حشرجة الترائب

قيس عمر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قيس عمر

  قرأ المعلم أسماء الطلاب الثلاثية وحين وصل إلى اسمي الثلاثي  لم أشعر باسم أبي أو جدي، إنما شعرت بانبعاج عميق في جسدي وروحي وشعرت أنّي اسقط واهوي في ذلك الانبعاج السحيق، تلك كانت هي الأيام الأولى لي وأنا أدشن معنى أن تكون دون أب يحرس ذكرياتك وأنت تكبر أمامه ويمد اخضراره حولك، كنت أتخيل بقية الطلاب وأحاول أن أتخيل استشعارهم لأسمائهم الثلاثية وهم يتلمظون  بحرارة الأسماء حين ينطقها المعلم وهي خالية من أي انبعاج.أنا الوحيد في الصف كنت عبارة عن اسم يتبعه انبعاج ثم تيبس في الحلق.

 شغوفاً كنت بالتفتيش عن العطر الذي يخلفه الموت بعد رحيله.. شغوفاً بالتفاصيل التي ترتعش بحضرتها الأفواه ويرتعش لها جُلاس الموت، أبحث بإصرار كبير عن أي أثر يخلفه الموت بعد أن يستل روح الإنسان. كنت مولعا باكتشاف تلك الرائحة العصية وتصورت دوما انه يترك خلفه أثرا هو اقرب لعطر الأرحام المغسولة بمياه أبنوسية، وأتخيل نفسي بعد أن تغادر الروح الجثة حاضراً أفتشُ عن الرائحة الأبنوسية الغاطسة، وكلما تواجدت قرب جثة أحاول تتبع خطواته من باب البيت مرورا بحوش الدار ثم إلى الغرفة وتنتهي الرحلة في فراش الجثة، أحببت أن أرسم مساراته التي سار فيها وأتتبع وقع خطواته هل كانت ثقيلة أم خفيفة؟ كنت أستحضر بكل عمق التفاصيل التي يمكن له أن يخلفها بعد رحيله.

كانت أغلب الجثث التي رأيتها موشحة باللون الأصفر وشخصت عيونها إلى  الأعلى بشكل عنيف وبعض الجثث كانت وجوهها مرتخية ومتهدلة كأنها تطوي حقيبة سفر طويل، بعض الجثث كانت تشير بيدها لشيء رحل قبل أن يبصره أحد ما وكنت أسأل من حضر لحظة الموت ماذا سمعتم؟ والكل يقول إنه سمع شخيراً عالياً ثم ينطفئ الجسد تماما؛ لكن البعض منهم قال إن الشخص الذي مات قال في آخر دقيقة إنه يشعر بقوة الضوء وحِدةِ الأشعة الداخلة للعين وكأن عيونهم تتشقق وتتفتح على ألوان وتخوم أبعادها بلورية تنكسر فيها الأشعة والمرئيات، وبعضهم قال إنه يشعر ببصره صار حادا وقويا بشكل غريب إذ إنه يستطيع رؤية مسافات لا يمكن للعقل إدراكها، هكذا كان الموت يترك هذه العلامات ويرحل وترحل معه تلك الخفة الغريبة التي كانت تحرك هذا الجسد.

كانت هذه هوايتي السرية التي شغفت بها، ولا تزال تلك هي رغبتي السحيقة التي أورثتني الكثير من الخوف والندم، ليالٍ كثيرة لم استطع النوم فيها من رعب هذا الزائر، أحيانا أحسد الميت؛ لأنه اختبر تلك اللحظة وانتهت ولن تتكرر معه من جديد، وأحياناً أقول من الجيد أني لم أكن ذلك الشخص،هكذا أفكار أورثتني وجعا سحق وجودي، وأرقا مزمنا في البحث عن علامات الموت والآثار التي يمكن له أن يتركها كنت أعرف أنه يترك لي رسائل سرية احتاج إلى اكتشافها وأنّي احتاج  إلى لمثابرة والكد للوصول إليها وفك رموزها اللائذة بالصمت

 ****  

لم أكن أصدق يوما أني سأكون حارساً للموتى وأنا في العشرين من عمري. حدث هذا بعد كوارث أصابت المدينة، ونجحت في الحصول على هذا العمل بعد جهد كبير ولم أكن أعرف هل القدر هو الذي ساق إلي هذه المهمة التي تتناغم مع شغفي في اكتشاف عطر الموت؟ أم هو القدر والحاجة الملحة للعمل ؟                    

من الجهة الشرقية للمقبرة يقبع مخفر الحراس، وهو عبارة عن غرفة صغيرة لا يتجاوز عمقها المترين وكذلك عرضها أيضا، كان على القادم إليها أن يصعد ثلاث درجات حجرية متآكلة ثم يشخص الباب الخشبي العتيق أمامه وقد نخرته الثقوب وتعلق في وسطه قفل قديم مثل تميمة نهشتها الفصول بتعاقبها الرتيب. 

كانت المقبرة صغيرة في الخمسينيات ثم توسعت قليلا في الستينيات والسبعينيات ثم أخذت تبتلع الأراضي بكل شراهة وتتوسع في الثمانينيات وما بعدها حتى استشعرت البلدية هذا الخطر الكبير وعملت على تطويق ورسم حدودها فصارت تطل على خمسة أحياء كبيرة تطل عليها بكل فداحة من جميع الجهات أنى أشحت ببصرك تجد حدودها تمتد وتحاول الالتصاق بحدود الأحياء المجاورة لها.

كان أول يوم لي فيها يوماً نيسانياً جميلاً. وصلت إلى المقبرة ووجدت أحد موظفي البلدية بانتظاري ليسلمني مخفر الحراسة ومفتاح المقبرة مع بعض التعليمات بضرورة القيام ببعض الجولات داخل المقبرة لحماية الراقدين وطرد العابثين والداخلين إليها من الحدود الشمالية والجنوبية؛ لأن السياج الخاص بها صار مهدما بفعل الزمن والسرقة وصارت القبور تبدو مسفوحة من بعيد ودون حدود، سلمني الموظف التعليمات ورحل  وبقيت لوحدي وجها لوجه جلست أمام باب المخفر الخاص بالحراس وكنت أطلق بصري في الشواهد المترامية  كانت تبدو مثل الخرائب الصغيرة وحين تحدق فيها بتركيز تشاهد حجارة مبعثرة و كثبانا صغيرة من الرمال تنهشها الريح وبعض الأشجار والأقفاص الحديدية التي تحمي بعض القبور وتلمح هنا أو هناك بعض الزوار ينحدرون بين تلالها وشوارعها المتكسرة والترابية. لم أشعر كم بقيت أحدق بتلك الجلسة الأولى، كنت مثل من يروي عطش السؤال الذي بقي يلازمني طيلة حياتي. نهضت وأدرت المفتاح في القفل، دفعت الباب فأرسل الباب صريرا شعرت انه يندس في تلك الأعماق الساكنة ويخترقها، شعرت أن صوت الصرير يغسل لحظات العزلة التي أحاطت بالحراس الذين سبقوني إلى هنا، ثم أولجت روحي في المكان عبر خطواتي.

كان الغبار يغطي المكتب الحديدي الصغير الذي يتوسط المخفر وفوقه ثمة سجل كبير كتب عليه بخط  عصبي سجل الموتى المجهولين وأرقامهم  وفي وسط السجل قلم جاف، شرعت بإشعال الضوء و مسح الغبار ودفعت السجل جانبا مسحت الكرسي الخشبي، وحين جلست عليه وجدت أن المكتب يحتوي على جرار واحد فتحته فوجدت سجلا ثانيا كتب عليه “روزنامة حارس الموتى” أغلقت الجرار ورحت أنظر من الشباك ليمين المخفر فوجدت جدرا يرتفع إلى مترين ثم يهبط الطول تدريجيا ليصل إلى متر عبارة عن سياج وعلى واجهة الجدار لافتة خشبية كتب عليها مقبرة الحراس، في داخل هذه الأرض المسيجة ثمة ثلاثة قبور متجاورة بشكل أفقي وتتوسط الأرض المسيجة تماما وفي أعلى القبور حديقة صغيرة مزروعة بالبيبون تمتد على طول القبور وفي وسطها  لافتة كتب عليها “حديقة حارس الوجوه” وعن يمين القبور الثلاثة حديقة تمتد على طول القبور زرع فيها زهور نادرة اسمها أزهار الوهن وفي وسطها لافتة خشبية كتب عليها “حديقة حارس الأسماء” وعند أسفل القبور تمتد غابة صغيرة من نبات الآس وعلق عليها لافتة كتب عليها “حديقة حارس الانبعاج”.

تأملت هذه القبور الثلاثة كيف رصفت بدقة متساوية  في الطول والعرض وعليها شواهد  حجرية نقشت بنفس الخط واللون. كانت معزولة تماما وحين تخترقها عيناك تحس أنك تُخوّضُ روحك في مياه كثيفة وتحس أّنك تنحدر نحو أفول واسع، يتيح  لك رصد عالم من العزلة وتتلقف روحك أبواب ترتج خلفك بخفة ماهرة، وينطلق لسانك فيها على الداخل ولا تمتلك إلا أن تبكي وتغسل الظمأ الوحشي العاصف بك.

انتظرت بشغف وفضول أن تفرغ المقبرة من مرتاديها وزوارها لأفتح روزنامة الموتى كنت اشعر أني مثل صبي يدخل غابة من الألعاب وتتاح له كل الأمنيات.فتحت الباب ودخلت ثم رتجته خلفي بعد أن تأكدت من أن المقبرة الآن خالية تماما إلا مني فتحت الدرج وأخرجت سجل روزنامة الموتى وضعته أمامي وجلست.

كان السجل مقسما إلى ثلاثة أقسام وقد طويت أوراق على شكل مثلث لتكون فاصلة سميكة بين كل فصل وآخر في الورقة الأولى كتب بخط كبير نسبياً “مدونة حارس الوجوه في مقبرة التلفزيون من يوم السبت الموافق 5/4 /1940وحتى ينكسر وجهي“.

 في الصفحة الثانية كتب في الأعلى اقتباسات روزنامة الوجوه يقال إنه في يوم ما:

حفر فِي مَوضِع بِالْيمن فَوجدَ فِيهِ سريرين مضبَّبين بِالذَّهَب عَلَيْهِمَا امْرَأَتَانِ فِي حُلَل منسوجة بِالذَّهَب عِنْد رَأس إِحْدَاهمَا لوح مَكْتُوب: أَنا حُبَّى بنت تُبَّع القَيْل إِذْ لَا قيل إِلَّا الله، مُتنا فِي زمَان هَيْدٍ، مَاتَ فِيهِ اثْنَا عشرَ ألف فلجأنا إلى هَذَا الشِّعب أَن يجيرَنا من الْمَوْت فَلم يُجِرْنا”.

                                                                             ((الكلبي))

 

  في الصفحة الثانية كتب عنوان بخط كبير “مقاطع منهوشة”

 “النهش الأول من عام1940”

حين تسلمت في صيف عام 1940 مهمة حراسة أرض شاسعة يطوقها سياج رمادي كئيب قيل لي ستحرس بستانا كبيرا؛ لكنه لم يزرعْ بعد وعليك أن تزرعه بثمار خبيئة أحيانا وعلنية أحيانا أخرى، أسمها ثمار الأدمة، بقيت طوال أيام أحرس العزلة والهواء والتراب والريح أو بالأحرى، كنت أحرس تلك الكلمات التي قيلت لي أن أحرس ثمار الأدمة التي ستنمو بين لحظة وأخرى بين جنبات هذا السياج الرمادي العاصف بالفراغ والصيف والليل.

 “النهش الثاني  من عام 1950”

جالسا على تلك الدرجات الحجرية أنتظر الثمار الخبيئة أن تنمو وإذا بسيارة دخلت  تحمل فوقها تابوتا خشبيا تدخل من البوابة  وبقيت تسير حتى توقفت عند نهاية السياج من الجهة اليسرى وترجل منها ثلاثة رجال ببذلات رسمية وسجلات وأوراق رسمية يتطاير منها عطر الحبر الرسمي. انطلقت خلفهم وحين وصلت إليهم كانوا يُنزِلونَ التابوت على الأرض تقدم إلي أحدهم وسلمني ورقة من بلدية الموصل، تطلب مني السماح بدفن الجثة في الأرض التي سميت بين قوسين (مقبرة التلفزيون). إذن كانت هذه الثمار الخبيئة هي الجثث التي ينهشها الوجود ويتركها نهبا لنهايات مشرعة للخوف والعطش والبرد.ثم وصلت جوقة من العمال وشرعوا بحفر قبر، وفُتح صندوق السيارة وأنزِلت منه لافتة حديدية كتب عليها مدفن حكومي خاص بدار العجزة  تم تثبيتها في الأرض ثم قاموا بحساب مساحة من الأرض وحددوها بأحجار رصفت بعناية،وطلب مني التوقيع على ورقة المَسّاح الذي كان مع الرجال الثلاثة ووقعت بشكل عاجل على الورقة بعد أن تم إكمال مراسم الدفن انطلقت السيارة وغادرت جوقة العمال وبقيت لوحديّ أمام القبر واللافتة الحديدية.

“النهش الثالث والأخير لعام 1960”

سنوات كثيرة مرت وأنا احرس وأراقب الثمار الخبيئة سنوات جافة عبرت فوقي وتجاوزتني شاهدت فيها السياج الرمادي يسقط ويتعرض للتحطيم والسرقة..سنوات مرت شاهدت فيها جنرالات الحروب المبعوجة والمتعاقبة يوسدون في صدوع  الأرض بصمت، أبصرت أفرادا صعاليك يدفنون وتبقى أحلامهم تحلق فوق شواهد قبورهم وتقبرُ معهم ليالي البرد والكلمات المعقوفة وأصوات الأنهر البعيدة،كانت هناك قبور كثيرة في كل ليلة تشتعل بالوجوه وكأن السماء تمطر وجوها تهبط على شواهد القبور وتأخذ بسرد حكايات الزوجات والأولاد والقتلة الكبار والرصاص- الهاطل من كل الجهات – والضجر والحروب المتواصلة لهذه الثمار الخبيئة، شاهدت كيف ينسحب آخر المودعين من القبر وكيف ينسحب الكلام ثم تطوق القبور بالتراب والأشواك والأحلام والأمنيات الكبرى. أبصرت كيف تغسل الأمطار آثار وجوه الزائرين للقبور كل يوم.

انتهت الصفحة بهذا المقطع الختامي وظهرت الورقة الفاصلة على شكل مثلث بقوة وكتب عليها “مدونة حارس الأسماء” فضلّت أن اقرأ مدونة حارس الأسماء في وقت لاحق أغلقت الروزنامة ورجعت لتفاصيل المخفر كان الليل قد انتصف نهضت متثاقلا من الكرسي وشعرت أني أعبر قنطرة من الوجوه المرصوفة على رخام موصلي صقيل كانت غابة من الوجوه الحجرية  تحتشد عليها، لا أعرف لماذا استدعت ذاكرتي في تلك اللحظات صور القابلات وهن يسّحبن الأطفال ساعة الولادة، ثم ارتفع من حولي صوت بكاء جماعي، بقي يرتفع في رأسي، حاولت إبعاد غابة الوجوه عن مخيلتي لكنها صارت أكثر حضورا وتجسيما، وبقيت صور القابلات وهن ينفضن أيديهن من الماء الساخن، كانت أسماؤهم تحلق في تلك الغرف الليلية التي تتم فيها الولادة..أسماء تتطاير يمينا ويسارا ودعوات وتراتيل متلاحقة وبكاء مخنوق،وألم عميق يوغل في تلك الأجساد الصغيرة الطرية كانت تلك الصور ترتسم في مخيلتي مع تنويمات تتسرب لأذان الأطفال الجدد لتخرق صمت الليالي الطويلة التي تغوص فيها القابلات، بقيت صور القابلات تتناوب في مخيلتي وهن يغرقن في بحر من الوجوه والأسماء كانت أسماء الأطفال تصعد وتنزل بمخيلتي مع صور وأصوات البكاء الأول كأنه ينفض عنه العزلة ويخترق حيزا يجربه بالصوت.

حاولت سحب راسي من ذلك الطقس لكن دون جدوى، شعرت أني أغرق في مياه الأجساد والأسماء والأصوات الأولى.

 لا اعرف كم مضى علي بالضبط حين قرأت روزنامة الموتى. شهور كثيرة مرت حين قرأت “مدونة حارس الوجوه”

ترددت في إكمال قراءة روزنامة الموتى لكن فضولي سحبني من جديد وسار بي حتى أجلسني إليها في المساء وبعد أن غادر الزوار وأغلقت البوابة الحديدية ودخلت للمخفر وفتحت الدرج الحديدي وأخرجت الروزنامة وفتحتها على الجزء الثاني الخاص “بمدونة حارس الأسماء”  في أول ورقة كتب بخط كبير نسبيا في وسط الصفحة 

                    (اقتباسات هاربة من أفواه الأنهار)          

“وَرُوِيَ أنكَ رأيتَ الموت وكانَ عليه  من جلودِ الموتى ثوبُ كَمِثلِ زَرَدٍ هائلٍ وفي كتِفهِ سٌبحةٌ عظيمةٌ مِن جماجمَ كَمِثلِ الحصى وحولَ خصرهِ حزامُ فيه سبعون سلاحاً\ وفوقَ رأسهِ خوذةٌ كأنّهاالأرضٌ فيها ريشةٌ سوداءٌ وكان يلفّهٌ ضبابُ أبيضُ مُسوَدّ، مُصفَرٌّ ومٌحمَر تَتَمرأى فيه أطيافٌ لا عَدَّ لها”                                

                                                                           رعد فاضل

  وفي الصفحة الثانية وفي وسطها كتب عنوان صغير

   “الاسم الأول لعام 1970”

تسلمت عملي الجديد بعد وفاة الحارس الأول للمقبرة وعرفت أني الحارس الثاني لهذه المقبرة المترامية الأطراف حدث هذا في عام 1970 بعد أن تسلمت العهدة من الموظف الحكومي الذي غادرني بسرعة، حينهابقيت لوحدي ثم دخلت مخفر الحراسة واكتشفت وجود روزنامة الموتى في الدٌرج الحديدي وقررت أن أدون فيها بعض الملاحظ الخاصة بي كحارس للأسماء.

كنت قبل التحاقي بهذا العمل أحدق في الوجوه وكنت إلى عهد قريب جدا أتخيل الناس مجرد وجوه…وجوه عابرة ليلاً نهاراً..وجوه قشرية لملوك وغزاة كنت اقَسِمُ الوجوه إلى قسمين، وجوه للملوك وجوه للغزاة، وجوه الملوك تكون صاحبة خطوات حجرية ثقيلة ودموية ومحشوة بالخراب والتقاطعات الحادة وكنت أتصور أن الملوك إذا ابتسموا ستنكسر وجوههم حتما، أما وجوه الغزاة فكانت وجوها قشرية متكلسة؛ لكنها تمتلك القدرة على الابتسام دون أن تنكسر، وأما من هو خارج تصنيف الملوك والغزاة فقد تخيلتُهم يركضون حفاة نحو غرفة فيها وجوه  قديمة محتشدة ومرصوفة بشكل دائري ثم تتحلل وجوههم فيها بمجرد دخولها لتتحول  إلى أخاديد دائرية تنسكب منها نقوش ترتسم على الأرض.

“الاسم الثاني لعام 1980”

 في العشرية الثانية لي في حراسة المقبرة، توسعت فيها وصار فيها شبكة طرق تآكلت فيما بعد بسرعة كبيرة، وبعض القبور قد شيد فوقها بوابات حديدية لحراسة الجثث من الانتقام والسرقة ونبش الحيوانات ولحراسة أحلام الموتى أيضا، ربما في تلك العشرية الثانية نشبت حرب تواصلت سنوات عديدة كبر معها الصبية وشاخت  شواهد القبور وتحطم بعضها وغار بعضها الآخر في أعماق الأرض.

 كانت هناك حركة دائبة ليلاً ونهاراً تدخل سيارات محملة بالتوابيت المقمطة بالأعلام كانت تلك العشرية تغوص في الوحل والأرحام، واللون الرمادي صار لونا شاسعا يعسكر على بوابة المقبرة ويحرس عزلتها  وعطرها الأبنوسي، أبصرت  الكثير من طقوس الدفن الرتيبة وكنت التفت كل مرة لأبصر الدفانين والمدفون، وهم لائذون في تلك الشقوق الكبيرة التي كنت أتخيلها شقوقاً كبيرة تنهض من الأرض لتبتلع الجميع ثم تغط في الأرض وتغوص في وحل لزج جدا، وحين يرحل الجميع كنت أبصر حلقات متقاطعة تتداخل فيها شبكة من الأسماء والأمكنة كلها تغرق في بحر من الخطوات التي تتوقف رويداً رويداً، ثم يهبط صخب الحياة ويختفي في بركة الأسماء التي غطست في المقبرة.

“الاسم الثالث لعام 1990”

في العشرية الثالثة شيدت قناطر حجرية فوق أكتاف الوديان وأعيد فيها إكساء الطرق بالأسفلت وتداخلت حلقات الزمان مع بعضها وتشعبت الأسماء، ونمت الأشجار فوق بعض القبور. كنت في كل يوم أخصص ثلاث ساعات لإعادة اكتشاف المقبرة وخلال تجوالي كنت أسمع دوماً تنويمات الأمهات تحرس القبور رغم غيابهن الطويل عن زيارة المقبرة كانت التنويمات تشق العزلة وتعيد حراثة الصمت وتقشر الأيام والليالي والفصول المتعاقبة على القبور كانت المقبرة تغطس فيها في كل ليلة في بحيرة الأسماء وتنعكس صورتها في تلك الأعماق الوحشية الصاخبة وهناك كانت أعناق الراقدين تشرئب كل ليلة وتنهض من شقوقها الأرضية وتتجول في تلك البحيرة التي تحولت فيما بعد إلى موشور عملاق تنعكس فيه، صور، ووجوه،وأسماء، وأخاديد وخواتم، وشرفات حجرية من الفرش الموصلي، وخوذ مثقوبة، تتدحرج بعيدا عن مسارات الحروب، هكذا انداحت ثلاث عشريات من زمني بعيدا عني وقريبا من الأرض ذات الشقوق والصدوع، لتترنح بحيرة زمني الموشورية وتتوارى وهي تتفتت في جريان الوجوه والأسماء، لقد تابعت جميع  شواهد القبور المنحوتة على الفَرشّ الموصلي وكان من بينها شواهد احتفظت لنفسها بالعتاقة وبقيت سيرة أصحابها تقطر في رأسي كل ليلة بصمت عابرة مسافة الوهم الحياتي.

(هنا يرقد أسد الحروب المنسية: الآس بن خالد  ولد عام 1947)

( قبر المظلومة: تنويمة أحمد علي سليلة الأنهار والبحيرات الساكنة   )

( قبر الغريب القادم من شرفة الحروب  توفي عام 1943)

(الشهيد “مجهول”  لكنه كان يحمل الرقم – 153- أثناء اشتعال الحرب الثانية)

(هنا يرقد قتيل الليل والأخاديد السفلية عاش(30) عاما مترعة بالخطوات الحافية )

(هذا قبر الشاعر عبد الباقي العمري الملقب “بالأخرس” دون تاريخ لأن الشعراء يُحلّقونَ في بحيرات لا زمنية خارج  مدارات الرياح  )

(الشهيد: مروان نزار جرت سيرته في الهجير والظلام لتقتلع أسماء القتلة الكبار )

 

أغلقت الروزنامة  واستسلمت للنوم العميق بعد أن أنهيت يوميات حارس الأسماء  بقيت أياما طويلة بعدها والأسماء تتبعثر وتتداخل الحروف في موشور زمني حاولت مرارا أن ابعد رأسي عن هذه التداعيات العاصفة ؛ لكن لم افلح بقيت الأسماء متبوعة بالوجوه تمطر في مخيلتي مصحوبة بالتنويمات والبكاء الخافت وصخب الحياة، مرت أيام طويلة حتى استطعت مواصلة قراءة روزنامة الموتى كان التطابق الكبير بين إحساسي الطفولي بان الموت يعني انبعاجاً مقلوباً وبين اسم الحارس الثالث للمقبرة حين اختار أن يسمي نفسه حارس الانبعاج، يا ترى أي فكرة كانت تجول في خاطره وأي إحساس قاده مثلي ليختار اسم الانبعاج ؟ وكيف تطابق إحساسه مع إحساسي هل هو فعل  الموت والزمن وجريانه السرمدي في مخيلاتنا؟ هل هو الأثر الناتج عن  شكل القبر وهو يتحول لانبعاج لكنه انبعاج مقلوب ؟ شعرت بصلة تربطني بهذا الحارس مثل خيط المشيمة المغسول بالأدمة البشرية وربما يكون الحارس الأول هو جد الحارس الثالث، خاصة أن غياب الاسم الثلاثي جعلني أحاول أن اثبت أن هؤلاء الحراس الثلاثة هم  الجد، والأب، والابن، فيكون تسلسل الألقاب هو الاسم الثلاثي للحراس أو أنهم جميعا حارس واحد، كانت فكرة حراسة الموتى تدفعه إلى تخيل أن الموت هو غياب الوجه ثم يتبعه غياب الاسم ثم يتشكل الانبعاج المقلوب من خلال شكل القبر وسيرة حارس الانبعاج كانت رغم قصرها تتطابق بشكل كبير مع مشاهداتي واستشعاري للمقبرة وسكانها إذ إنه دشن أول نص له في روزنامة الموتى بهذا الشكل ودون أي اقتباس.

“الانبعاج الأول لعام 2000”

في كل شهر من كل عام وفي اليوم الرابع من كل شهر كانت هناك امرأة تلبس عباءة بيضاء تدخل المقبرة في ساعات الظهيرة الأولى وتسير بمحاذاة القبور والسياج والرمادي المتهدم وهي تنادي بصوت مرتفع:

                      “ولدي وجه نسيت النجوم أن تحرثه يوم ولادته فصار فوق سقف الموت ولدي معلق بين أجمات الصبر والغياب فنهشته الحروب وصار رقما فلكيا في سلسال صناع الخوذ والبزات العسكرية لكل النساء قبور تأوي إليها الأمهات إلا أنا  أيها الاسم المحفور على شاهدة  قلبي أين أنت أيها المبعثر بين الحروب ونزوات المياه ياوجها غسلته مياه الأرحام وخضرة الأبنوس هاهي صرخات الأرحام المتشققة تيبست ولم تحضر بعد ياوجها يتناثر في صدى التنويمات وأحلام القابلات هاهي القيعان والشقوق والصدوع تناديك، اترك رحالك الغائرة في زحمة الأفول ياولداً  بقي دون قبر ووجه  يجمع حروفه.. ها أنا أجمع لك الأصوات ودفاترك الملونة  لتحط فيها مثل مسافر أنهكته الخطوات وتعاقب الفصول..تعال تعال فلكل النساء قبور تُدفنُ فيها أرحامها إلا أنا، بقيت وحيدة مثل خطوة مبتورة وبقيت انبعاجا يحتاج للردم، ولن يردمه عويل الحروب وخرابها الفاحش، ولن أُردم يوما إلا بك تعال تعال فقابلتك المسنة لا تزال تنتظر صوتك، ولايهمها إن كان في صدى الموشور حتى،أو صدى الأرحام وخرائبها وريح الأبنوس”

 “الانبعاج الثاني لعام 2010″

صار البرد يتسرب إلى عظامي بشكل متواصل ويكتسح قوتي وطاقتي على التحمل وحدث أن مرضتُ في ذلك اليوم الشتائي القارص  وكنت مصرا على الحضور إلى المقبرة للقيام بمهمة الحراسة المعتادة أخذت ارتجف والحمى تلفح جسمي دون رحمة فدخلت في مخفر الحراسة وألقيت بنفسي على الكرسي والتحفت بغطاء سميك ولم اشعر إلا وأنا أدخل بوابة من بوابات النعاس فإذا بي أدخل مقبرة الحراس التي خلف مخفر الحراسة فوجدت  حارس الوجوه وحارس الأسماء يجلسان بعضهما لبعض ويتسامران ثم رحبا بي وأجلساني بقربهما كانت الشمس تقترب من الأفول فإذا بضوء قمري يجتاح الجلسة مصحوبا بدفء يطوق جلستنا كان حارس الوجوه يبتسم بشكل خفيف بينما حارس الأسماء كان منهمكا بترتيب بعض الأحجار حول مكان الجلوس اقترب مني حارس الوجوه وقال لي بصوت منخفض أردت أن أخبرك أني نسيت  تدوين ملاحظة مهمة في روزنامة الموتى فقلت له أنا أسمعك جيدا ويمكن لي أن اكتبها نيابة عنك فقال كما تحب لكن أفضل أن تسمعها فقط دون أن تدونها فوافقت فأخذ يروي وقال:

في يوم صيفي عاصف بالقيظ دخلت شاحنة عسكرية كبيرة وتوقفت في الأرض الحكومية المخصصة للمجهولين وأبناء السبيل وترجل منها بعض الجنود وقاموا بإنزال أكياس بلاستيكية سوداء كبيرة وكانت تبلغ 13 عشر كيسا وشرعوا بفتح الأكياس السوداء وأخرجوا منها جثثاً مغلفة بأكياس بلاستيكية بيضاء شفافة كانت الأكياس مملوءة بسوائل تفوح رائحتها ولم اعرف طبيعة تلك المادة التي تحفظ الجثث لكن رائحتها كانت كريهة وانتشرت في أرجاء المقبرة بسرعة كبيرة وبعدها شرعت مجموعة من العمال التحقت بهم بحفر شق طولي كبير وتم إنزال

 الجثث السابحة في تلك المادة الحافظة ودفنها بذلك الشق الطولي كلها دفعة واحدة ثم ردم الشق الطولي وأهيل الكثير من التراب فوقها ثم ثبت لافتتة حديدية كتب عليها مدفن حكومي خاص بالأرقام (1578- 1709  – 15643- 124534- 980700- 786909- 56742- 76895- 656778- 778654- 877900- 76511 – 87555) ثم رحل الجنود وبقيت أنا قبالة ذلك الشق ساعة كاملة ثم حين حل المساء دخلت المخفر الخاص بالحارس وبقيت انظر إلى ذلك الشق الطولي فإذا بي أرى حلقة ضوئية من الأرقام تسبح في سائل لزج ثم تحولت الأرقام إلى  وجوه ثم تحولت  إلى أسماء ثم تلاشت في عتمة المساء.وبمجرد ما إن أكمل حارس الوجوه الحكاية نهض واختفى انتبهت لحارس الأسماء فإذا به يجلس في مكان حارس الوجوه ويقترب مني هامساً انه نسي أيضا تدوين ملاحظة في روزنامة الموتى ولابد لي أن اسمعها ؛ كي يخلي ذمته فقلت له أنا أسمعك فقال حارس الأسماء:

حين تسلمت مهمة حراسة هذه الأسماء كنت اسمع كلاما من بعض سكان هذه المدينة الكبار بالسن منهم خاصة أن تحت هذه المقبرة في الأصل ثمة أضواء كانت تظهر وتختفي بين مدة وأخرى فتطاير الخبر في المدينة وصار بعض الناس ينتظرون ظهور هذه الأضواء الغريبة الراقصة فوق هذه المساحة البكر من الأرض وبعد مدة  حدث أن اختفت الأضواء ولم تعد تظهر وصار يرى فيها انعكاس موشوري عملاق يحيط بالأرض هذه من كل أركانها ثم تتلون الأشعة المجتمعة في الموشور وتتشكل بحيرة بلورية من الوجوه والأسماء وتتراقص بخفة غريبة كاسرة الأشعة المنعكسة على الأرض والخارجة من عمق الموشور وهكذا حتى تلاشت واختفت في قرارة الأرض هذه ويقال أنها ستعاود الظهور بعد جوائح وانقلابات كونية.ثم توقف الحارس ونهض من مكانة وودعني وهو يبستم ثم اختفى من أمامي بلمح البصر بعد هذا شعرت أني انتبهت من غفلة النعاس واكتشفت أن الحمى ارتفعت كثيرا وحرارتي صارت جمرة تحرق أنفاسي حاولت النهوض لأستنشاق بعض الهواء خارج مخفر الحراسة  فتحت الباب  وتركته مفتوحا وأخذت أسير… وأسير.. فقط..

“الانبعاج الثالث”

منذ أن توليت حراسة هذه الثمار الراقدة في الانبعاجات كانت هناك رؤيا تراودني كل ليلة وتعيد تكرار نفسها وكنت أرى فيها أن الوجوه والأسماء والانبعاجات المقلوبة ووجوه القابلات وتقاطعات الأزمنة كلها تتحلل وتجري نحو موشور العالم الذي بقي متوهجا بالتفاصيل الحادة والعابسة وهي تلوذ بالعزلة وتنطفئ في قرارة الموشور العاكس وتترنح من خلفها الأسماء والعناوين وتتبعثر شواهد القبور، تناثرت بقايا تلك الصور يتبعها صخب الحياة  وأخذت تخفت رويداً رويداً وتقود خطواتها لائذة بالتضاؤل الكثيف وتندس في الشقوق والصدوع والنتوءات الصخرية والأخاديد السفلية..يحتشد الموشور العاكس الآن بالكثير من الصور التي صارت تتحلل وتندمج في أفق الكائنات وحيواتها الصاخبة، كانت الصور تتحلل بسرعة فادحة عابرة حدود الزمن الأرضي لتتجاوزه وتحلق في آماد سديمية بعيدة وتتوارى في الهناك الغاطس والغائر، كنت أعرف أني الوحيد في هذا التحلل العاصف بالأسماء والوجوه والحيوات الهاربة من صخب الحياة لتنطفئ في الشقوق وتسيل سيرتها وتندلق على أعتاب الأزمنة الموشورية الساكنة والمقلوبة في روزنامة الموتى…

بهذه الكلمات انتهت روزنامة الموتى. نهضت من مكاني وخرجت من المخفر لأستنشق بعض الهواء المنعش وأخذت أتذكر الأيام الأولى لي في هذه المقبرة وكيف تسارعت خطوات الزمن من حولي وتغير كل شيء كبر وشاخ كانت الأحوال تتغير وتتبدل  في الخارج وتنتهي حروب وتشتعل حروب أخرى وكانت حينها حرب كونية قد اشتعلت ولم تكن تحمل تلك الحرب اسما بعد.

بقيت رؤيا حارس الانبعاج  محلقة في رأسي وهي ترسم مسارات وحشية لهذه المقبرة وفي ذلك اليوم كان القصف الجوي عنيفا جدا وحدث أن وصلت لليوم الذي أٌغلقت فيه المقبرة وتوقفت سيرتها المتحركة لتتحطم معها القناطر الحجرية والشواهد المصنوعة من الفرش الموصلي الصقيل تلاشت في فضاء بين الأرض والسماء حين سقطت قنابل فراغية كثيرة على المقبرة وشتت تفاصيلها الآهلة بالطرق وأقفاص الحديد والخواتم والنباتات والتنويمات  والأسماء والوجوه وأصوات البكاء الذي مازال ينبعث في صدى الموشور العاكس لتلك الأزمنة المتجمدة  والتي تحولت إلى صورة جامدة أخذت تغرق في بحيرة الموشور.

كان القصف كثيفا في ذلك اليوم الجحيمي الهاطل بالصواريخ والقصف العشوائي العنيف واستبيحت فيه المدينة وسِيرَ الحفاة الراقدين في المقبرة أخذت اركض واركض بعيدا تاركا خلفي مساحة الانبعاج تلك، بقيت أركض حتى صرت على أعتاب الأحياء المجاورة للمقبرة وجلست أنظر إلى القصف الهاطل واسمع الأصوات التي يخلفها، كانت الحجارة والتراب يرتفعان نحو الأعلى القصيّ ويتداخلان بالغبار والهواء ثم تمتزج  الحجارة بشواهد القبور المحطمة وهي تتبعثر في كل مكان في الأعلى ثم تهبط على الأرض، كان القصف بصواريخ كثيرة انقلبت معه تربة المقبرة وتفتحت انبعاجات الأرض وتفتحت معه القبور بكل قوة واختلطت الأكفان البالية بالشواهد والفرش الموصلي والرخام الصقيل كانت الأصوات تنداح في رأسي وتتداخل والغبار يطوق المقبرة ؛ لكني استطعت أن أميز تلك التفاصيل وهي تمتزج ببعضها البعض. كنت واثقا أني شاهدت بحيرة الأسماء والوجوه والانبعاجات تخرج محلقة في الفضاء تتبعها الطرق التي ارتفعت بكليتها النيسمية ؛ لتقلب في الأعلى وتهبط على الأرض وتتهاوى وتتبعثر وتضيع معها مسارب الخطوات المحفورة  في أخاديد الأرض والوجوه،ارتفعت حدة القصف الهاطل على المقبرة، فتصاعدت معه آخر الأعماق الغاطسة في اللحود الأرضية، تصاعدت العظام  وهي تتهشم وتتكسر وتتحطم  واندس فيها البارود الأسود كاسيا سيرتها البيضاء بالسواد وتفتقت أوشام الزائر الأخير للوجوه والأسماء،  وعصفت أصوات الأنفجارات الكونية بسكان مقبرة التلفزيون ثم اختفت الطائرات وغاب أزيزها المفجع، ركضت راجعا إلى مكان القصف لأجده أرضا محروثة بالخراب والفراغ والتجاويف الموحشة، بقيت اركض حتى وصلت منتصف المقبرة كنت أسمع صوتا نازلا من الأعلى رفعت رأسي لأجد موشور العالم  الزجاجي العاكس بين الأرض والسماء محلقا في تلك الأعالي محملا بصورة كبيرة تنعكس فيها الأصوات والوجوه والأسماء وأصوات القابلات وتنويمات الأمهات الرابضة قرب مهود الأطفال،كانت الصورة تتوسع مثل بحيرة تفيض وتفيض وتتحلل فيها كل الخطوات  وشواهد القبور المنحوتة بالأسماء والعناوين، وصخب الحياة بقيت أنظر إلى بحيرة الموشور العاكسة وهي تُقلبُ الوجوه والصور. ثم تغوص وتسقط في قعر البحيرة وترتفع مكانها صور أخرى تتقلب وهي تمسك بجريان الأزمنة وتثبته بشكل صارم، وتترك الأمكنة تتحطم وتتهشم،لائذة بالغرق ثم تتوارى في فسحة سماوية تجري فيها الوجوه والأسماء، والصور، والتنويمات، دون أن تتحلل أو تتضاءل أحجامها المنعكسة في هجير الحروب.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون