدة لأكرم، وعلى الطرف الآخر كان أسامة الصحفى يشعر كذلك بذنب أنه هو السبب فى أن صديقه مازن فقد إحدى عينيه بسببه، وأنه هرب عند نشوب المعركة، وقرر أن يعترف لمازن، ولكنه لم يفعل.

هذه الأجواء الكابوسية التى تلاحق شخصيات الرواية من أولها إلى آخرها، تتخللها مشاهد مرح خاطفة، ومشاهد إيروتيكية منسجمة تماما مع النسيج الروائى، لا توجد أدنى افتعالات تعوق عملية السرد، رغم البنية المعقدة التى أبدعها خير فى بناء الرواية، وكان من الممكن أن يختلّ هذا البناء، لكنّ وعيا فنيا كبيرا كان يرافق السطور منذ البدء حتى النهاية، دون أى إملال، ولكن عكس ذلك هناك جرعة إمتاع عالية رغم كل هذه الأجواء الشائكة، التى تعكس مناخات اجتماعية جد مركبة ومعقدة، وهكذا فإن رواية «سماء أقرب» لمحمد خير تشارك فى إثراء المشهد الروائى المصرى باقتدار.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم