سرب حمام وأزرق لا نهائي.. قراءة في “شجرة جافة للصلب”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عزة بدر

"شجرة جافة للصلب" مجموعة قصصية لهاني عبد المريد تلتقط لحظات ومواقف إنسانية يتجلى فيها فن القصة القصيرة كما ينبغي أن يكون، إضاءة للتجربة الإنسانية وإعلاء من قدرة الفرد على مواجهة واقعه ومجتمعه مما يضفي على هذه المجموعة – بما كثفته من معان ومن خلال سرد ناعم وأحيانًا يبدو متوحشًا – طابعًا إنسانيًا وجماليًا مميزًا.

* الواقف فوق لغم:

هذا السرد الواقف فوق لغم هو إنجاز هذه المجموعة، خطأ بشري يؤدي إلى مأساة، أو كما يقول القاص: “خطوة واحدة غير واعية حرمته من الحلم الذي عاشه طوال فترة التدريب، حرمته من أن يعود إلى قريته مرفوع الرأس.. خطوة واحدة وكانت النتيجة أنه يقف الآن فوق لغم”.

ويضعنا القاص أمام هذه اللحظة الموت والحياة، هذه اللحظة ألم النهاية المتوقع ومع ذلك يتجلى لأجمل ما في النفس البشرية من معان، فيقول القاص واصفًا الواقف فوق اللغم: “يتمنى ألا يعلم العدو بموته، حتى لا يتخذوا الحيطة ضد من يأتي بعده، يتمنى أن تعلم أمه أن أحدًا لم يقتله في مواجهة، بل هو مجرد لغم مدفون في الرمال، لغم مدسوس في جبن ينتظر قتيله، يتمنى أن يهمس لحبيبته “أحبك”، أن يقبل كل أهل قريته، ويكمل قراءة ذلك الكتاب الذي تركه مفتوحًا فوق صدر المكتب”.

عبارات دالة متلاحقة تؤكد نبل هذا الإنسان الذي يوشك على الموت مفعمًا بحب الآخرين “حتى لا يتخذوا الحيطة ضد من يأتي بعده” يتمنى “أن يهمس لحبيبته أحبك”، “أن يقبل كل أهل القرية”.. ثم ينتج عن كل هذا الحب للآخرين  شوق حقيقي للعودة إلى الحياة “يكمل قراءة ذلك الكتاب الذي تركه مفتوحًا فوق صدر المكتب”. وكأن الإنسان لا يدرك جمال الحياة إلا في لحظة الموت، ومن هذه اللحظة المفعمة يعتريه هذا الشوق لمعانقة الأحياء والذي لا يمكنه التعبير عنه الآن إلا تجاه كائن حي، متاح في هذه الصحراء وبالقرب من اللغم.. خنفساء سوداء صغيرة.. ويأتي تعبير القاص إنسانيًا مرهفًا، إذ يتجاور  مصير فتاة الواقف على اللغم مع مصير خنفساء صغيرة سوداء، لا يبدو التشابه نابيًا ولا غريبًا بل يبدو مرتبطًا بنسيج الحياة، بالتشبث بها في شكل إنقاذ كائن حي، حتى ولو كان ذلك الكائن خنفساء.

“كان يفكر في مصير فتاته عندما لمحها.. خنفساء سوداء صغيرة، تقف تحت قدميه في ثبات.. يبتسم لها ينحني دون تردد، بحذر شديد يلتقطها.. يقذف بها بعيدًا، لمحهاتسير آمنة في اتجاه معسكره”.

وهنا من لحظة الموت توهب الحياة.. “هنا يتذكر أنه إنسان قادر على الفعل.. أنه ما زال حيًا، هو فقط في مأذق من الممكن تجاوزه”.

يفتح القاص أفقًا واسعًا لمعانقة الحياة في أشد لحظات الموت حلكة، فيضيء العتمات، ويأتلق نور مبهر، نور يؤكد قدرة الإنسان على الفعل حتى في لحظات العجز، قدرته على أن يهب الحياة حتى لو كان في لحظة التعرض للموت.

* مصالحة الذات:

ويمضي بنا القاص يلتقط لحظاته الرهيفة المكثفة، تلك التي تتجاور لنتبصر بما في أنفسنا، بما يمور داخلها من تناقضات ولكنها في النهاية تعلو وتسمو وتتسامى حتى لو كانت تلك المحاولات “سيزيفية” أو كان نصيبها من الفشل يفوق نصيبها من النجاح.

وفي المرآة يحاول المرء ان يتمم المصالحة مع ذاته ويتخذ ذلك بدرجات تتجلى فيها النفس الإنسانية في ترددها وإحجامها حتى لو كان الأمر يتعلق بمصالحة الذات، مصالحة الذات على الذات، ويأتي تكنيك القاص رشيقًا موحيًا متتابعًا في عبارات مكثفة تصور محاولة الإنسان في مصالحة ذاته على ذاته، وكل ذلك في المرآة، “تجنبت النظر إليها، محاولًا إقناع نفسي بأن الذي ترتسم صورته على سطح المرآة هو أنا “الآن”.. أحاول أن أتقبلني هكذا.. أحاول أن أتصالح معي.. أغمض عيني.. اقترب من المرآة محاولًا تقبيلي.. أتردد.. أبتعد.. أفتح عيني”.

كل هذه المحاولات التي تعتمد على الفعل (أغمض، اقترب، أتردد، أبتعد، أفتح) قد تتبدد في لحظة، “أجد زفيري وقد غطى سطح المرآة، وطمس كل الملامح”، يحمل القاص صخرة سيزيف التي تسقط عن كاهله ليلتقطها من جديد في محاولات متتابعة لإحياء قدرة الإنسان على الفعل، متخذًا من أبسط المواقف نسيجًا كثيفًا تتواشج فيه أسباب القدرة والعجز معًا.. حيث يتبدى الإنسان هذا الجبل الشامخ وهذه الوهدة المحفورة تحت الأقدام، الإنسان في مواجهة العالم، ويا لها من لحظات تتجلى فيها هذه القصص المصير..
“دقائق تبقى على الدخول في الألفية الجديدة، وكثير من الديون والضغوط والمشاكل الشخصية والاشكاليات العامة، ولا يهمني سوى شيء واحد أن أكون أول من يكتب قصة فيها”

وهنا الكتابة فعل، أو قدرة عليه، أمانة ومسئولية وتحقيق للذات المسئولة فيقف القاص عند هذه اللحظة الحاسمة لتحقيق الذات، ورغم فشل المحاولة إلا أن القصة المعنونة باسم “محاولة للسبق” يكفيها شرف المحاولة.. حيث يبدو ذلك سبقًا حقيقيًا لإنسان تهزمه الظروف وتضغط عليه الأحداث، تتابع المحاولة وترتفع صخرة سيزيف، ونترقب لحظة الأمل..

“تدق الساعة الثانية عشرة، أمسك بالقلم، أضعه في بداية الصفحة.. تتزاحم همومي.. تقيد عقلي.. تعطل حواسي.. لا أستطيع أن أكتب كلمة واحدة”.

تسقط صخرة سيزيف ليحملها القاص ثانية من النسيج المعتم إلى النجاة، ومن هذه القصص التي تنفرج فيها حلقات القص ويتسع السرد ليسع أحلامًا وحيوات ونجاة، قصة تحمل سم “نجاة” من خلال سرد طفل يستعيد حكايات والدته، حكايات “أبو زيد”.. الشاطر حسن، والحمال البسيط وحورياته… والملمح الأساسي لهذه القصص هو خروج البطل المأزوم آمنا معافى، حتى في أشد لحظات الخطر، فيتوحد الطفل مع شخصيات الحكايا.. “تحكي.. ينتظر نهايته.. يسحقه الخوف.. يسحقه الشعور بالزوال.. في أخر الليل كان يفاجأ بها وقد أهدته النجاة”.

* جمال متنوع:

ويتنوع عالم هذه المجموعة القصصية فيشتمل على أفكار جد خصبة، ولحظات محتدمة يتأملها المء فإذا بها غاية في التعقيد والبساطة معًا ومنها قصته: “إنحناءة السيد الجديد” وفيها يصف الممثلين في إحدى المسرحيات وقد اصابهم الملل، حيث تكون المسرحية هى بالفعل “بروفة حياة” أو حياة، فالسيد قد ضاق بدور السيد، والخادم ضاق بدور الخادم، فيقدم المخرج حلًا لذلك، يقوم على أساس تبادل الأدوار، ولكن جمال هذه القصة وهذه اللقطة الملولة ينتهي إلى نتيجة جد ملفتة تؤكد ما تدركه الطبيعة الإنسانية بالخبرة والتجربة، وهو أن الإنسان لا يستطيع أن يلعب إلا ما اعتاد عليه من أدوار.. وهنا يسوق القاص هذه الخبره الإنسانية التي نعرفها وندركها، وربما قد نحاول أن نغيرها، ولكن التعود عليها واتقانها، وما تتمتع به نفس الفرد من ميزات ومن مثالب وإيجابيات ربما تستعصي على التغيير، تفرض على الطبيعة الإنسانية مواقفها، وفي حوار مكثف وعبارات رشيقة يضع القاص خاتمة ساخرة لمسرحية لم يستمر تبادل الأدوار فيها إلا لحظات، ينطق السيد بارتباك وفي إنحناء ملحوظ –لأنه بالطبع كان يمثل دور الخادم-:

– هل سيادتك أطعمت الخيل وأسرجتها؟

يجيب الخادم الجديد بكل عجرفة:

– بالطبع أيها المغفل.

* بناء الصورة القصصية:

وبصريًا يتعامل القاص مع بعض قصصه فتتراكم العبارات في فضاء السرد منقوشة بالخصب، مترعة بماء البساطة من خلال تصدير لحظات منتقاه قد تعود إلى الطفولة أو سن اليفاعة، أو عند التعرض لمواقف ضاغطة مأزومة، ويتجلى هذا البناء المتعلق بالصورة وتناميهافي قصصه “عود الصبار”، “أزرق لا نهائي”.

ففي القصة الولى يرسم القاص صورة لشاب يواجه العالم بفصال مبكرورضاع لم يتم على النحو المطلوب من الري، فأحال حياته إلى صابٍ وعلقم، وتتابع الصور في هذه القصة كالتالي:

“السقف يقطر مرًا.. الأرض.. الألسنة.. العيون تنز مرًا.. المر بحر يهدر في الحجرات، يحدث مدًا حتى الدرج، يملأ شوارع الحي.. يجتاح إعصار المر كل المدينة، لم أعد أرغب سوى في العودة سالمًا إلى حجرتي.. رائحة المر غدت أكثر وحشية، لها مخالب تجرح أنفي، تمزق قصبتي الهوائية، تملأ صدري..”. ثم يحفر القاص فيصل إلى العمق.. إلى هذه اللحظة المرة التي أحالت الحياة إلى عود صبار.

“الجوع يأكل أحشائي، أصرخ، تفك أزرار جلبابها، تخرج ثديها الممصوص، تدعك عود الصبار الأخضر في طرف الحلمة.. معدتي تتمزق، أصرخ، تعرضع عليّ.. أذوق مرارته.. أصرخ، تعرضه مرة أخرى.. الجوع يمزقني.. أزهد”.

أما في قصة “أزرق لا نهائي” فيتبدى القاص فنانًا تشكيليًا هذه المرة يرسم لوحة فيختار تفاصيلها بكل دقة، بعد أن صوب الفرشاة إلى بؤرة اللوحة أو اللحظة الأزمة، الفنان عندما يجبر على رسم ما لا يريد..

“لا ترهقها، لا تطل في الجلسة، لا تتفوه بكلمة حتى لا تعكر رائحة الهواء”.

“لم تستقبلني.. اصطحبني رئيس الخدم إلى حيث جلستها المفضلة، بعد أن خلعت نعلي، وأخفوا أطماري تحت جلباب حريري جديد معطر”.

ثم يحاصر الفنان الذي يلتقط تفاصيل الوجه المفروضة عليه، واللوحة التي لا بد له أن يرسمها..

“كانت جالسة في الشرفة، ترتدي غلالة شفافة بيضاء، على كتفها شال حريري بلون فص الفيروز بقرطها.. ظللت أرتجف في مكاني حتى أشارت بطرف عينها إلى الكرسي المعد أمام اللوحة البيضاء الفارغة”.

وهنا تنبلج الرؤية، وتتمرد نفس الفنان على واقعه رافضًا أزمته..

“ظللت أحاول النظر إلى وجهها، أحاول ترويض فرشاتي، مرت ساعات، فوجئت باللوحة زرقاء.. تلك الزرقة اللانهائية، التي يغوص فيها سرب حمام”.

سرب حمام ينفلت إلى أفق الزرقة.. لتنفتح بهذه القصص زوايا كانت معتمة فصارت نورًا.. وحلقات لم تكن لتنفرج.. استحكمت ولما ضاقت اتسعت الرؤية، دون أن تضيق العبارة ودون أن تنحسر الصورة.

…………………………….

نشرت في مجلة الثقافة الجديدة فبراير 2006

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم